فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فقدّم الموت على الحياة، تنبيها إلى أنه يتوصل به إلى الحياة الحقيقة ومن هنا عدّ نعمة.
وقال سبحانه أيضا: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتًا فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} فجعل الموت إنعاما، لأنه لما كانت الحياة الأخروية نعمة لا وصول إليها إلّا بالموت، فالموت نعمة، لأن السبب الذي يتوصّل به إلى النعمة، نعمة.. وعلى هذا جاء قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ} المؤمنون:14- 16 - فنبّه على أن هذه التغيرات متجهة إلى خلق أحسن.
ويقول الفيلسوف المسلم محمد إقبال: إن كائنا- يعنى الإنسان- اقتضى تطوّره ملايين السنين، ليس من المحتمل إطلاقا، أن يلقى به كما لو كان من سقط المتاع.. وليس إلّا من حيث هو نفس تتزكى باستمرار- يمكن أن ينسب إلى معنى الكون.. {وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها} الشمس:7- 10.. وكيف تكون تزكية النفس وتخليصها من الفساد؟ إنما يكون ذلك بالعمل: {تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعزيزُ الْغَفُورُ} الملك:1- 2 - فالحياة تهيىء مجالا لعمل النفس، والموت هو أول ابتلاء لنشاطها المركب.
وننتهى من هذا كله إلى حتمية البعث والحياة بعد الموت.
وإنه قبل أن تجىء الديانات السماوية، وقبل أن تقول كلمتها في الحياة الآخرة، قالت الإنسانية كلمتها.. قالتها شعرا ونثرا.. وقالتها شعوذة وفلسفة! وأعدّت نفسها للحساب بين يدى قوة عليا، بيدها وحدها الجزاء الأوفى لكل عمل.
ففى الديانات المصرية القديمة مثلا، كان يحمل الميت معه دفاعا مكتوبا، يلقيه بين يدى المحاسب العظيم.. وهذا، مثل من صور هذا الدفاع:
سلام عليك.. أيها الإله العظيم.. ربّ الصدق والعدالة.. لقد وقفت أمامك يا ربّ.
وجىء بي لكى أشاهد ما لديك من جمال!! أحمل إليك الصدق.. إنى لم أظلم الناس.. لم أظلم الفقراء.. لم أفرض على رجل حرّ عملا أكثر مما فرض هو على نفسه! لم أهمل.. ولم أرتكب ما تبغضه الآلهة.. ولم أكن سببا في أن يسىء السيد معاملة عبده.
لم أمت إنسانا من الجوع.. ولم أبك أحدا.. ولم أقتل إنسانا.
ولم أخن أحدا.
لم أرتكب عملا شهوانيا داخل أسوار المعبد المقدس.
لم أكفر بالآلهة.. ولم أغشّ في الميزان.
لم أنتزع اللعب من أفواه الرّضّع.. ولم اصطد بالشباك طيور الآلهة.
أنا طاهر.. أنا طاهر.. أنا طاهر..!!
فالحياة بعد الموت، والحساب والجزاء، هى مما يطلبه الإنسان، ويعيش فيه، ويعمل له.. ولو لم يكن هناك دين يدعو إليها، أو شريعة تكشف عنها.
فكيف إذا جاءت شرائع السماء كلها، مقررة لها، كاشفة عنها، ضاربة الأمثال لها، مقدمة الحجج والبراهين عليها؟
وخير ما نختم به هذا البحث، ما قرّره الراغب الأصفهانى، في كتابه: تفصيل النشأتين حيث يقول: لم ينكر المعاد والنشأة الأخرى، إلا جماعة من الطبيعيين، أهملوا أفكارهم، وجهلوا أقدارهم، وشغلهم عن التفكير في مبدئهم ومنشئهم، شغفهم بما زيّن لهم من حبّ الشهوات.
وأما من كان سويّا، ولم يمش مكبّا على وجهه، وتأمل أجزاء العالم، علم أن أفضلها ذوات الأرواح، وأفضل ذوات الأرواح ذوات الإرادة والاختيار، وأفضل ذوى الإرادة والاختيار، الناظر في العواقب، وهو الإنسان- فيعلم أن النظر في العواقب من خاصية الإنسان، وأنه- سبحانه- لم يجعل هذه الخاصيّة له، إلّا لأمر جعله في العقبى، وإلا كان وجود هذه القوة فيه باطلا!
