فصل: قال الزمخشرى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال ابن مسعود: هي النفخة الثانية. أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال: حدَّثنا عبيد الله بن محمد بن شيبة قال: حدَّثنا جعفر بن محمد الفريابي قال: حدَّثنا يزيد بن موهب الرملي قال: حدَّثنا عيسى بن يونس عن هارون بن أبي وكيع قال: سمعت زاذان أبا عمر يقول: دخلت على ابن مسعود فوجدت أصحاب الخز واليمنة قد سبقوني إلى المجالس، فناديته، يا عبد الله بن مسعود من أجل أنّي رجل أعجمي أدنيتَ هؤلاء وأقصيتني؟ فقال: ادنُ، فدنوت حتى ما كان بيني وبينه جليس، فسمعته يقول: يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة فينصب على رؤوس الأوّلين الآخرين ثمَّ ينادي مناد: هذا فلان ابن فلان فمن كان له قِبَله حقّ فليأتِ إلى حقّه، فتفرح المرأة أن يدور لها الحقّ على أبيها أو على زوجها أو على ابنها أو على أُختها، ثم قرأ ابن مسعود {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ}.
قال: فيقول الله سبحانه: آت هؤلاء حقوقهم، فيقول: ربّ فنيت الدنيا، فيقول للملائكة: خذوا من أعماله فأعطوا كلّ إنسان بقدر طلبته، فإن كان وليًا لله عز وجل وفضلت له من حسناته مثقال حبّة من خردل ضاعفها حتى يدخله بها الجنة، ثم قرأ ابن مسعود: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 40]. وإن كان شقيًّا قالت الملائكة: ربّ فنيتْ حسناته وبقي طالبون، فيقول: خذوا من أعمالهم السيئة فأضيفوها إلى سيئاته وصكّوا له صكًا الى النار.
{فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولئك الذين خسروا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ} تسفع {وُجُوهَهُمُ النار وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} عابسون عن ابن عباس، وقال غيره: الكلوح أن تتقلص الشفتان عن الإنسان حتى تبدو الأسنان.
قال ابن مسعود: ألم تر إلى الرأس المشيّظ بالنار قد بدت أسنانه وقلصت شفتاه.
قال الأعشى:
وله المقْدم لا مثل له ** ساعة الشدق عن الناب كلح

أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال: حدَّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان بن عبد الله قال: حدَّثنا محمد بن إسحاق المسوحي قال: حدَّثنا يحيى الحماني قال: حدَّثنا ابن مبارك عن سعيد بن يزيد أبي شجاع عن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجلّ {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} قال: «تشويه النار فتتقلّص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته».
{أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} التي كتبت علينا، قرأ أهل الكوفة غير عاصم: شقاوتنا بالألف وفتح الشين، غيرهم: شِقوتنا بغير ألف وكسر الشين وهما لغتان، وهي المضرّة اللاحقة في العاقبة، والسعادة هي المنفعة اللاحقة في العاقبة.
{وَكُنَّا قَوْمًا ضَآلِّينَ} عن الهدى {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا} أي من النار {فَإِنْ عُدْنَا} لما تكره {فَإِنَّا ظَالِمُونَ} فيجابون بعد ألف سنة {اخسئوا فِيهَا} أي ابعدوا، كما يقال للكلب: اخسأ إذا طُرد وأُبعد {وَلاَ تُكَلِّمُونِ} في رفع العذاب فإنّي لا أرفعه عنكم ولا أخفّفه عليكم، وقيل: هو دلالة على الغضب اللازم لهم فعند ذلك أيس المساكين من الفرج.
قال الحسن: هو آخر كلام يتكلّم به أهل النار ثم لا يتكلّمون بعدها إلاّ الشهيق والزفير ويصير لهم عواء كعواء الكلب لا يُفهمون ولا يَفهَمون.
{إِنَّهُ} هذه الهاء عماد وتسمّى أيضًا المجهولة {كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي} وهم المؤمنون {يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الراحمين فاتخذتموهم سِخْرِيًّا} قرأ أهل المدينة والكوفة إلاّ عاصمًا بضم السين هاهنا وفي سورة ص، الباقون: بكسرها.
قال الخليل وسيبويه: هما لغتان مثل قول العرب: بحر لُجيٌّ ولِجّي، وكوكب دُرّي ودِرِي، وكُرسي وكِرسي.
