فصل: قال ابن جزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله عز وجلّ {وقل رب أعوذ بك} أي أمتنع وأعتصم بك {من همزات الشياطين} قال ابن عباس نزغاتهم وقيل وساوسهم وقيل نفخهم ونفثهم وقيل دفعهم بالإغواء إلى المعاصي {وأعوذ بك رب أن يحضرون} أي من شيء من أموري وإنما ذكر الحضور لأن الشيطان إذا حضره يوسوس له عن جبير بن مطعم أنه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة قال عمر ولا أدري أي صلاة هي قال: «الله أكبر كبيرًا والحمد لله كثيرًا ثلاثًا وسبحان الله بكرة وأصيلًا ثلاثًا أعوذ بالله من الشيطان من نفخه ونفثه وهمزه. قال نفثه الشعر ونفخه الكبر وهمزه الموتة» أخرجه أبو داود وقد جاء تفسير هذه الألفاظ في متن الحديث وتزيده إيضاحًا قوله نفثه الشعر أي لأن الشعر تخرج من القلب فيلفظ به اللسان وينفثه كما ينفث الريق.
قوله «ونفخه الكبر» وذلك أن المتكبر ينتفخ ويتعاظم ويجمع نفسه فيحتاج إلى أن ينفخ.
وقوله وهمزه الموتة الموتة الجنون لأنه المجنون ينخسه الشيطان ثم أخبر الله عز وجلّ أن هؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث يسألون الرجعة إلى الدنيا عند معاينة الموت فقال تعالى: {حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون} قيل المراد به الله وهو على عادة العرب فإنهم يخاطبون الواحد بلفظ الجمع على وجه التعظيم.
وقيل هذا خطاب مع الملائكة الذي يقبضون روحه فعلى هذا يكون معناه أن استغاث بالله أولًا ثم رجع إلى مسألة الملائكة الرجوع إلى الدنيا.
وقيل ذكر الرب للقسم فكأنه قال عند المعاينة بحق الله ارجعون {لعلي أعمل صالحًا فيما تركت} أي ضيعت وقيل تركت أي منعت وقيل خلفت من التركة أو المعنى أقول لا إله إلا الله وأعمل بطاعته فيدخل فيه الأعمال البدنية والمالية قال قتادة ما تمنى أن يرجع إلى أهله وعشيرته ولا ليجمع الدنيا ويقضي الشهوات ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله فرحم الله أمرًا عمل فيما تمناه الكافر إذ رأى العذاب {كلا} كلمة ردع وزجر أي لا يرجع إليها {إنها} يعني مسألته الرجعة {كلمة هو قائلها} أي لا ينالها {ومن ورائهم برزخ} أي من أمامهم ومن بين أيديهم حاجز {إلى يوم يبعثون} معناه أن بينهم وبين الرجعة حجابًا ومانعًا عن الرجوع وهو الموت وليس المعنى أنهم يرجعون يوم البعث وإنما هو إقناط كلي لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلا إلى الآخرة.
قوله تعالى: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم} قال ابن عباس إنها النفخة الأولى في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض فلا أنساب بينهم {يومئذٍ ولا يتساءلون} ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون وعن ابن مسعود أنها النفخة الثانية. قال: يؤخذ بيد العبد والأمَة يوم القيامة فينصب على رؤوس الأولين والآخرين ثم ينادي منادٍ هذا فلان ابن فلان فمن كان له قبله حق فليأت إلى حقه فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته أو أخيه فيأخذ منه ثم قرأ ابن مسعود {فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون}. وفي رواية عن ابن عباس أنها النفخة الثانية فلا أنساب بينهم يعني لا يتفاخرون بالأنساب يومئذٍ كما كانوا يتفاخرون في الدنيا ولا يتساءلون سؤال تواصل كما كانوا يتساءلون في الدنيا من أنت ومن أي قبيلة أنت ولم يرد أن الأنساب تنقطع.
فإن قلت قد قال ها هنا {ولا يتساءلون} وقال في موضع آخر {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون}.
قلت قال ابن عباس إن للقيامة أحوالًا ومواطن ففي موطن يشتد عليهم الخوف فيشغلهم عظم الأمر عن التساؤل فلا يتساءلون وفي موطن يفيقون إفاقة فيتساءلون.
قوله عز وجلّ: {فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا} أي غبنوا {أنفسهم في جهنم خالدون تلفح} أي تسفح وقيل تحرق {وجوههم النار وهم فيها كالحون} أي عابسون وقد بدت أسنانهم وتقلصت شفاههم كالرأس المشوي على النار عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «{وهم فيها كالحون} قال تشويه النار فتنقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب.
