فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ}.
الحياة والموت وحتمية البعث:
هناك قضيتان.. قضية الخلق وقضية البعث.
وإذا كان الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر، لا ينكرون الخلق لأنه أمر واقع فعلا، وأنهم هم أنفسهم بعض هذا الخلق- فهلّا سألوا أنفسهم هذا السؤال: لم كان هذا الخلق؟ أو لما ذا خلقنا؟.
وجواب واحد لا غير، هو الذي يجاب به على هذا السؤال، وهو أن هذا الخلق لم يكن لهوا وعبثا، وأنهم إنما خلقوا عن علم، وحكمة وتقدير، لأن هذا الخلق ينطق عن حكمة بالغة، وقدرة قادرة على كل شىء، وعلم محيط بكل شىء.. ومن كانت تلك صفاته لا يكون منه لهو أو عبث.. ثم إن هذا النظام الدقيق المحكم، الممسك بكل ذرة من ذرات الوجود، أيدخل عليه شىء من اللهو والعبث؟ إنّ اللاهي العابث، لا يتقيد بنظام، ولا يجرى أعماله على توافق وترابط، وانسجام، بل يفعل ما تمليه عليه نزواته، وما تصوره له أهواؤه! وإذن فالناس لم يخلقوا عبثا، ولم تجىء بهم الصّدفة، كما يقول بذلك الماديّون والملحدون، وإنما هم غراس غارس حكيم، عليم، قادر، مدبر.
هذه قضية.. لابد من التسليم بها، وفى إنكارها مكابرة في الحق، ومجادلة بالباطل.. ومن مقتضى التسليم بهذا أن يسلّم أيضا ببعث الإنسان بعد موته، أو بمعنى آخر، امتداد حياة الإنسان، وانتقاله من دار إلى دار، ومن عالم إلى عالم، أشبه في هذا بانتقاله من الطفولة إلى الصبا، أو الشباب، أو غير هذا من مراحل العمر.
ذلك أن الإنسان هو خليفة اللّه على هذه الأرض.. وهو سيد هذا الكوكب من غير جدال.. فهو الكائن الذي ملك من القوى ما استطاع بها أن يغيّر وجه الأرض، وأن يستخرج خبأها، ويسخّر موجوداتها.
وإذا كان هذا شأن الإنسان فإن مما يجانب الحكمة، ويدخل في باب اللهو والعبث، أن تنطفىء جذوة هذا الكائن، بعد سنوات قليلة يقضيها على هذه الأرض.. ثم يصير رمادا، يختلط بتراب هذه الأرض، مع الدواب، والحشرات والهوام! إن في هذا لجورا على الإنسان، وظلما له، إذ كان الحيوان- على هذا الحساب- خيرا منه، لأنه تنفّس أنفاس الحياة، وليس معه هذا العقل الذي لم يدع للإنسان لحظة يخلد فيها إلى الراحة والاطمئنان.. بل إنه أبدا في صراع داخلى لا يهدأ أبدا، بين رجاء ويأس، وسعادة وشقاء، وطمأنينة وخوف.. في يقظته ونومه.. على السّواء.
إن الإنصاف للإنسان يقضى بألا تنتهى حياته بالموت، بل لابد أن تكون له رجعة أخرى، إلى حياة أكمل، وأفضل.
إن الحياة- كما قلنا في مواضع كثيرة- نعمة أنعم اللّه بها على الإنسان، وامتنّ عليه بها.. كما يقول سبحانه: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ}. ومن تمام هذه النعمة، دوامها، وإلا فما كان لوجودها أصلا حكمة، ولكان خيرا منها العدم! وقد يسأل سائل: كيف تكون الحياة الآخرة بالنسبة للكافرين والمشركين وغيرهم من أصحاب النار، خيرا من العدم، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرابًا} النبأ:40 أيتفق هذا وذاك الذي نقول به..؟
ونقول: إن الحياة بعد الموت نعمة لأهل الجنة وأهل النار جميعا، وهى خير من العدم! أيّا كانت صورة تلك الحياة، وأيّا كان مصير الأحياء فيها.. نقول هذا، وبين أيدينا كثير من الشواهد، من كتاب اللّه.
