فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ (112)}.
قرأ الجمهور: {قال كم لبثتم} بصيغة الماضي فيتعين أن هذا القول يقع عند النفخ في الصور وحياة الأموات من الأرض، فالأظهر أن يكون هو جواب إذا في قوله فيما سبق {فإذا نفخ في الصور} [المؤمنون: 101].
والتقدير: قال الله لهم إذا نفخ في الصور.
كم لبثتم في الأرض عدد سنين.
وما بينهما اعتراضات نشأت بالتفريع والعطف والحال والمقاولات العارضة في خلال ذلك كما علمته مما تقدم في تفسير تلك الآي.
وليس من المناسب أن يكون هذا القول حاصلًا بعد دخول الكافرين النار، والمفسرون الذين حملوه على ذلك تكلفوا ما لا يناسب انتظام المعاني.
وقرأه ابن كثير وحمزة والكسائي {قل} بصيغة الأمر.
والخطاب للملَك الموكل بإحياء الأموات.
وجملة: {فسئل العادين} تفريع على جملة: {لبثنا يومًا أو بعض يوم} لما تضمنته من ترددهم في تقدير مدة لبثهم في الأرض.
وأرى في تفسير ذلك أنهم جاءوا في كلامهم بما كان معتادهم في حياتهم في الدنيا من عدم ضبط حساب السنين إذ كان علم موافقة السنين القمرية للسنين الشمسية تقوم به بنو كنانة الذين بيدهم النسيء ويلقبون بالنسَأة، قال الكناني:
ونحن الناسئون على معدّ ** شهور الحل نجعلها حراما

والمفسرون جعلوا المراد من العادّين الملائكة أو الناس الذين يتذكرون حساب مدة المكث.
ولكن القرطبي قال: أي سللِ الحُسَّاب الذين يعرفون ذلك فإنا نسيناه.
وقوله: {قال إن لبثتم إلا قليلًا} قرأه الجمهور كما قرأوا الذي قبله فهو حكاية للمحاورة فلذلك لم يعطف فعل {قال إن لبثتم إلا قليلًا} وهي طريقة حكاية المحاورات كما في قوله تعالى: {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} في سورة البقرة (30).
وقرأه ابن كثير وحمزة والكسائي بصيغة الأمر كالذي قبله.
والاستفهام عن عدد سنوات المكث في الأرض مستعمل في التنبيه ليظهر لهم خطؤهم إذ كانوا يزعمون أنهم إذا دفنوا في الأرض لا يخرجون منها.
وانتصب {عدد سنين} على التمييز ل {كم} الاستفهامية والتمييز إنما هو {سنين}.
وإضافة لفظ {عدد} إليه تأكيد لمضمون كم لأن كم اسم استفهام عن العدد فذكر لفظ {عدد} معها تأكيد لبعض مدلولها.
وجوابهم يقتضي أنهم تحققوا أنهم كانوا في الأرض وأنهم لم يتذكروا طول مدة مكثهم على تفاوت فيها.
والظاهر أن المراد بقولهم {يومًا أو بعض يوم} أنهم قدروا مدة مكثهم في باطن الأرض بنحو يوم من الأيام المعهودة لديهم في الدنيا كما دل عليه قوله تعالى في سورة الروم (55) {ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة} ولم يعرج المفسرون على تبيين المقصد من سؤالهم وإجابتهم عنه وتعقيبه بما يقرره في الظاهر.
والذي لاح لي في ذلك أن إيقافهم على ضلال اعتقادهم الماضي جيء به في قالب السؤال عن مدة مكثهم في الأرض كناية عن ثبوت خروجهم من الأرض أحياءً وهو ما كانوا ينكرونه، وكناية عن خطأ استدلالهم على إبطال البعث باستحالة رجوع الحياة إلى عظام ورفات.
