فصل: تفسير الآيات (106- 111):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (106- 111):

قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ثم استأنف جوابهم بقوله: {قالوا ربنا} أيها المسبغ علينا نعمه {غلبت علينا شقوتنا} أي أهواؤنا التي قادتنا إلى سوء الأعمال اليت كانت سببًا ظاهرًا للشقاوة.
ولما كان التقدير: فكنا معها كالمأسورين، تؤزنا إليها الشياطين أزًا، عطف عليه قوله: {وكنا} أي بما جبلنا عليه {قومًا ضالين} في ذلك عن الهدى، أقوياء في موجبات الشقوة، فكان سببًا للضلال عن طريق السعادة.
ولما تضمن هذا الإقرار الاعتذار، وكان ذلك ربما سوغ الخلاص، وصلوا به قولهم: {ربنا} يا من عودنا بالإحسان {أخرجنا منها} أي النار تفضلًا منك على عادة فضلك، وردّنا إلى دار الدنيا لنعمل ما يرضيك {فإن عدنا} إلى مثل تلك الضلالات {فإنا ظالمون} فاستؤنف جوابهم بأن {قال} لهم كما يقال للكلب: {اخسئوا} أي انزجروا زجر الكلب وانطردوا عن مخاطبتي ساكتين سكوت هوان {فيها} أي النار {ولا تكلمون} أصلًا، فإنكم لستم أهلًا لمخاطبتي، لأنكم لم تزالوا متصفين بالظلم، ومنه سؤالكم هذا المفهم لأن اتصافكم به لا يكون إلا على تقدير عودكم بعد إخراجكم.
ولما كانت الشماتة أسر السرور للشامت وأخزى الخزي للمشموت به، علل ذلك بقوله: {إنه كان} أي كونًا ثابتًا {فريق} أي ناس استضعفتموهم فهان عليكم فراقهم لكم وفراقكم لهم وظننتم أنكم تفرقون شملهم {من عبادي} أي الذين هم أهل للإضافة إلى جنابي لخلوصهم عن الأهواء {يقولون} مع الاستمرار: {ربنا} أيها المحسن إلينا بالخلق والرزق {آمنا} أي أوقعنا الإيمان بجميع ما جاءتنا به الرسل لوجوب ذلك علينا لأمرك لنا به.
ولما كان عظم المقام موجبًا لتقصير العابد، وكان الاعتراف بالتقصير جابرًا له قالوا: {فاغفر لنا} أي استر بسبب إيماننا عيوبنا التي كان تقصيرنا بها {وارحمنا} أي افعل بنا فعل الراحم من الخير الذي هو على صورة الحنو والشفقة والعطف.
ولما كان التقدير: فأنت خير الغافرين، فإنك إذا سترت ذنبًا أنسيته لكل أحد حتى للحفظة، عطف عليه قوله: {وأنت خير الراحمين} لأنك تخلص مَنْ رحمته من كل شقاء وهوان، بإخلاص الإيمان، والخلاص من كل كفران.
ولما تسبب عن إيمان هؤلاء زيادة كفران أولئك قال: {فاتخذتموهم سخريًا} أي موضعًا للهزء والتلهي والخدمة لكم، قال الشهاب السمين في إعرابه: والسخرة- بالضم: الاستخدام، وسخريا- بالضم منها والسخر بدون هاء- الهزء والمكسور منه يعني على القراءتين وفي النسبة دلالة على زيادة قوة في الفعل كالخصوصية والعبودية {حتى أنسوكم} أي لأنهم كانوا السبب في ذلك بتشاغلكم بالاستهزاء بهم واستبعادهم {ذكري} أي أن تذكروني فتخافوني بإقبالكم بكليتكم على ذلك منهم.
ولما كان التقدير: فتركتموه فلم تراقبوني في أوليائي، عطف عليه قوله: {وكنتم} أي بأخلاق هي كالجبلة {منهم} أي خاصة {تضحكون} كأنهم لما صرفوا قواهم إلى الاستهزاء بهم عد ضحكهم من غيرهم عدمًا.
ولما تشوفت النفس بعد العلم بما فعل بأعدائهم إلى جزائهم، قال: {إني جزيتهم} أي مقابلة على عملهم {اليوم بما صبروا} أي على عبادتي، ولم يشغلهم عنها تألمهم بأذاكم كما كما شغلكم عنها التذاذكم بإهانتهم، فوزَهم دونكم، وهو معنى قوله: {أنهم هم} أي خاصة {الفائزون} أي الناجون الظافرون بالخير بعد الإشراف على الهلكة، وغير العبارة لإفادة الاختصاص والوضوح والرسوخ، وكسر الهمزة حمزة والكسائي على الاستئناف. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)}.