فلو لم يكن للإنسان عاقبة ينتهى إليها غير هذه الحياة الخسيسة، المملوءة نصبا وهمّا وحزنا، ولا يكون بعدها حال مضبوطة- لكان أخسّ البهائم أحسن حالا من الإنسان!! فيقتضى هذا أن تكون هذه الحكم الإلهية، والبدائع الربانية، التي أظهرها اللّه في الإنسان عبثا، كما نبّه اللّه تعالى بقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ}. فإن إحكام بنية الإنسان، مع كثيرة بدائعها وعجائبها، ثم نقضها، وهدمها من غير معنى سوى ما تشاركه فيه البهائم من الأكل والشرب، مع ما يشوبه من التعب الذي أغنى عنه الحيوان- سفه تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
قوله تعالى: {فَتعالى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}.
هو تنزيه للّه سبحانه وتعالى، أن يكون خلق الخلق عبثا، وأنه سبحانه يميتهم، ثم لا يبعثهم.. إن هذا لا يليق بالملك العظيم، الحقّ، الذي لا إله إلا هو ربّ العرش الكريم.
وفى وصف اللّه سبحانه وتعالى لذاته الكريمة العلية، بهذه الأوصاف الجليلة ما يشير إشارة مبينة إلى تقرير هذين الأمرين: الخلق، والبعث، وأنهما من شأن {الملك} الذي قام ملكه على الحقّ، والذي لا إله معه، يشاركه الخلق والأمر، فيعطل مشيئته، أو ينقض حكمته.
ثم إن في وصفه ذاته سبحانه وتعالى بالكرم، إشارة أخرى، إلى أن الخلق والبعث نعمة من منعم كريم، بيده الخير، وهو على كل شىء قدير.
قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ}.
وبهذه الآية، والآية التي بعدها تختم السورة الكريمة، حيث يلتقى ختامها مع بدئها.. فقد بدئت بهذا الإعلان العام: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ}.. ثم جاءت الآيات بعد ذلك تعرض صفات المؤمنين، وما أعدّ اللّه لهم في الآخرة من نعيم، حيث يورّثهم الجنّة، ويطلق أيديهم فيها، ينعمون بما يشاءون منها.. ثم عرضت الآيات بعد هذا صورا من قدرة اللّه، وفضله على الإنسان، الذي أخرجه من تراب، فكان هذا البشر السّوىّ.. وتمضى الآيات فتعرض، صورا للمعاندين المكذبين برسل اللّه، وما أخذهم اللّه به في الدنيا من نكال، وما أعد لهم في الآخرة من عذاب.
ثم تخلص الآيات من هذا العرض إلى تقرير أمر البعث، وأنه أمر واقع لا شك فيه.. ثم تجىء خاتمتها داعية إلى الإيمان باللّه، والإقرار بوحدانيته، والتحذير من الشرك به، فإن من يشرك باللّه فهو من الكافرين.. وإن الكافرين هم الخاسرون.
وفى قوله تعالى: {لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ} دعوة صريحة إلى تحرير العقل، وإطلاقه من قيد الأسر للأوهام، ومن الانقياد للآخرين، من غير أن يكون له نظر واقتناع، عن برهان قاطع، وحجة واضحة.
فالإيمان باللّه سبحانه وتعالى: قضية أولى من قضايا العقل، يرتبط بها مسيره ومصيره، في الدنيا والآخرة.. وهذا من شأنه أن يدعو الإنسان أن يلقى هذه القضية في جدّ واهتمام بالغين، وأن يوجّه إليها كل مدركاته، وملكاته، وأن يفتح لها عقله وقلبه، حتى يمحصها تمحيصا، ويقيم لها الأدلة والبراهين.. فإن هو آمن بعد هذا، كان إيمانه على بصيرة وهدى، وكان لهذا الإيمان أثره فيه، وسلطانه عليه.. وإن لم يجد بين يديه البرهان المقنع، والدليل القاطع، والحجة الملزمة، فلا عليه أن يمسك عن الإيمان، حتى تتضح له معالم الطريق إليه، وحتّى يقع على الدليل الهادي، الذي يقوده إلى اللّه مذعنا، مستسلما!.. فذلك هو الإيمان الذي يطلبه الإسلام من المسلمين، ويفتح أبصارهم وبصائرهم له.
وليس هذا هو شأن العقل مع قضية الإيمان باللّه وحدها، بل إن ذلك هو الذي ينبغى أن يكون من شأنه مع كل قضيّة من قضايا الحياة، صغيرها وكبيرها.
إذ كان العقل هو الحاسّة التي يذوق بها الإنسان طعوم الحياة، ويميز بها الخبيث من الطيب، والشرّ من الخير، والنافع من الضار.. تماما كما يذوق باللسان طعوم المأكولات والمشروبات، حتى لا يدخل على الجسد طعاما فاسدا، فيفسد طبيعته.
قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}.
بهذه الآية الكريمة، تختم السورة.. وبهذه الرحمة الواسعة من ربّ كريم رحيم، يغاث الناس، ويتداوون من جراحات الآثام والذنوب، التي شوهت معالم فطرتهم، وذهبت بالكثير من جمال خلقهم السّوىّ، الذي خلقهم اللّه عليه.