وهي حالة لا تقتضي مدة قرن واحد فكيف وقد أعيدت إليهم الحياة بعد أن بقوا قرونًا كثيرة، فذلك أدل وأظهر في سعة القدرة الإلهية وأدخل في إبطال شبهتهم إذ قد تبين بطلانها فيما هو أكثر مما قدروه من علة استحالة عود الحياة إليهم.
وقد دل على هذا قوله في آخر الآية {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا ترجعون} [المؤمنون: 115] وقد ألجأهم الله إلى إظهار اعتقادهم قِصرَ المدة التي بقوها زيادة في تشويه خطإهم فإنهم لمّا أحسوا من أنفسهم أنهم صاروا أحياء كحياتهم الأولى وعاد لهم تفكيرهم القديم الذي ماتوا عليه، وكانوا يتوهمون أنهم إذا فنيت أجسادهم لا تعود إليهم الحياة أوهمهم كمالُ أجسادهم أنهم ما مكثوا في الأرض إلا زمنًا يسيرًا لا يتغير في مثله الهيكل الجثماني فبنوا على أصل شبهتهم الخاطئة خطأ آخر.
وأما قولهم: {فسئل العادين} فهو اعتراف بأنهم لم يضبطوا مدة مكثهم فأحالوا السائل على من يضبط ذلك من الذين يظنونهم لم يزالوا أحياء لأنهم حسبوا أنهم بعثوا والدنيا باقية وحسبوا أن السؤال على ظاهره فتبرأوا من عهدة عدم ضبط الجواب.
وأما رد الله عليهم بقوله: {إن لبثتم إلا قليلًا} فهو يؤذن بكلام محذوف على طريقة دلالة الاقتضاء، لأنهم قد لبثوا أكثر من يوم أو بعض يوم بكثير فكيف يجعل قليلًا، فتعين أن قوله: {إن لبثتم إلا قليلًا} لا يستقيم أن يكون جوابًا لكلامهم إلا بتقدير: قال بل لبثتم قرونًا، كما في قوله في الذي مر على قرية {فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثتَ قال لبثتُ يومًا أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام} [البقرة: 259].
ولذلك تعين أن يكون التقدير: قال بل لبثتم قرونًا، وإن لبثتم إلا قليلًا فيما عند الله {وإن يومًا عند ربك كألف سنة مما تعدون} [الحج: 47].
وقرينة ذلك ما تفيده لو من الامتناع في قوله: {لو أنكم كنتم تعلمون} أي لو كنتم تعلمون لعلمتم أنكم ما لبثتم إلا قليلًا، فيقتضي الامتناع أنهم ما علموا أنهم لبثوا قليلًا مع أن صريح جوابهم يقتضي أنهم علموا لبثًا قليلًا، فالجمع بين تعارض مقتضى جوابهم ومقتضى الرد عليهم إنما يكون باختلاف النسبة في قلة مدة المكث إذا نسبت إلى ما يراعى فيها، فهي إذا نسبت إلى شبهتهم في إحالة البعث كانت طويلة وقد وقع البعث بعدها فهذا خطأ منهم، وهي إذا نسبت إلى ما يترقبهم من مدة العذاب كانت مدة قليلة وهذا إرهاب لهم. اهـ.

.قال الشعراوي:

{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ (112)}.
لبث: مكث وأقام، فالمعنى: ما عدد السنين التي ظللتموها في الأرض، لكن لماذا هذا السؤال؟
قالوا: لأن الذي شغلكم عن دين يضمن لكم ميعادًا خالدًا، ونعيمًا باقيًا هو الدنيا التي صرفتكم بزينتها وزخرفها وشهواتها- وعلى فرض أنكم تمتعتم بهذا في الدنيا- وعلى فرض أنكم تمتعتم بهذا في الدنيا- فهل يُقارن بما أُعِدَّ للمؤمنين في الآخرة من النعيم المقيم الذي لا يفوتهم ولا يفوتونه؟
والقيامة حين تقوم ستقوم على قوم ماتوا في ساعتها، فيكون لبثهم قريبًا، وعلى أناس ماتوا من أيام آدم فيكون لبثهم طويلًا، إذن: فاللبث في الأرض مقول بالتشكيك كما يقولون، لكن هل يدرك الأموات المدة التي لبثوها في الأرض؟ معلوم أنهم لا يدركون الزمن؛ لأن إدراك الزمن إنما يتأتَّى بمشاهدة الأحداث، فالميت لا يشعر بالزمن؛ لأنه لا يعيش أحداثًا، كالنائم لا يدري المدة التي نامها، وكُلُّ مَنْ سُئِلَ هذا السؤال قال: {يَوْمًا أَوْ بَعْضَ} [البقرة: 259].