قوله تعالى: {ألم تكن آياتي تتلى عليكم} يعني قوارع القرآن وزواجره تخوفون بها {فكنتم بها تكذبون قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا} أي التي كتبت علينا فلم نهتد {وكنا قومًا ضالين} أي عن الهدى {ربنا أخرجنا منها} أي من النار {فإن عدنا} إي لما تكره {فإنا ظالمون قال اخسؤوا فيها} أي ابعدوا فيها كما يقال للكلب إذا طرد أخسأ {ولا تكلمون} أي في رفع العذاب فإني لا أرفعه عنكم فعند ذلك إيس المساكين من الفرج.
قال الحسن: هو آخر كلام يتكلم به أهل النار ثم لا يتكلمون بعد ذلك ما هو إلا الزفير والشهيق وعواء كعواء الكلاب لا يفهمون ولا يفهمون.
وروي عن عبد الله بن عمرو «إن أهل جهنم يدعون مالكًا خازن جهنم أربعين عامًا يا مالك ليقض علينا ربك فلا يجيبهم ثم يقول إنكم ماكثون ثم ينادون ربهم ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون فيدعهم مثل عمر الدنيا مرتين ثم يرد عليهم اخسؤوا فيها ولا تكلمون فيما ينبس القوم بعد ذلك بكلمة إن كان إلا الزفير والشهيق».
ذكره البغوي بغير سند وأخرجه الترمذي بمعناه عن أبي الدرداء قوله فما ينبس القوم بعد ذلك بكلمة أي سكتوا ولم يتكلموا بكلمة وقيل إذا قال لهم اخسؤوا فيها ولا تكلمون انقطع رجاؤهم وأقبل بعضهم ينبح في وجه بعض وأطبقت عليهم جهنم {إنه كان فريق من عبادي} يعني المؤمنين {يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريًا} أي تسخرون منهم وتستهزئون بهم {حتى أنسوكم ذكري} اشتغالكم بالاستهزاء بهم ذكري {وكنتم منهم تضحكون} نزل في كفار قريش كانوا يستهزئون بالفقراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل بلال وعمار وصهيب وخباب ثم قال الله {إني جزيتهم اليوم بما صبروا} أي على أذاكم واستهزائكم في الدنيا {أنهم هم الفائزون} أي جزيتهم بصبرهم الفوز بالجنة {قال} يعني أن الله قال للكفار يوم البعث {كم لبثتم في الأرض} أي في الدنيا وفي القبور {عدد سنين قالوا لبثنا يومًا أو بعض يوم} معناه أنهم نسوا مدة لبثهم في الدنيا لعظم ما هم بصدده من العذاب {فاسأل العادين} يعني الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم ويحصونها عليهم {قال إن لبثتم} أي ما لبثتم في الدينا {إلاّ قليلا} سماه قليلا لأن المرء وإن طال لبثه في الدنيا. فإنه يكون قليلا في جنب ما يلبث في الآخرة {لو أنكم كنتم تعلمون} يعني قدر لبثكم في الدنيا.
قوله عز جلّ: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا} أي لعبًا وباطلًا لا لحكمة وقيل العبث معناه لتلعبوا وتعبثوا كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب وإنما خلقتم للعبادة وإقامة أوامر الله عز وجلّ {وأنكم إلينا لا ترجعون} أي في دار الآخرة للجزاء.
روى البغوي بسنده عن الحسن: أن رجلًا مصابًا مرّ به على ابن مسعود فرقاه في أذنه أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا ترجعون حتى ختم السورة فبرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بماذا رقيت في أذنه فأخبره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لو أن رجلًا موقنًا قرأها على الجبل لزال» ثم نزه الله تعالى عمّا يصفه به المشركون فقال عز وجلّ {فتعالى الله الملك الحق} أي هو التام الملك الجامع لأصناف المملوكات {لا إله إلا هو رب العرش الكريم} أي الحسن وقيل الرفيع المرتفع وإنما خصّ العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات {ومن يدع مع الله إلهًا آخر لا برهان له به} يعني لا حجة ولا بينة له به إذ لا يمكن إقامة برهان ولا دليل على إلهية غير الله ولا حجة في دعوى الشرك {فإنما حسابه} أي جزاؤه {عند ربه} أي هو مجازيه بعلمه {إنه لا يفلح الكافرون} يعني لا يسعد من جحد وكذب {وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين}. اهـ.

