فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{لَعَلّى أَعْمَلُ صالحا}، يعني: خالصًا {فِيمَا تَرَكْتُ} في الدنيا.
قال الله تعالى: {كَلاَّ}، وهو رد عليهم، يعني: أنه لا يرد إلى الدنيا.
ثم قال: {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا}، يعني: مقولها ولا تنفعه.
ثم قال: {وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ}، يعني: من بعدهم القبر {إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}، أي والبرزخ ما بين الدنيا والآخرة؛ ويقال: كل حاجز بين الشيئين.
فهو برزخ؛ ويقال: هو بين النفختين؛ وقال قتادة: البرزخ بقية الدنيا؛ وقال الحسن: القبر بين الدنيا والآخرة.
قوله عز وجل: {فَإِذَا نُفِخَ في الصور}، يعني: النفخة الأخيرة، {فَلاَ أنساب بَيْنَهُمْ}؛ يعني: لا ينفعهم {يَوْمَئِذٍ} النسبُ، {وَلاَ يَتَسَاءلُونَ} عن ذلك.
فهذه حالات لا يتساءلون في موضع، ويتساءلون في موضع آخر.
{فَمَن ثَقُلَتْ موازينه}، يعني: رجحت حسناته على سيئاته، {فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون}؛ يعني: الناجون من الآخرة، {وَمَنْ خَفَّتْ موازينه}؛ يعني: رجحت سيئاته على حسناته، {فأُوْلَئِكَ الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ في جَهَنَّمَ خالدون تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار}؛ يعني: تنفح.
قال أهل اللغة: النفح واللفح بمعنى واحد، إلا أن اللفح أشد تأثيرًا وهو الدفع، يعني: تضرب وجوههم النار.
{وَهُمْ فِيهَا}، يعني: في النار، {كالحون}؛ يعني: كلحت وعبست وجوههم، والكالح الذي قد قلصت شفتاه عن أسنانه، ونحو ما تُرى من رؤوس الغنم مشوية إذا بدت الأسنان، يعني: كلحت وجوههم فلم تلتق شفاههم.
وقال ابن مسعود: كالرأس النضوج.
ثم قال: {أَلَمْ تَكُنْ}، يعني: يقال لهم: ألم تكن {تتلى عَلَيْكُمْ فاستكبرتم}، يعني: ألم يكن يقرأ عليكم القرآن فيه بيان هذا اليوم، وما هو كائن فيه؟ {فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ}، يعني: بالآيات.
قوله عز وجل: {قَالُواْ}، يعني: إن الكفار قالوا: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا}، التي كتبت علينا والتي قدرت علينا في اللوح المحفوظ.
{وَكُنَّا قَوْمًا ضَالّينَ} عن الهدى.
قرأ حمزة والكسائي {شقاوتنا} بنصب الشين والألف، وقرأ الباقون {عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} بكسر الشين وسكون القاف بغير ألف.
وروي عن ابن مسعود {شقاوتنا} و{عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} ومعناهما قريب.
{رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا}، يعني: من النار، {فَإِنْ عُدْنَا} إلى الكفر والتكذيب، {فَإِنَّا ظالمون قَالَ}، أي فحينئذٍ يقول الله تعالى: {اخسئوا فِيهَا}، يعني: اصغروا فيها واسكتوا، أي كونوا صاغرين.
{وَلاَ تُكَلّمُونِ}، أي ولا تكلمون بعد ذلك.
قال أبو الليث رحمه الله: حدثنا محمد بن الفضل قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف قال: حدثنا أبو حفص، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي أيوب الأزدي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إن أهل النار يدعون مالكًا، فلا يجيبهم أربعين عامًا، ثم يرد عليهم: إنكم ماكثون. ثم يدعون ربهم: ربنا أخرجنا منها، فإن عدنا فإنا ظالمون. فلا يجيبهم مقدار ما كانت الدنيا مرتين، ثم يجيبهم: {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ}، فوالله ما نبت بعد هذا بكلمة إلا الزفير والشهيق.
وروي عن ابن عباس أنه قال: لما قال الله تعالى: {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ}، فإنما بقت أفواههم وانكسرت ألسنتهم، فمن الأجواف يعوون عواء الكلب؛ ويقال: {اخسئوا} أي تباعدوا تباعد سخط. يقال: خسأت الكلب، إذا زجرته ليتباعد.
ثم بيّن لهم السبب الذي استحقوا تلك العقوبة به، فقال: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ} وهم المؤمنون: {رَبَّنَا ءامَنَّا}، أي صدقنا، {فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الرحمين}.
قوله عز وجل: {فاتخذتموهم سِخْرِيًّا}، يعني: هزوًا، {حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى}؛ يعني: أنساكم الهزء بهم العمل بطاعتي، {وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} في الدنيا.