قالها العزير الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه، وقالها أهل الكهف الذين أنامهم الله ثلاثمائة سنة وتسعًا؛ لأن هذه هي أطول مدة يمكن أن يتخيلها الإنسان لنومه، ولا يستطيع النائم تحديد ذلك بدقة؛ لأن الزمن ابْنُ الحدث، فإن انعدم الحدث إنعدم الزمن.
لذلك يقول تعالى عَمَّنْ ماتوا حتى من أيام آدم عليه السلام: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46].
وكذلك يقول هؤلاء أيضًا في الإجابة على هذا السؤال: {قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ}.
أي: أصحاب العدِّ الذين يمكنهم العدُّ والحساب؛ لأننا لم نكن في وعينا لنعُد كما لبثنا، والمراد بالعادِّين هم الملائكة الذين يعدُّون الأيام ويحسبونها.
{قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)}.
إنْ: بمعنى ما، يعني: ما لبثتم إلا قليلًا، فمهما قدَّرْتم من طول الحياة حتى مَنْ مات منذ أيام آدم عليه السلام، فسيكون قليلًا بالمقارنة بالزمن الذي ينتظركم في الجزاء الأخروي، فما لبثتموه في الدنيا لا يُقَاس بعذاب الآخرة الممتد الباقي، هذا {لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 114] تعلمون طول ما تصيرون إليه من العذاب الخالد المقيم. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ (112)}.
أخرج ابن أبي حاتم عن أيفع بن عبد الكلاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار قال لأهل الجنة {كم لبثتم في الأرض عدد سنين} قالوا: {لبثنا يومًا أو بعض يوم} قال: لنعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم، رحمتي ورضواني وجنتي اسكنوا فيها خالدين مخلدين، ثم يقول: يا أهل النار {كم لبثتم في الأرض عدد سنين} قالوا {لبثنا يومًا أو بعض يوم} فيقول: بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم. ناري وسخطي امكثوا فيها خالدين» وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {فاسأل العادين} قال: الحساب.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد {فاسأل العادين} قال: الملائكة. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ}: قرأ الأخَوان {قل كم لَبِثْتُمْ}. {قُلْ إنْ لبثتم} بالأمر في الموضعين، وابن كثير كالأخوين في الأول فقط، والباقون {قال} في الموضعين، على الإِخبار عن الله أو المَلَك. والفعلان مرسومان بغيرِ ألفٍ في مصاحفِ الكوفة، وبألفٍ في مصاحفِ مكةَ والمدينةِ والشامِ والبصرةِ، فحمزةُ والكسائيُّ وافقا مصاحفَ الكوفة وخالفها عاصمٌ، أو وافقها على تقديرِ حَذْفِ الألفِ من الرسم وإرادتها. وابن كثير وافق في الثاني مصاحفَ مكة، وفي الأولِ غيرَها، أو أتاها على تقديرِ حَذْفِ الألف وإرادتِها. وأمَّا الباقون فوافقوا مصاحفَهم في الأول والثاني.
و{كم} في موضعِ نصبٍ على ظرفِ الزمانِ أي: كم سنة. و{عددَ} بدلٌ مِنْ {كم} قاله أبو البقاء: وقال غيره: إن {عد سنين} تمييز ل {كم} وهذا هو الصحيحُ.