اعلم أنه سبحانه لما قال: {أَلَمْ تَكُنْ ءاياتى تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ} [المؤمنون: 105] ذكروا ما يجري مجرى الجواب عنه وهو من وجهين: الأول: قولهم: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
قال صاحب الكشاف: غلبت علينا ملكتنا من قولك غلبني فلان على كذا إذا أخذه منك، والشقاوة سوء العاقبة، قرىء: شقوتنا و شقاوتنا بفتح الشين وكسرها فيهما، قال أبو مسلم: الشقوة من الشقاء كجرية الماء، والمصدر الجري، وقد يجيء لفظ فعله، والمراد به الهيئة والحال، فيقول جلسة حسنة وركبة وقعدة وذلك من الهيئة، وتقول عاش فلان عيشة طيبة ومات ميتة كريمة، وهذا هو الحال والهيئة، فعلى هذا المراد من الشقوة حال الشقاء.
المسألة الثانية:
قال الجبائي: المراد أن طلبنا اللذات المحرمة وحرصنا على العمل القبيح ساقنا إلى هذه الشقاوة، فأطلق اسم المسبب على السبب.
وليس هذا باعتذار منهم لعلمهم بأن لا عذر لهم فيه، ولكنه اعتراف بقيام حجة الله تعالى عليهم في سوء صنيعهم، قلنا إنك حملت الشقاوة على طلب تلك اللذات المحرمة، وطلب تلك اللذات حصل باختيارهم أو لا باختيارهم فإن حصل باختيارهم فذلك الاختيار محدث، فإن استغنى عن المؤثر فلم لا يجوز في كل الحوادث ذلك، وحينئذ ينسد عليك باب إثبات الصانع، وإن افتقر إلى محدث فمحدثه إما العبد أو الله تعالى؟ فإن كان هو العبد فذلك باطل لوجوه: أحدها: أن قدرة العبد صالحة للفعل والترك، فإن توقف صدور تلك الإرادة عنها إلى مرجح آخر، عاد الكلام فيه ولزم التسلسل، وإن لم يتوقف على المرجح فقد جوزت رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح، وذلك يسد باب إثبات الصانع وثانيها: أن العبد لا يعلم كمية تلك الأفعال ولا كيفيتها، والجاهل بالشيء لا يكون محدثًا له، وإلا لبطلت دلالة الإحكام والإتقان على العلم والثاني: أن أحدًا في الدنيا لا يرضى بأن يختار الجهل، بل لا يقصد إلا تحصيل العلم، فالكافر ما قصد إلا تحصيل العلم، فإن كان الموجد لفعله هو فوجب أن لا يحصل إلا ما قصد إيقاعه، لكنه لم يقصد إلا العلم فكيف حصل الجهل؟ فثبت أن الموجد للدواعي والبواعث هو الله تعالى، ثم إن الداعية إن كانت سائقة إلى الخير كانت سعادة، وإن كانت سائقة إلى الشر كانت شقاوة الوجه الثاني: لهم في الجواب قولهم: {وَكُنَّا قَوْمًا ضَالّينَ} وهذا الضلال الذي جعلوه كالعلة في إقدامهم على التكذيب إن كان هو نفس ذلك التكذيب لزم تعليل الشيء بنفسه، ولما بطل ذلك لم يبق إلا أن يكون ذلك الضلال عبارة عن شيء آخر ترتب عليه فعلهم وما ذاك إلا خلق الداعي إلى الضلال، ثم إن القوم لما أوردوا هذين العذرين، قال لهم سبحانه: {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ} وهذا هو صريح قولنا في أن المناظرة مع الله تعالى غير جائزة، بل لا يسأل عما يفعل.
قال القاضي في قوله: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} دلالة على أنه لا عذر لهم إلا الاعتراف، فلو كان كفرهم من خلقه تعالى وبإرادته وعلموا ذلك لكانوا بأن يذكروا ذلك أجدر وإلى العذر أقرب، فنقول قد بينا أن الذي ذكروه ليس إلا ذلك ولكنهم مقرون أن لا عذر لهم فلا جرم، قال لهم: {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ}.
أما قوله: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظالمون} فالمعنى: أخرجنا من هذه الدار إلى دار الدنيا، فإن عدنا إلى الأعمال السيئة فإنا ظالمون، فإن قيل كيف يجوز أن يطلبوا ذلك وقد علموا أن عقابهم دائم؟ قلنا يجوز أن يلحقهم السهو عن ذلك في أحوال شدة العذاب فيسألون الرجعة.
