فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخطيب الشربيني:

{ولو رحمناهم}.
أي: عاملناهم معاملة المرحوم في إزالة ضرره وهو معنى قوله تعالى: {وكشفنا ما بهم من ضر} أي: جوع أصابهم بمكة سبع سنين {للجوا} أي: عادوا وتمادوا {في طغيانهم} الذي كانوا عليه قبل هذا {يعمهون} أي: يترددون.
{ولقد أخذناهم بالعذاب} وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم دعا على قريش أنّ يجعل عليهم سنين كسني يوسف، فأصابهم القحط، فجاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقال: «بلى»، فقال: قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، فقد أكلوا الفرث والعظام والعلهز وشكا إليه الضرع فادع الله تعالى يكشف عنا هذا القحط فدعا فكشف عنهم فأنزل الله تعالى هذه الآية.
تنبيه: العلهز وبر يخلط بدماء اللحم، فيؤكل في الجدب والعلهز أيضًا: القراد الضخم، وشكا بعض الأعراب إلى النبي صلى الله عليه وسلم السنة فقال:
ولا شي مما يأكل الناس عندنا ** سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل

وليس لنا إلا إليك فرارنا ** وأين فرار الناس إلا إلى الرسل

فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم واستسقى لرفع هذه المحن. فقال الله تعالى عنهم: {فما استكانوا} أي: خضعوا خضوعًا هو كالجبلة لهم وأصله طلب السكون {لربهم} أي: المحسن إليهم عقب المحنة {وما يتضرعون} أي: يجددون الدعاء بالخضوع والذل والخشوع في كل وقت بحيث يكون لهم عادة بل هم على ما جبلوا عليه من الاستكبار والعتو.
{حتى إذا فتحنا عليهم بابًا ذا} أي: صاحب {عذاب شديد} قال ابن عباس: يعني القتل يوم بدر، وهو قول مجاهد، وقيل: هو الموت، وقيل: هو قيام الساعة {إذا هم فيه} أي: ذلك الباب مطروحون لا يقدرون منه على نوع خلاص {مبلسون} متحيرون آيسون من كل خير، ثم إنه سبحانه التفت إلى خطابهم وبين عظيم نعمته من وجوه:
أحدها: ما ذكره بقوله تعالى:
أي: خلق {لكم} يا من يكذب بالآخرة {السمع} بمعنى الإسماع {والأبصار} على غير مثال سبق لتحسنوا بها ما نصب من الآيات {والأفئدة} أي: التي هي مراكز العقول فتتفكروا في الآيات وتستدلوا بها على الوحدانية فكنتم بها أعلى من بقية الحيوان جمع فؤاد وهو القلب، وإنما خص هذه الثلاثة بالذكر؛ لأنه يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية ما لا يتعلق بغيرها، فمن لم يعملها فيما خلقت له، فهو بمنزلة عادمها كما قال عز وجل: {فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله} الأحقاف، ولما صور لهم هذه النعم وهي بحيث لا يشك عاقل في أنه لو تصور أنّ يعطي آدمي شيئًا منها لم يقدر على مكافأته حسن تبكيتهم في كفر النعم، فقال تعالى: {قليلًا ما تشكرون} لمن أولاكم هذه النعم التي لا يقدر غيره على شيء منها مع ادعائكم أنكم أشكر الناس لمن أسدى إليكم أقل ما يكون من النعم التي يقدر على مثلها كل أحد، فكنتم بذلك مثل الحيوانات العجم صمًا بكمًا عميًا؛ قال أبو مسلم: ليس المراد أنّ لهم شكرًا وإن قل، لكنه يقال للكفور الجاحد النعمة ما أقل شكر فلان.
ثانيها: ما ذكره في قوله تعالى: {وهو} أي: وحده {الذي ذرأكم} أي: خلقكم وبثكم {في الأرض} للتناسل {وإليه} وحده {تحشرون} يوم النشور.
ثالثها: ما ذكره بقوله تعالى: {وهو} أي: وحده {الذي} من شأنه أنه {يحي ويميت} فلا مانع له من البعث ولا غيره مما يريده.