وقال الكسائي والفرّاء: الكسر بمعنى الاستهزاء بالقول، والضم بمعنى التسخير والاستعباد بالفعل، ولم يختلفوا في سورة الزخرف أنّه بالضم لأنّه بمعنى التسخير والاستعباد إلاّ ما روي عن ابن محيص أنّه كسره قياسًا على سائره وهو غير قوىّ.
{حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي} أي أنساكم اشتغالكم بالاستهزاء بهم وتسخيرهم ذكري {وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} نظيره قوله سبحانه {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ} [المطففين: 29].
{إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صبروا} على استهزائكم بهم في الدنيا، والجزاء: مقابلة العمل بما يستحقّ عليه من ثواب أو عقاب.
{أَنَّهُمْ هُمُ الفآئزون} قرأ حمزة والكسائي: {إنهم} بكسر الألف على الاستيناف، والباقون: بفتحه على معنى لأنهم هم الفائزون، ويُحتمل أن يكون نصبًا بوقوع الجزاء عليه أنّي جزيتهم اليوم الفوز بالجنة.
{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} نَسُوا لعظيم ما هم فيه من العذاب مدّة مكثهم في الدنيا، وهذا توبيخ من الله تعالى لمنكري البعث وإلزام للحجّة عليهم.
قرأ حمزة والكسائي: {قل كم} على الأمر، لأنّ في مصاحف أهل الكوفة قل بغير ألف، ومعنى الآية: قولوا كم لبثتم، فأخرج الكلام مخرج الأمر للواحد والمراد به الجماعة إذ كان مفهومًا معناه، ويجوز أن يكون الخطاب لكلّ واحد منهم أي قل أيّها الكافر.
وقرأ الباقون: {قال} في الحرفين، وكذلك هما في مصاحفهم بالألف على معنى قال الله تعالى، وقرأ ابن كثير: {قل كم} على الأمر، وقال: إن على الخبر وهي قراءة ظاهرة لأنّ الثانية جواب.
وقوله: {فَسْئَلِ العآدين} أي الحُسّاب عن قتادة، وقال مجاهد: هم الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم ويحصونها عليهم.
{قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ} في الدنيا {إِلاَّ قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} قدر لبثكم فيها {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} أي لعبًا وباطلًا لا لحكمة، والعبث: العمل لا لغرض، وهو نصب على الحال عن سيبويه وقطرب، مجازه: عابثين، أبو عبيد: على المصدر، بعض نحاة الكوفة: على الظرف أُي بالعبث، بعض نحاة البصرة: للعبث. {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ}.
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «يا أيّها الناس اتّقوا ربّكم فما خُلق امرؤ عبثًا فيلهو ولا أُهمل سُدىً فيلغو».
وأخبرني محمد بن القاسم بقراءتي عليه قال: حدَّثنا أبو بكر محمد بن محمد بن نصر قال: حدّثنا محمد بن موسى قال: حدّثنا ابن شعيب الحرّاني قال: حدّثنا يحيى بن عبد الله ابن الضحاك قال: سمعت الأوزاعي يقول: بلغني أنّ في السماء ملكًا ينادي كل يوم: ألا ليت الخلق لم يخلقوا، وياليتهم إذ خُلقوا عرفوا ما خُلقوا له وجلسوا فذكروا ما عملُوا.
فصل في ذكر وجوه الحكمة في خلق الله سبحانه الخلق:
قال المحقّقون: خلق الله سبحانه الخلق ليدلّ بذلك على وجوده وكمال علمه وقدرته، إذ لو لم يخلق لم يكن لوجوده معنى.
وأخبرني محمد بن القاسم قال: حدَّثنا محمد بن يزيد قال: حدَّثنا الحسن بن سفيان قال: حدَّثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدَّثنا ابن عُليّة عن منصور بن عبد الرَّحْمن قال: قلت للحسن البصري في قوله سبحانه {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} [هود: 118-119].
قال: الناس مختلفون على أديان شتّى إلاّ من رحم ربك، ومن رحم ربك غير مختلف. فقيل له: ولذلك خلقهم؟. قال: نعم، خلق هؤلاء لجنّته وخلق هؤلاء لناره، وخلق هؤلاء لرحمته وخلق هؤلاء لعذابه.