ويحتمل أن يكون مع علمهم بذلك يسألون ذلك على وجه الغوث والاسترواح.
أما قوله: {اخسئوا فيها} فالمعنى ذلوا فيها وانزجروا كما يزجر الكلاب إذا زجرت، يقال: خسأ الكلب وخسأ بنفسه.
أما قوله: {وَلاَ تُكَلّمُونِ} فليس هذا نهيًا لأنه لا تكليف في الآخرة، بل المراد لا تكلمون في رفع العذاب فإنه لا يرفع ولا يخفف، قيل هو آخر كلام يتكلمون به ثم لا كلام بعد ذلك إلا الشهيق والزفير، والعواء كعواء الكلاب، لا يفهمون ولا يفهمون.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن لهم ست دعوات، إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا} [السجدة: 12] فيجابون {حَقَّ القول مِنْى} [السجدة: 13] فينادون ألف سنة ثانية {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين} [غافر: 11] فيجابون {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} [غافر: 12] فينادون ألف ثالثة {يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] فيجابون {إِنَّكُمْ ماكثون} [الزخرف: 77] فينادون ألفًا رابعة {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا} فيجابون {أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ} [إبراهيم: 44] فينادون ألفًا خامسة {أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صالحا} [فاطر: 37] فيجابون {أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ} [فاطر: 37] فينادون ألفًا سادسة {رَبّ ارجعون} [المؤمنون: 99] فيجابون {اخسئوا فيها} ثم بين سبحانه وتعالى، أن فزعهم بأمر يتصل بالمؤمنين، وهو قوله: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الرحمين فاتخذتموهم سِخْرِيًّا} فوصف تعالى أحد ما لأجه عذبوا وبعدوا من الخير، وهو ما عاملوا به المؤمنين.
وفي حرف أبي {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ} بالفتح بمعنى لأنه.
وقرأ نافع وأهل المدينة وأهل الكوفة عن عاصم بضم السين في جميع القرآن، وقرأ الباقون بالكسر هاهنا وفي ص قال الخليل وسيبويه هما لغتان كدرى ودرى.
وقال الكسائي والفراء الكسر بمعنى الاستهزاء بالقول، والضم بمعنى السخرية.
قال مقاتل: إن رؤساء قريش مثل أبي جهل وعتبة وأبي بن خلف كانوا يستهزئون بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويضحكون بالفقراء منهم مثل بلال وخباب وعمار وصهيب، والمعنى اتخذتموهم هزوًا حتى أنسوكم بتشاغلكم بهم على تلك الصفة ذكرى وأكد ذلك بقوله: {وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} ثم بين سبحانه ما يقتضي فيهم الأسف والحسرة بأن وصف ما جازى به أولئك المؤمنين فقال: {إِنِى جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صَبَرُواْ أَنَّهُمْ هُمُ الفائزون} قرأ حمزة والكسائي {إنهم} بالكسر والباقون بالفتح فالكسر استئناف أي قد فازوا حيث صبروا فجوزوا بصبرهم أحسن الجزاء، والفتح على أنه في موضع المفعول الثاني من جزيت، ويجوز أن يكون نصبًا بإضمار الخافض أي جزيتهم الجزاء الوافر لأنهم هم الفائزون. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله: {قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا}.
فيه وجهان:
أحدهما: الهوى.
الثاني: حسن الظن بالنفس وسوء الظن بالخلق.
{قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا}.
فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه اصغروا والخاسىء الصاغر، قاله الحسن، والسدي.
الثاني: أن الخاسىء الساكت الذي لا يتكلم، قاله قتادة.
الثالث: ابعدوا بعد الكلب، قاله ابن عيسى.
{وَلاَ تُكَلِّمُونِ} فيه وجهان:
أحدهما: لا تكلمون في دفع العذاب عنكم.
الثاني: أنهم زجروا عن الكلام، غضبًا عليهم، قاله الحسن، فهو آخر كلام يتكلم به أهل النار.
{فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} قرأ بضم السين نافع، وحمزة، والكسائي، وقرأ الباقون بكسرها. واختلف في الضم والكسر على قولين.
أحدهما: أنهما لغتان، ومعناهما سواء وهما من الهزء.
الثاني: أنها بالضم من السُخرة والاستعباد وبالكسر من السخرية والاستهزاء. اهـ.