قرأ عاصم، وابن عامر، وابن كثير، وأبو عمرو {سِخْرِيًّا} بكسر السين، وكذلك في سورة ص، وكانوا يقرؤون في الزخرف بالرفع، قالوا: لأن في هذين الموضعين من الاستهزاء.
وهناك في الزخرف من السخرة والعبودية، فما كان من الاستهزاء فهو بالكسر، وما كان من التسخير فهو بالضم.
وقرأ حمزة والكسائي ونافع {سِخْرِيًّا} كل ذلك بالضم؛ وقال أبو عبيد: هكذا نقرأ، لأنهن يرجعن إلى معنى واحد، وهما لغتان سِخْرِيٌّ وسُخْرِيّ؛ وذكر عن الخليل، وعن سيبويه أن كليهما واحد.
قوله عز وجل: {إِنِى جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صَبَرُواْ}، يعني: جعلت جزاءهم الجنة وهم المؤمنون بما صبروا، يعني: بصبرهم على الأذى وعلى أمر الله تعالى.
{أَنَّهُمْ هُمُ الفائزون}، يعني: الناجون.
قرأ حمزة والكسائي {أَنَّهُمْ} بكسر الألف على معنى الابتداء، والمعنى إني جزيتهم.
ثم أخبر فقال: إنهم هم الفائزون، وقال أبو عبيد، وقرأ الباقون {أَنَّهُمْ} بالنصب أَنِّي جزيتهم لأنهم هم الفائزون؛ وقال أبو عبيد: الكسر أحب إلى على ابتداء المدح من الله تعالى.
قوله عز وجل: {قال كَمْ لَبِثْتُمْ في الأرض عَدَدَ سِنِينَ}، يعني: في القبر؛ ويقال: في الدنيا.
ويروى عن ابن عباس في بعض الروايات أنه قال: لا أدري في الأرض أم في القبر؟ وقال مقاتل: {كَمْ لَبِثْتُمْ} فِي القبر عدد سنين.
{قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ العادين}، قال الأعمش: يعني: الحافظين؛ وقال مقاتل: يعني: ملك الموت وأعوانه، وقال قتادة: يعني: فاسأل الحسَّاب؛ وقال مجاهد: يعني: الملائكة عليهم السلام وهكذا قال السدي.
{قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ} في القبر أو في الدنيا، {إِلاَّ قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}، يعني: لو كنتم تصدقون أنبيائي عليهم السلام في الدنيا، لعرفتم أنكم ما مكثتم في القبور إلا قليلًا.
قرأ حمزة والكسائي وابن كثير: {قال كَمْ لَبِثْتُمْ} على معنى الأمر، وكذلك قوله: {قُلْ إِنْ لَّبِثْتُمْ}، وقرأ الباقون: {قَالَ} بالألف، وقرأ حمزة والكسائي: {فَاسْأَلِ العادين} بغير همز، وقرأ الباقون: {فَاسْأَلِ} بالهمزة.
ثم قال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكم عَبَثًا}، أي لعبًا وباطلًا لغير شيء، يعني: أظننتم أنكم لا تعذبون بما فعلتم؟ {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} بعد الموت.
قرأ حمزة والكسائي: {لاَ تُرْجَعُونَ} بنصب التاء وكسر الجيم، وقرأ الباقون بضم التاء ونصب الجيم، وكذلك التي في القصص قالوا: لأنها من مرجع الآخرة، وما كان من مرجع الدنيا، فقد اتفقوا في فتحه، مثل قوله: {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس: 50].
قال أبو عبيد: وبالفتح نقرأ، لأنهم اتفقوا في قوله تعالى: {وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أهلكناهآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95]، وقال إنهم لاَ يرجعون وَقال: {والذين يُؤْتُونَ مَآ ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ راجعون} [المؤمنون: 60]، كقوله: {الذين إِذَآ أصابتهم مُّصِيبَةٌ قالوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ راجعون} [البقرة: 156]، فأضاف الفعل إليهم.
ثم قال عز وجل: {فتعالى الله الملك الحق}، يقول: ارتفع وتعظم من أن يكون خلق شيئًا عبثًا، وإنما خلق لأمر كائن.
ثم وحد نفسه، فقال: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم}، يعني: السرير الحسن.
قوله عز وجل: {وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ}، يقول: لا حجة له بالكفر ولا عذر يوم القيامة.
{فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ} في الآخرة، يعني: عذابه.
{إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون}، يعني: لا يأمن الكافرون من عذابه؛ ويقال: معناه جزاء كل كافر أنه لا يفلح الكافرون في الآخرة عند ربهم.
قوله عز وجل: {وَقُل رَّبّ اغفر وارحم}، يعني: تجاوز عني.