وأخبرنا محمد بن القاسم الفقيه قال: أخبرنا أبو جعفر محمد بن موسى الفقيه قال: حدَّثنا أبي قال: حدَّثنا محمد بن خالد البرقي عن أبيه عن أحمد بن نصر قال: سئل جعفر بن محمد: لمَ خَلقَ الله الخلق؟ قال: لأنّ الله سبحانه كان محسنًا بما لم يزل فيما لم يزل، إلى ما لم يزل فأراد سبحانه وتعالى أن يفوّض إحسانه إلى خلقه وكان غنيًّا عنهم، لم يخلقهم لجرّ منفعة، ولا لدفع مضّرة، ولكن خلقهم وأحسن إليهم وأرسل إليهم الرسل حتّى يفصلوا بين الحق والباطل، فمن أحسن كافأهُ بالجنة، ومن عصى كافأه بالنار.
وقال محمد بن علي الترمذي: إنَّ الله سبحانه خلق الخلق عبيدًا ليعبدوه فيثيبهم على العبودية ويعاقبهم على تركها، فإن عبدوه فهم اليوم عبيد أحرار كرام، وغدًا أحرار وملوك في دار السلام، وإن رفضوا العبودية فهم اليوم عبيد أُبّاق سفلة لئام، وغدًا أعداء في السجون بين أطباق النيران.
ومنهم من قال: خلق الله سبحانه الخلق كلّهم لأجل محمد صلى الله عليه وسلم يدللّ عليه ما حدَّثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن الرومي قال: حدَّثنا أبو بكر محمد بن حمدون بن خالد قال: حدّثنا هارون بن العباس الهاشمي قال: حدَّثنا محمد بن ياسين بن شريك قال: حدَّثنا جندل قال: حدّثنا عمرو بن أوس الأنصاري عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيّب عن ابن عباس قال: «أوحى الله سبحانه إلى عيسى عليه السلام: يا عيسى آمن بمحمد ومُر أُمّتك أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم، ولولا محمد ما خلقت الجنة والنار، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه: لا إله إلاّ الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكن».
وسمعت محمد بن القاسم الفارسي قال: سمعت محمد بن الحسن بن بهرام الفارسي يقول: سمعت القنّاد يقول: خلق الله سبحانه الملائكة للقدرة، وخلق الاشياء للعبرة، وخلقك للمحبة له، ومن العلماء مَن لم يصرّح القول بذلك ولكنه قال: نبّه الله سبحانه في غير موضع من كتبه المنزلة أنّه خلقهم لخطر عظيم مغيّب عنهم لا يجلّيه حتى يحلّ بهم ما خلقهم له، وهذا معنى قوله سبحانه {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} الآية.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدَّثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي قال: حدَّثنا داود بن رشيد، وأخبرني محمد بن القاسم قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن مريس قال: حدَّثنا الحسن بن سفيان قال: حدَّثنا هشام ابن عمار قال: حدَّثنا الوليد بن مسلم قال: حدَّثنا ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن حنش ابن عبد الله الصنعاني عن عبد الله بن مسعود أنّه مرَّ بمصاب مبتلى فقرأ في أذنه {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} حتى ختم السورة فبرئ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «ماذا قرأت في أُذنه؟» فأخبره فقال: «والذي نفسي بيده لو أنَّ رجلا موقنًا قرأها على جبل لزال».
ثمَّ نَزَّه نفسه سبحانه عمّا وصفه به المشركون من اتخاذ الأنداد والأولاد، ونسبه إليه الملحدون من السفه والعبث فقال عز من قائل {فَتعالى الله الملك الحق لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم} يعني الحسن العظيم {وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} قال أهل المعاني: فيه إضمار، مجازه: فلا برهان له به {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ} جزاؤه {عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون وَقُل رَّبِّ اغفر وارحم وَأنتَ خَيْرُ الراحمين}. اهـ.

.قال الزمخشرى:

. [سورة المؤمنون: الآيات 75- 77].

{وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)}.