فأولا: من أمنيّات أهل النار في النّار أن يردّوا إلى الحياة الدّنيا.. وذلك في كثير من الآيات القرآنية، كما يقول سبحانه وتعالى عنهم: {وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الأنعام:27 وكما يقول سبحانه في هذه السورة على لسان أهل النار: {رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ} الآية: 107 وكما يقول جل شأنه على لسانهم أيضا: {رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} إبراهيم:44.
وهذا يعنى أنهم، وهم في النار، متمسكون بالحياة، راغبون فيها، على أية صورة كانوا عليها.
وثانيا: أن ما يقوله الكافر في الآخرة، حين يرى العذاب، وهو قوله: {يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرابًا} هو بسبب ما يلاقى الكافرون من بلاء، تضيق به نفوسهم، شأنهم في هذا شأن كثير من الناس في هذه الحياة الدنيا حين تحتويهم حياة قاسية، يتمنون معها الموت.. ولكنهم في الواقع متمسكون بالحياة حريصون عليها.. ولو طلع عليهم الموت في تلك الحال، لفزعوا منه وكربوا، ولطلبوا المهرب، إن كان ثمة مهرب! وقليل من الناس أولئك الذين يرحلون عن هذه الدنيا، دون أن تنازعهم أنفسهم إلى التعلق بها، واللهفة على التشبث بكل خيط في يدهم منها، مهما يكن حظهم فيها، وشقاؤهم بها.
الناس جميعا متعلقون بالحياة، راغبون في المزيد منها، ولو أخذت منهم الأيام، وألحت عليهم العلل، وحطمتهم السنون.
إن حبّ الحياة طبيعة في كل حىّ، وهو في الإنسان طبيعة وإرادة معا.
طبيعة تدفعه إلى حفظ نفسه، والإبقاء على ذاته أطول زمن ممكن.. وحبّ البقاء- فوق ذلك- إرادة تخلّقت في الإنسان عن اتصاله بالحياة، واختلاطه بالأحياء، واشتباك مصالحه بهم، وانفساح آفاق آماله بينهم، وامتداد آثاره في الحياة وفيهم.
إن الإنسان- مهما طال عمره، وامتد أجله، فإن يده تقصر عن أن تنال كل ما أراد، وإن الحياة لتضمن بأن تحقق له كل رغبة، وأن تدنيه من كل أمل.
يقول الشاعر:
تموت مع المرء حاجاته ** وحاجة من عاش لا تنقضى

من أجل هذا، كان في الناس هذا الحرص الشديد على الحياة، وعلى الاستزادة منها، ولو كان ماؤها آسنا، وهواؤها سموما، وطعامها الشوك والحسك! والموت هو الشبح المخيف، الذي يطل على الناس بوجه كالح بغيض، يتهددهم في أنفسهم، وفيمن يحبون، من ولد، وأهل وصديق.. إنه أعدى عدو للإنسان.. إنه يبغت الناس بغتة، ويفجؤهم فجاءة على غير موعد.. فهم أبدا في وسواس منه، وفى خوف من وقعاته بهم، وبمن يحبون، ويؤثرون.
إنه ليس شىء أبغض إلى الناس من الموت، وليس شىء أكثر طروقا ووسواسا لهم منه.. إنه أبدا مصدر إزعاج لكل سليم وسقيم، وكل شاب وشيخ.. إن لم يره دانيا منه في حال، رآه ناشبا أظفاره في أب، أو أم، أو زوج، أو ولد، أو صديق.