رابعها: ما ذكره بقوله تعالى: {وله اختلاف الليل والنهار} أي: التصرف فيهما بالسواد والبياض والزيادة والنقصان {أفلا تعقلون} أي: بالنظر والتأمل أنّ الكل منا وأن قدرتنا تعم الممكنات كلها، وأن البعث من جملتها فتعتبرون، ولما كان معنى الاستفهام الإنكاري النفي حسن بعده بقوله تعالى: {بل قالوا} أي: هؤلاء العرب {مثل ما قال الأولون} من قوم نوح ومن بعدهم فقالوا ذلك تقليدًا للأولين، ثم حكى الشبهة عنهم من وجهين: أحدهما: ما ذكره بقوله تعالى: {قالوا} أي: منكرين للبعث متعجبين من أمره {أئذا متنا وكنا} أي: بالبلاء بعد الموت {ترابًا وعظامًا} نخرة، ثم أكدوا الإنكار بقولهم: {أئنا لمبعوثون} أي: لمحشورون بعد ذلك قالوا ذلك استبعادًا ولم يتأملوا أنهم قبل ذلك أيضًا كانوا ترابًا فخلقوا. ثانيهما: ما ذكره بقوله تعالى إنهم قالوا: {لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا} أي: البعث بعد الموت {من قبل} كأنهم قالوا: إن هذا الوعد كما وقع منه صلى الله عليه وسلم فقد وقع قديمًا من سائر الأنبياء ولم يوجد مع طول العهد، وظنوا أنّ الإعادة تكون في دار الدنيا، ثم قالوا: {إن} أي: ما {هذا إلا أساطير} أي: أكاذيب {الأولين} كالأضاحيك والأعاجيب جمع أسطورة بالضم، وقيل: جمع أسطار جمع سطر؛ قال رؤبة:
إني وأسطار سطرن سطرا

وهو ما كتبه الأولون مما لا حقيقة له.
ولما أنكروا البعث هذا الإنكار المؤكد ونفوه هذا النفي المحتم أمره الله تعالى أنّ يقررهم بثلاثة أشياء هم بها مقرون، ولها عارفون يلزمهم من تسليمها الإقرار بالبعث قطعًا:
أحدها: قوله تعالى: {قل} أي: مجيبًا لإنكارهم البعث ملزمًا لهم {لمن الأرض} أي: على سعتها وكثرة عجائبها {ومن فيها} على كثرتهم واختلافهم {إن كنتم} أي: مما هو كالجبلة لكم {تعلمون} أي: أهلًا للعلم وفيه تنبيه على أنهم أنكروا شيئًا لا ينكره عاقل، ولما كانوا مقرين بذلك أخبر تعالى عن جوابهم قبل جوابهم ليكون من دلائل النبوة وإعلام الرسالة بقوله تعالى استئنافًا: {سيقولون} أي: قطعًا ذلك كله {لله} أي: المختص بصفات الكمال، ثم إنه تعالى أمره بقوله: {قل} أي: لهم إذا قالوا لك ذلك منكرًا عليهم {أفلا تذكرون} أي: في ذلك المركوز في طباعكم المقطوع به عندكم ما غفلتم عنه من تمام قدرته وباهر عظمته فتصدقوا ما أخبر به من البعث الذي هو دون ذلك، وتعلموا أنه لا يصلح شيء منها وهو ملكه أنّ يكون شريكًا له تعالى ولا ولدًا وتعلموا أنّ القادر على الخلق ابتداءً قادر على الإحياء بعد الموت، وأنه لا يصح في الحكمة أصلًا أنّ يترك البعث لأنّ أقلكم لا يرضى بترك حساب عبيده والعدل بينهم، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد بإدغام التاء الثانية في الذال.
ثانيها: قوله تعالى: {قل} أي: لهم {من رب} أي: خالق ومدبر {السموات السبع} كما تشاهدون من حركاتها وسير أفلاكها {ورب العرش} أي: الكرسي {العظيم} كما قال تعالى: {وسع كرسيه السماوات والأرض} البقرة.
{سيقولون لله} أي: الذي له كل شيء هو رب ذلك لا جواب لهم غير ذلك، ولما تأكد الأمر وزاد الوضوح حسن التهديد على التمادي فقال تعالى: {قل} أي: منكرًا عليهم {أفلا تتقون} أي: تحذرون عبادة غيره.