وقرأ الأعمش والمفضل عن عاصم {عَدَدًا} منونًا. وفيه أوجهٌ، أحدُها: أَنْ يكونَ {عددًا} مصدرًا أُقيم مُقام الاسمِ، فهو نعتٌ تقدَّم على المنعوت. قاله صاحب اللوامح. يعني أن الأصل: {سنين عددًا} أي: معدودة، لكنه يُلتزم تقديمُ النعتِ على المنعوتِ، فصوابُه أن يقول: فانتصبَ حالًا. هذا مذهبُ البصريين. والثاني: أنَّ {لَبِثْتُم} بمعنى عَدَدْتُم. فيكون نصبُ {عددًا} على المصدر و{سنين} بدلٌ منه. وقال صاحب اللوامح أيضًا: وفيه بُعْدٌ؛ لعدم دلالة اللُّبث على العدد. والثالث: أنَّ {عددًا} تمييزٌ ل {كم} و{سنين} بدلٌ منه.
قوله: {العآدين}: جمعُ عادٍّ من العَدَد. وقرأ الحسن والكسائي في روايةٍ بتخفيفِ الدالِ جمعَ عادٍ اسم فاعل مِنْ عدا أي: الظَّلَمَة. وقال أبو البقاء: وقرئ بالتخفيفِ على معنى العادِيْن المتقدِّمين كقولك: وهذه بِئْرٌ عادية، أي: سَلْ من تقدَّمَنا. وحَذَفَ إحدى ياءَي النسَب كما قالوا الأشعرون وحَذَفَ الأخرى لالتقاء الساكنين. قلت: المَحْذوفُ أولًا مِن الياء الثانية لأنها المتحركةُ، وبحذفِها يلتقي ساكنان. ويؤيِّد ما ذكره أبو البقاء ما ذكره الزمخشري فقال: وقرئ {العادِيِّين} أي: القدماء المُعَمَّرين فإنهم يستقصرونها فكيف بمن دونهم؟. وقال ابن خالويه: ولغةٌ أخرى {العاديِّين} يعني بياءٍ مشددة جمع عادِيَّة بمعنى القدماء.
قوله: {لَّوْ أَنَّكُمْ}: جوابُها محذوفٌ، تقديرُه: لو كنتم تعلمونَ مقدارَ لُبْثِكم من الطول لَمَا أَجَبْتُم بهذه المدة. وانتصب {قليلًا} على النعتِ لزمنٍ محذوفٍ أو لمصدرٍ محذوف أي: إلاَّ زمنًا قليلًا أو إلاَّ لُبْثًا قليلًا. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ (112)}.
عددُ سنين الأشياء- وإن كانت كثيرة- فقد تقصر أو تقل بالإضافة إلى ما يوفي ويُرْبِي عليها، كذلك مدة مقامهم تحت الأرض؛ إن كانوا في الراحة فقد تقل بالإضافة إلى الراحات التي يلقونها في القيامة، وإن كانت شدائد فتتلاشى في جنب ما يرونه. ذلك اليوم من أليم تلك العقوبات المتوالية. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ}.
هذه الآية الكريمة تدل على أن الكفار يزعمون يوم القيامة أنهم ما لبثوا إلاّ يومًا أو بعض يوم وقد جاءت آيات أُخر يفهم منها خلاف ذلك كقوله تعالى: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا} وقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ}.
والجواب عن هذا بما دل عليه القرآن؛ وذلك أن بعضهم يقول: لبثنا يومًا أو بعض يوم، وبعضهم يقول: لبثنا ساعة، وبعضهم يقول: لبثنا عشرا.
ووجه دلالة القرآن على هذا أنه بَيَّن أن أقواهم إدراكًا وأرجحهم عقلًا وأمثلهم طريقة هو من يقول أن مدة لبثهم يومًا وذلك قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا} فدل ذلك على اختلاف أقوالهم في مدة لبثهم والعلم عند الله. اهـ.