ومن أجل هذا كره الناس لقاء الموت، وتعلقوا بالحياة، مهما تكن هذه الحياة، ومهما تكن ضراوتها وقسوتها، وما تسوق إلى الناس من مآس وآلام.. يقول أبو العلاء:
نحبّ العيش بغضا للمنايا ** ونحن بما هوينا الأشقياء

ويقول أيضا:
ودنيانا التي عشقت وأشقت ** كذاك العشق معروفا شقاء

سألناها البقاء على شقاها ** فقالت عنكم حظر البقاء

ولزوميات أبى العلاء، تدور كلها حول الموت، وماوراء الموت، ولا تكاد قصيدة أو مقطوعة من شعره في هذا الديوان تخلو من الحديث عن الموت، أو النفس، أو البعث والجزاء.. وذلك في صور شتى من الرأى المتقلب بين اليقين والشك، والإيمان والإلحاد، والإقرار والإنكار.
إن الموت هو الينبوع الذي ارتوت منه فلسفة أبى العلاء فعمقت جذورها، وسمقت فروعها، وتعددت طعومها. فكانت فلسفة مؤمنة، ملحدة، متفائلة، متشائمة.. شأن الخائف المفزّع، تتغاير في عينيه صور الأشياء، وتغيم حقائقها.
إن ظاهرة الموت من أكبر الظواهر وأعمها، مما شغل به العقل، والتفتت إليه الديانات السماوية والوضعية، منذ الخطوات الأولى للإنسان في هذه الحياة.
يقول بعض الفلاسفة المعاصرين: إن الموت هو أصل الديانات كلها، ويجوز أنه لو لم يكن هناك موت لما كان للإله عندنا وجود.
وذلك لأن الموت لفت الإنسان إلى قوة عليا، يستمد منها الحياة، ويدفع بها الموت.. وإذا لم يتحقق له ذلك في الحياة الدنيا، طمع في حياة أخرى بعد الموت، يصل بها ما انقطع بالموت.
ويكاد التفكير الإنسانى كله- عدا جماعات قليلة متناثرة على رقعة الزمن الفسيح- يكاد يرى الموت خاتمة حياة، ومبدأ حياة جديدة أخرى.
لقد رفض العقل منذ أول مرحلة من مراحل تفكيره- رفض أن يجعل الموت خاتمة نهائية لحياة الإنسان، وأبى أن يذهب بمن يموتون من الأهل والأحباب والأصدقاء إلى وادي الفناء والعدم.. فأقام لهم المقابر، وسعى إليهم في أوقات مختلفة، يناجيهم، ويبثهم ما بصدره من شوق وحنين، ويشكو إليهم ما لقى من بعدهم من آلام وأحزان.
وحول المقابر، وعليها، أقيمت تماثيل الموتى، وقدّمت القرابين والصلوات والأدعية، حتى يجد الميت في ذلك ما يهنأ به في عالمه الجديد.
إن شبح الحياة تدبّ في الأموات، مازال يطلّ على الأحياء من وراء القبور، فلم تنقطع الصلة بين الأحياء والأموات.. بمواراتهم في القبور، أبدا، بل كان الأحياء دائما يناجون الأموات، ويتحدثون إليهم حديث الحىّ إلى الحىّ، بل وكثيرا ما يتلقى الأحياء من الموتى- عن طريق التخيل والتوهم- الجواب الشافي لما يلقون إليهم من شئون وشجون.
إن تلك الصلة النفسية بين الأحياء والأموات، قد خلقت في الناس عقيدة الحياة بعد الموت.. وذلك قبل أن تجىء الأديان السماوية، فتقرر هذه الحقيقة، وتلتقى مع ما وجده الإنسان بحدسه، واستشعره بوجدانه، وطرقه بخياله.
لقد كان أهم ما يميز ديانة المصريين القدماء هو فكرة الخلود.. أعنى الحياة الخالدة بعد الموت.. فتلك العقيدة هى جرثومة التفكير الديني، الذي تولدت منه الديانة المصرية القديمة، وتشكلت منه طقوسها ومراسمها.
فالمصريون القدماء، كانوا يعتقدون أنه وقد أمكن أن يحيا النيل بعد موته، فيفيض ثم يفيض، وأن يحيا النبات بعد موته، فيزدهى وينضر، فإنه- من باب أولى- أن يحيا الإنسان بعد أن يموت.