لقد ركب كثير من الناس طرق الغواية والضلال، وكادت تضيع إنسانيتهم في هذا التّيه، ولكن رحمة اللّه تداركتهم، فلقيتهم هناك في هذا الضّياع، وأعادتهم إلى مجتمع الإنسانية الكريم.
وهكذا ينتهى أمر الناس، برحمة عامة شاملة، تنال البرّ والفاجر، وتكسو المطيع والعاصي.
ولترغم أنوف أولئك الذين يتألّون على اللّه، ويؤيّسون الناس من رحمة ربّ الناس، ويحتجزونها لأنفسهم، حتى لكأنها لا تتسع إلّا لهم، وأنه لو شاركهم فيها غيرهم لضاقت بهم، وقلّ حظهم منها.. فهذا من سوء الظنّ باللّه، ومن ضلال في الفهم لما لذاته من كمال مطلق.. {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.. الزخرف:32 ومن أسرار هذا الختام للسورة بهذه الآية الكريمة، أنها جاءت تحمل الرحمة والمغفرة- الرحمة الواسعة، والمغفرة الشاملة- وبين يديها هذه الأحكام، وتلك الحدود، التي جاءت بها سورة النور التي تلى هذه الآية مباشرة، وكأنها تبشر بالرحمة والمغفرة، أولئك الذين غلبهم أنفسهم، وتستعلى عليهم أهواؤهم، فيخرجون عن حدود اللّه، ويواقعون الإثم والمنكر!! فسبحانك سبحانك من رب كريم، غفور، رحيم.. تعنو لجلاله الوجوه، وتستخزى في مواجهة كرمه، ومغفرته ورحمته، النفوس، ويستحى من عصيانه، والتمرد على طاعته، أهل الحياء! وألا شاهت وجوه الذين يلقون رحمة الرحمن الرحيم بالتمرد والكفران. وألا خسىء وخسر، أولئك الذين يغريهم لطف اللطيف، وإحسان المحسن بالتطاول عليه، والعدوان على حرماته..!. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)}.
هذا من تمام القول المحكي في {قال كم لبثتم في الأرض} [المؤمنون: 112] مفرع على ما قبله.
فرع الاستفهام عن حسبانهم أن الخلق لأجل العبث على إظهار بطلان ما زعموه من إنكار البعث.
والاستفهام تقرير وتوبيخ لأن لازم إنكارهم البعث أن يكون خلق الناس مشتملًا على عبث فنزلوا منزلة من حسب ذلك فقُرروا ووبخوا أخذا لهم بلازم اعتقادهم.
وأدخلت أداة الحصر بعد حسب فجعلت الفعل غير ناصب إلا مفعولًا واحدًا وهو المصدر المستخلص من {أنما خلقناكم} والتقدير: أفحسبتم خلقنا إياكم لأجل العبث، وذلك أن أفعال الظن والعلم نصبت مفعولين غالبًا لأن أصل مفعوليها مبتدأ وخبر، أي اسم ذات واسم صفة فاحتياجها إلى المفعول الثاني من باب احتياج المبتدأ إلى الخبر لئلا تنعدم الفائدة في المبتدأ مجردًا عن خبره، وبذلك فارقت بقية الأفعال المتعدية باحتياجها إلى منصوبين لأن معناها لا يتعلق بالذوات؛ فقولك: ظننت زيدًا قائمًا، إنما هو في الحقيقة: ظننت قيام زيد، فمفعولها هو المصدر وحقه أن يكون خبرًا مضافًا إلى ضمير مبتدئه كما قال الرضي: يعني أن العرب استعملوها بمفعولين كراهية لجعل المصدر مفعولًا به كأنهم تجنبوا اللبس بين المفعول به والمفعول المطلق، وهذا كما استعملوا أفعال الكون مسندة إلى اسم الذوات ثم أتوا بعد اسم الذات باسم وصفها ولم يأتوا باسم الوصف من أول وهلة ولذلك إذا أوقعوا بعدها حرف المصدر اكتفوا به عن المفعولين، ولم يسمع عنهم أنهم نصبوا بها مصدرًا صريحًا.
فإذا وقع مفعول أفعال الظن اسم معنى وهو المصدر الصريح أو المنسبك وحذف الفائدة فاجتزأت بالمصدر كقوله تعالى: {إني ظننت أني ملاققٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20].
وحيث كانت أنما مركبة من أن المفتوحة الهمزة ومن ما الكافة فوقوعها بعد فعل الحساب بمنزلة وقوع المصدر، ولولا أن لكان الكلام: أحسبتمونا خالقينكم عبثًا.