{وَأَنتَ خَيْرُ الرحمين}، يعني: من الأبوين؛ وهذا قول الحسن، ويقال: من غيرك؛ ويقال: إنما حسابه عند ربه فيجازيه، كما قال: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 26] {وَقُل رَّبّ اغفر وارحم} فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يستغفر للمؤمنين، ويسأل لهم المغفرة؛ ويقال: أمره بأن يستغفر لنفسه، ليعلم غيره أنه محتاج إلى الاستغفار.
كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنِّي أسْتَغْفِرُ الله رَبِّي وَأَتُوبُ إلَى الله فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً، أَوْ قالَ مِائَةَ مَرَّةٍ» والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)}.
التفسير: لما أثبت لنفسه الإلهية بالدلائل الإلزامية في الآيات المتقدمة نفى عن نفسه الأنداد والأضداد بقوله: {ما اتخذ الله من ولد} بقوله: {وما كان معه من إله} وفيه ردّ على القائلين بأن الملائكة بنات الله وإبطال الأقوال اليهود والنصارى والثنوية. ثم ذكر شبه دليل التمانع بقوله: {إذًا لذهب} وهو جواب لمن معه المحاجة من أهل الشرك وجواب الشرط محذوف دل عليه الكلام السابق تقديره: ولو كان معه آلهة لذهب كل إله بما خلق لانفرد كل واحد منهم بالخلق الذي خلقه واستبد به، لأن اجتماعهم على خلق واحد لا يتصور فإن ذلك يقتضي عجز الواحد عن ذلك الخلق، وحينئذ يكون ملك كل واحد منهم متميزًا عن ملك الآخرين.
{ولعلا بعضهم على بعض} أي لغلب بعضهم على بعض كما ترون حال ملوك الدنيا من تمايز الممالك ومن التغالب، وعدم اللازم يدل على عدم الملزوم فلذلك ختم الآية بقوله: {سبحان الله عما يصفون} إلى قوله: {عما يشركون} ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق ومحاسن العادات قائلًا {قل رب إما تريني} أي إن كان لابد من أن تريني ما تعدهم من العذاب في الدنيا أو في الآخرة {فلا تجعلني} قريبًا لهم. وقد يجوز أن يستعيذ العبد بالله مما علم أنه لا يفعله اظهارًا للعبودية واستكانة له ويؤيده تكرار رب مرتين. وكانوا ينكرون العذاب ويسخرون منه فأكد وقوعه بقوله: {وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون} قيل: فيه دليل على أن القدرة تصح على المعدوم لأنه أخبر أنه قادر على تعجيل عقوبتهم ثم لم يفعل ذلك ثم أمره بالصفح عن سيئاتهم ومقابلتها بما يمكن من الإحسان حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان وبذل الاستطاعة فيه كان أحسن لأنها حسنة مضاعفة بإزاء سيئة. أو نقول: المكافأة حسنة ولكن العفو أحسن. عن ابن عباس هي شهادة أن لا إله إلا الله والسيئة الشرك. وعن مجاهد هي أن يسلم عليه إذا لقيه. قيل: هي منسوخة بآية السيف والأولى أن يقال: هي محكمة لأن المداراة مستحبة مالم تؤد إلى محذور {نحن أعلم بما يصفون} مما ليس فيك من المثالب والمراد أنه أقدر على جزائهم فعليه أن يفوض أمرهم إلى الله ويدفع أذاهم بالكلام الجميل والسلام وبيان الأدلة على أحسن الوجوه. ثم أتبع هذا التعميم ما يقويه على ذلك وهو الإستعاذة بالله من همزات الشياطين. والهمز النخس ومنه مهماز الرائض وذلك أنهم يحثون الناس على المعاصي بأنواع الوساوس كما يحث الرائض الدابة على المشي بالمهماز وهي حديدة تكون في مؤخر خفه. عن الحسن أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول بعد استفتاح الصلاة «اللهم إني أعوذ بك من همزات الشياطين همزه ونفخه ونفثه» فهمزه الجنون ونفثه الشعر ونفخه الكبر.
ثم أمره بالتعوّذ من أن يحضروه أصلًا كما يقال: أعوذ بالله من خصومتك بل أعوذ بالله من لقائك. وعن ابن عباس أراد الحضور عند تلاوة القرآن. وعن عكرمة عند النزع والأولى العموم عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد اشتكى إليه رجل أرقًا به فقال: «إذا أردت النوم فقل أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون» قوله: {حتى إذا جاء} قيل: متعلق بقوله: {وإنهم لكاذبون} وقيل: ب {يصفون} اي لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت وما بينهما اعتراض وتأكيد للإعضاء عنهم مستعينًا بالله على الشيطان أن يستزله عن الحلم.