واقرأ قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} 80: المؤمنون.
لم يرض الإنسان أن يكون نصيبه من الحياة تلك السنوات التي يعيشها في هذه الدنيا، وأبى أن يقبل الحكم الأبدىّ عليه بالفناء الأبدىّ، بعد الموت.. بل إنه جعل من الموت طريقا إلى الحياة الأبدية الخالدة، التي لا موت معها.
يقول سقراط: عند ما فتشت عن علة الحياة وجدت الموت.. وعند ما وجدت الموت ألفيت الحياة الدائمة.. ولهذا ينبغى أن نغتمّ بالحياة، ونفرح بالموت، لأننا نحيا لنموت، ونموت لنحيا..
وفى كتاب الهند المقدس كاثا: يفنى الفاني كما تفنى الغلال، ثم يعود إلى الحياة في ولادة جديدة كما تعود الغلال.
ويقول الفيلسوف الألمانى جوته: إن الاجتهاد المحتدم في نفسى، هو برهانى على الديمومة.. فإذا كنت قد عملت حياتى كلها ولم أسترح، فمن حقى على الطبيعة أن تعطينى وجودا آخر عند ما تنحلّ قواى، وتنوء بحمل نفسى.
والديانات السماوية، تصور الموت على أنه إشارة البدء إلى رحلة طويلة، ينتقل فيها الإنسان من هذه الدنيا إلى عالم الخلود، حيث يلقى كل إنسان هناك جزاء ما عمل، من خير أو شرّ.
ويؤدى الموت في الديانات السماوية، دورا عظيما في إقامة العقيدة الدينية، وفى تعميق جذورها في قلوب المؤمنين، وبعث الحماس للأعمال الصالحة التي تدعو إليها، وتقبّلها في رضا وغبطة، وإن كانت تحمل الإنسان على تقديم نفسه قربانا للّه بالجهاد في سبيله، طمعا في حياة أفضل! وليس من خلاف بين الديانات السماوية كلها في تقرير هذه الحقيقة وتوكيدها.. وتكاد تكون دعوة الرسل منحصرة في الإيمان بالبعث واليوم الآخر، بعد الإيمان باللّه.
ومع أن الكتب السماوية، لم تتعرض لشرح عملية الموت شرحا فسيولوجيا ولم تدخل في جدل حول الجسد والروح وما بينهما من علاقة في الحياة، وما بعد الحياة- مع هذا، فإن أتباع هذه الكتب لم يقفوا عند هذا، بل كان في المتدينين- من فلاسفة وعلماء وفقهاء- من أجال تفكيره في هذه القضية، مستصحبا الدين، أو مستقلّا بنظره ورأيه.
وفى التفكير الإسلامى كثير من الآراء والمقولات.. نكتفى هنا بأثارة منها.
فمثلا يقول الراغب الأصفهانى: إن الموت المتعارف، الذي هو مفارقة الروح للبدن، هو أحد الأسباب الموصلة للإنسان إلى النعيم الأبدى. فهو وإن كان في الظاهر فناء واضمحلالا، فهو في الحقيقة ولادة ثانية.. إن الإنسان في دنياه جار مجرى الفرخ في البيضة، فكما أن من كمال الفرخ تفلّق البيضة عنه وخروجه منها، كذلك من شروط كمال الإنسان مفارقة هيكله، ولولا الموت لم يكمل الإنسان.
ثم يقول: فالموت إذن ضرورى في كمال الإنسان، ولكون الموت سببا للانتقال من حال أوضع إلى حال أشرف، سمّاه اللّه توفّيا وإمساكا عنده: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} الزمر:42.
ثم يقول الراغب: فالموت هو باب من أبواب الجنة، منه يتوصّل إليها، ولو لم يكن الموت، لم تكن الجنة، ولذلك منّ اللّه به على الإنسان.. فقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} الملك:2.