.قال ابن عطية:

وأخبر عنهم تعالى أنهم إذا سمعوا هذا التقرير أذعنوا وأقروا على أنفسهم وسلموا بقولهم {غلبت علينا شقوتنا وكنا قومًا ضالين} وقرأ الجمهور {شِقوتنا} بكسر الشين دون ألف بعد القاف وهي قراءة الحرميين، وقرأ الحمزة والكسائي {شَقاوتنا} بفتح الشين وألف بعد القاف وهي قراءة ابن مسعود، وخير عاصم في الوجهين وهما مصدران من شقي يشقى، ثم تدرجوا من الإقرار إلى الرغبة والتضرع وذلك أنهم ذلوا لأن الإقرار بالذنب اعتذار وتنصل، فوقع جواب رغبتهم بحسب ما حتمه الله من عذابهم بقوله تعالى: {اخسؤوا فيها ولا تكلمون} وجاء {ولا تكلمون} بلفظ نهي وهم لا يستطيعون الكلام على ما روي فهذا مبالغة في المنع، ويقال إن هذه الكلمة إذا سمعوها يئسوا، وحكى الطبري حديثًا طويلًا في مقاولة تكون بين الكفار وبين مالك خازن النار، ثم بينهم وبين ربهم وآخرها هذه الكلمة {اخسؤوا فيها} قال فتنطبق عليهم جهنم ويقع اليأس ويبقون ينبح بعضهم في وجه بعض.
قال الفقيه الإمام القاضي: واختصرت هذا الحديث لعدم صحته لكن معناه صحيح عافانا الله من ناره بمنه، وقوله: {اخسئوا} زجر يستعمل في زجر الكلاب، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لابن صياد اخسأ فلن تعدو قدرك.
{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109)}.
قرأ هارون {أنه كان} بفتح الألف وهي قراءة أبي ابن كعب، وروي أن في مصحف أبي بن كعب {أن كان} وهذا كله متعاضد، وفي قراءة ابن مسعود {تكلمون كان فريق} بغير {إنه} وهذه تعضد كسر الألف من {إنه} لأنها استئناف، وهذه الهاء هي مبهمة ضمير للأمر، والكوفيون يسمونها المجهولة وهي عبارة فاسدة، وهذه الآية كلها مما يقال للكفار على جهة التوبيخ، و الفريق المشار إليه كل مستضعف من المؤمنين يتفق أن تكون حاله مع كفار في مثل هذه الحال، ونزلت الآية في كفار قريش مع صهيب وبلال وعمار ونظرائهم ثم هي عامة فيمن جرى مجراهم قديمًا وبقية الدهر، وقرأ نافع وحمزة والكسائي {سُخريًا} بضم السين، وقرأ الباقون {سِخريًا} بكسرها، فقالت طائفة هما بمعنى واحد وذكر ذلك الطبري، وقال ذلك أبو زيد الأنصاري إنهما بمعنى الهزء، وقال أبو عبيدة وغيره: إن ضم السين من السخرة والتخديم وكسر السين من السخر وهو الاستهزاء ومنه قول الأعشى: البسيط:
إني أتاني حديث لا أسرُّ به ** من علو لا كذب ولا سخر

قال أبو علي قراءة كسر السين أوجه لأنه بمعنى الاستهزاء والكسر فيه أكثر وهو أليق بالآية ألا ترى إلى قوله: {وكنتم منهم تضحكون}.
قال القاضي أبو محمد: ألا ترى إلى إجماع القراء على ضم السين في قوله: {لتخذ بعضهم بعضًا سخريًا} [الزخرف: 32] لما تخلص الأمر للتخديم، قال يونس إذا أريد التخديم فضم السين لا غير، وإذا أريد تخلص الاستهزاء فالضم والكسر، وقرأ أصحاب عبد الله والأعرج وابن أبي إسحاق كل ما في القرآن بضم السين، وقرأ الحسن وأبو عمرو كل ما في القرآن بالكسر إلا التي في الزخرف فإنهما ضما السين كما فعل الناس لأنها من التخديم، وأضاف الإنسان إلى الفريق من حيث كان بسببهم والمعنى أن اشتغالهم بالهزء بهؤلاء أنساهم ما ينفعهم، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر {أنهم هم الفائزون} بفتح الألف، ف {جزيتهم} عامل في {أن}، ويجوز أن يعمل في مفعول محذوف ويكون التقدير لأنهم، وقرأ حمزة والكسائي وخارجة عن نافع {إنهم} بكسر الألف فالمفعول الثاني ل جزية مقدر تقديره الجنة أو الرضوان، و{الفائزون} المنتهون إلى غايتهم التي كانت أملهم، ومعنى الفوز النجاة من هلكة إلى نعمة. اهـ.