.قال ابن جزي:

{وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ} الآية:
قال الأكثرون: نزلت هذه الآية حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش بالقحط فنالهم الجوع حتى أكلوا الجلود وغيرها، فالمعنى رحمناهم بالخصب وكشفنا ما بهم من ضرّ الجوع والقحط: لتمادوا على طغيانهم، وفي هذا عندي نظر، فإنَّ الآية مكية باتفاق، وإنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم على قريش بعد الهجرة حسبما ورد في الحديث، وقيل: المعنى لو رحمناهم بالرد إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه، وهذا القول لا يلزم عليه ما لزم على الآخر، ولكنه خرج عن معنى الآية: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب} قيل: إن هذا العذاب هو الجوع بالقحط، وأن الباب ذا العذاب الشديد المتوعد به بعد هذا يوم بدر، وهذا مردود بأن العذاب الذي أصابهم إنما كان بعد بدر، وقيل إن العذاب الذي أخذهم هو يوم بدر، والباب المتوعد به هو القحط، وقيل: الباب ذو العذاب الشديد: عذاب الآخرة، وهذا أرجح، ولذلك وصفه بالشدّة لأنه أشد من عذاب الدنيا، وقال: {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}: أي يائسون من الخير، وإنما يقع لهم اليأس في الآخرة كقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُبْلِسُ المجرمون} [الروم: 12].
{فَمَا استكانوا} أي ما تذللوا لله عز وجل، وقد تقدم الكلام على هذه الكلمة في آخر [آل عمران: 146] {وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} إن قيل: هلا قال: فما استكانوا وما تضرعوا، أو فما يستكينون وما يتضرعون باتفاق الفعلين في الماضي أو في الاستقبال؟ فالجواب: أن ما استكانوا عند العذاب الذي أصابهم، وما يتضرعون حتى يفتح عليهم باب عذاب شديد فنفى الاستكانة فيما مضى، ونفى التضرع، في الحال والاستقبال.
{قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} ما زائدة، وقليلًا صفة لمصدر محذوف تقديره: شكرًا قليلًا تشكرون وذكر السمع والبصر والأفئدة وهي القلوب لعظم المنافع التي فيها، فيجب شكر خالقها؛ ومن شكره: توحيده واتباع رسوله عليه الصلاة السلام، ففي ذكرها تعديد نعمة وإقامة حجة {ذَرَأَكُمْ فِي الأرض} أي نشركم فيها.
{وَلَهُ اختلاف الليل والنهار} أي هو فاعله ومختص به فاللام على هذا للاختصاص، وقد ذكر في البقرة معنى اختلاف الليل والنهار.
{بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأولون} أي قالت قريش مثل قول الأمم المتقدمة، ثم فسر قولهم بإنكارهم البعث، وإليه الإشارة بقولهم: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هذا}، وقد ذكر الاستفهامان في الرعد، وأساطير الأولين في الأنعام.
{قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ} هذه الآيات توقيف لهم على أمور لا يمكنهم الإقرار بها، وإذا أقروا بها لزمهم توحيد خالقها والإيمان بالدار الآخرة {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} قرىء في الأول لله باللام بإجماع، جوابًا لقوله: {لِّمَنِ الأرض}، وكذلك قرأ الجمهور الثاني والثالث، وذلك على المعنى لأن قوله: {مَن رَّبُّ السماوات} في معنى لمن هي، وقرأ أبو عمرو الثاني والثالث بالرفع على اللفظ {مَلَكُوتُ} مصدر وفي بنائه مبالغة {يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ} الإجازة المنع من الإهانة، يقال: أجرت فلانًا على فلان، إذا منعته من مضرته وإهانته، فالمعنى أن الله تعالى بغيث من شاء ممن شاء، ولا يغيب أحد منه أحدًا {فأنى تُسْحَرُونَ} أي تخدعون عن الحق والخادع لهم الشيطان، وذلك تشبيه بالسحر في التخطيط والوقوع في الباطل، ورتب هذه التوبيخات الثلاثة بالتدريج فقال أولًا: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} ثم قال ثانيًا: {أَفَلاَ تَتَّقُونَ}، وذلك أبلغ، لأن فيه زيادة تخويف، ثم قال ثالثًا: {فأنى تُسْحَرُونَ} وفيه من التوبيخ ما ليس في غيره {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} يعني فيما ينسبون لله من الشركاء والأولاد، ولذلك رد عليهم بنفي ذلك.
{إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ} هذا برهان على الوحدانية، وبيانه أن يقال: لو كان مع الله إلهًا آخر لانفرد كل وا حد منهما بمخلوقاته عن مخلوقات الآخر، واستبدّ كل واحد منهما بملكه، وطلب غلبة الآخر والعلوّ عليه كما ترى حال ملوك الدنيا، ولكن لما رأينا جميع المخلوقات مرتبطة بعضها ببعض حتى كأن العالم كله كرة واحدة: علمنا أن مالكه ومدبره واحد، لا إله غيره. وليس هذا البرهان بدليل التمانع كما فهم ابن عطية وغيره، بل هو دليل آخر، فإن قيل: إذ لا تدخل إلا على كلام هو جزاء وجواب، فكيف دخلت هنا ولم يتقدّم قبلها شرط ولا سؤال سائل؟ فالجواب: أن الشرط محذوف تقديره لو كان معه آلهة وإنما حذف لدلالة قوله: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ}، وهو جواب للكفار الذين وقع الرد عليهم.