والمعنى: لو كشف اللّه عنهم هذا الضرّ وهو الهزال والقحط الذي أصابهم برحمته عليهم ووجدوا الخصب، لارتدوا إلى ما كانوا عليه من الاستكبار وعداوة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإفراطهم فيها، ولذهب عنهم هذا الإبلاس وهذا التملق بين يديه ويسترحمونه، واستشهد على ذلك بأنا أخذناهم أوّلا بالسيوف وبما جرى عليهم يوم بدر من قتل صناديدهم وأسرهم، فما وجدت منهم بعد ذلك استكانة ولا تضرع، حتى فتحنا عليهم باب الجوع الذي هو أشدّ من الأسر والقتل وهو أطم العذاب، فأبلسوا الساعة وخضعت رقابهم، وجاء أعتاهم وأشدّهم شكيمة في العناد يستعطفك. أو محناهم بكل محنة من القتل والجوع فما رئي فيهم لين مقادة وهم كذلك، حتى إذا عذبوا بنار جهنم فحينئذ يبلسون، كقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُون}. والإبلاس: اليأس من كل خير. وقيل: السكوت مع التحير. فإن قلت: ما وزن استكان؟ قلت: استفعل من الكون، أى: انتقل من كون فان هذا الاشباع ليس بفصيح، وهو من ضرورات الشعر، فينبغي أن ترفع منزلة القرآن عن ورود مثله فيه، لكن تنظير الزمخشري له باستحال: وهم، فان استكان على تأويله أحد أقسام استفعل، الذي معناه التحول، كقولهم: استحجر الطين، واستنوق الجمل. وأما استحال فثلاثيه حال يحول، إذا انتقل من حال إلى حال، وإذا كان الثلاثي يفيد معنى التحول لم يبق لصيغة استفعل فيها أثر، فليس استحال من استفعل للتحول. ولكنه من استفعل بمعنى فعل، وهو أحد أقسامه، إذ لم يزد السداسى فيه على الثلاثي معنى، واللّه أعلم. ثم نعود إلى تأويله فنقول: المعنى عليه: فما انتقلوا من كون التكبر والتجبر والاعتياص إلى كون الخضوع والضراعة إلى اللّه تعالى. ولقائل أن يقول: استكان يفيد على التأويل المذكور الانتقال من كون إلى كون، فليس حمله على أنه انتقال عن التكبر إلى الخضوع بأولى من العكس. وترى هذه الصيغة لا تفهم إلا أحد الانتقالين، فلو كانت مشتقة من مطلق الكون لكانت مجملة محتملة للانتقالين جميعا. والجواب أن أصلها كذلك على الإطلاق، ولكن غلب العرف على استعمالها في الانتقال الخاص كما غلب في غيرها، واللّه أعلم. وكان جدي أبو العباس أحمد بن فارس الفقيه الوزير رحمه اللّه يذكر لي أنه لما دخل بغداد زمن الامام الناصر رضي الله عنه، أظهر من جملة كراماته له: أن جمع له الوزير جميع علماء بغداد وعقد بهم محفلا للمناظرة، وكان يذكر لي أن مما انجر الكلام إليه حينئذ هذه الآية، وأن أحدهم وكان يعرف بالأجل اللغوي خصه الوزير بالسؤال عنها فقال: وهو مشتق من قول العرب: كنت لك إذا خضعت، وهي لغة هذلية فاستحسن منه ذلك. قال أحمد: وقد وقفت عليها بعد ذلك في غريب أبى عبيد المروي وهو أحسن محامل الآية وأسلمها، واللّه أعلم. وعلى هذا يكون من استفعل بمعنى فعل، كقولهم: استقر واستعلى، وحال واستحال على ما مر.
وقد قال لي بعضهم يوما: لم لا تجعله على هذا التأويل من استفعل المبنى للمبالغة. مثل استحسر واستعصم من حسر وعصم، فقلت: لا يسعني ذلك: لأن المعنى يأباه، وذلك أنها جاءت في النفي والمقصود منها ذم هؤلاء بالجفوة والقسوة وعدم الخضوع، مع ما يوجب نهاية الضراعة من أخذهم بالعذاب، فلو ذهبت إلى جعلها للمبالغة أفادت نقص المبالغة، لأن نفى الأبلغ أدنى من نفى الأدنى. وكأنهم على ذلك ذموا بنفي الخضوع الكثير، وأنهم ما بلغوا في الضراعة نهايتها، وليس الواقع، فإنهم ما اتسموا بالضراعة ولا بلظة منها، فكيف تنفى عنهم النهاية الموهمة لحصول البداية، واللّه أعلم.
إلى كون، كما قيل: استحال، إذا انتقل من حال إلى حال. ويجوز أن يكون افتعل من السكون أشبعت فتحة عينه، كما جاء: بمنتزاح. فإن قلت: هلا قيل: وما تضرعوا. أو: فما يستكينون؟
قلت: لأنّ المعنى: محناهم فما وجدت منهم عقيب المحنة استكانة. وما من عادة هؤلاء أن يستكينوا ويتضرعوا حتى يفتح عليهم باب العذاب الشديد. وقرئ: {فتحنا}.