ثالثها قوله: {قل} أمره الله تعالى بعدما قرّرهم بالعالمين العلوي والسفلي أن يقرّرهم بما هو أعم وأعظم وهو قوله تعالى: {من بيده} أي: من تحت قدرته ومشيئته {ملكوت كل شيء} من إنس وجن وغيرهما، والملكوت: الملك البليغ، قال ابن الأثير: كانت العرب إذا كان السيد فيهم أجار أحدًا لا يخفر جواره، وليس لمن دونه أن يجير عليه لئلا يعاب عليه، ولو أجار ما أفاد، ولهذا قال تعالى: {وهو يجير} أي: يمنع ويغيث من شاء فيكون في حرز لا يقدر أحد على الدنو من ساحته {ولا يجار عليه} أي: ولا يمكن أحدًا أبدًا أن يجير جوارًا يكون مستعليًا عليه بأن يكون على غير مراده بل يأخذ من أراد وإن نصره جميع الخلائق ويعلي من أراد وإن تحاملت عليه كل المصائب فتبين كالشمس أنه لا شريك يمانعه ولا ولد يضارعه، وأنه السيد العظيم الذي لا أعظم منه، الذي له الخلق والأمر ولا معقب لحكمه وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ثم ألهبهم إلى المبادرة إلى الاعتراف به وهيجهم بقوله تعالى: {إن كنتم تعلمون} أي: في عداد من يعلم، ولذلك استأنف قوله تعالى: {سيقولون لله} أي: الذي بيده ذلك خاصًا به.
تنبيه: سيقولون لله الأول لا خلاف فيها، وأما الثانية والثالثة فقرأ أبو عمرو: سيقولون الله بزيادة همزة الوصل مع التفخيم فيهما، ورفع الهاء والباقون بغير همز الوصل مع الترقيق وكسر الهاء والتقدير ذلك كله لله، ولما كان جوابهم بذلك يقتضي إنكار توقفهم في الإقرار بالبعث استأنف قوله تعالى: {قل} أي: لهم منكرًا عليهم {فأنى تسخرون} أي: فكيف بعد إقراركم بهذا كله تخدعون وتصرفون عن الحق وكيف يخيل لكم أنه باطل، ولما كان الإنكار بمعنى النفي حسن قوله تعالى: {بل} أي: ليس الأمر كما يقولون بل {أتيناهم بالحق} أي: بالصدق من التوحيد والوعد بالنشور {وإنهم لكاذبون} في كل ما ادعوه من الولد والشريك وغيرهما مما بين القرآن فساده ومن أعظم كذبهم قولهم: {اتخذ الرحمن ولدًا} مريم.
قال تعالى ردًا عليهم: {ما اتخذ الله} أي: الذي لا كفء له {من ولد} أي: لا من الملائكة ولا من غيرهم لما قام من الأدلة على غناه وأنه لا مجانس له، ولما كان الولد أخص من مطلق الشريك قال تعالى: {وما كان معه} أي: بوجه من الوجوه {من إله} يشابهه في الألوهية {إذًا} لو كان معه إله آخر {لذهب كل إله بما خلق} بالتصرف فيه وحده ليتميز ما له مما لغيره.
فإن قيل: إذًا لا تدخل إلا على كلام هو جزاء وجواب، فكيف وقع قوله تعالى: {لذهب} جزاءً وجوابًا، ولم يتقدمه شرط ولا سؤال سائل؟
أجيب: بأن الشرط محذوف تقديره ولو كان معه آلهة، وإنما حذف لدلالة قوله تعالى: {وما كان معه من إله} عليه وهو جواب لمن معه المحاجة من المشركين {ولعلا بعضهم} أي: بعض الآلهة {على بعض} إذا تخالفت أوامرهم، فلم يرض أحد منهم أن يضاف ما خلقه إلى غيره، ولا أن يمضي فيه أمر على غير مراده كما هو مقتضى العادة، فلا يكون المغلوب إلهًا لعجزه ولا يكون مجيرًا غير مجار عليه بيده وحده ملكوت كل شيء. ولما طابق الدليل الإلزامي نفي الشريك نزه نفسه الشريفة بما هو نتيجة ذلك من قوله تعالى: {سبحان الله} أي: المتصف بجميع صفات الكمال المنزه عن شائبة كل نقص {عما يصفون} من كل ما لا يليق بجناية المقدس من الأنداد والأولاد لما سبق من الدليل على فساده، ثم أقام دليلًا آخر على كماله يوصفه بقوله تعالى: {عالم الغيب والشهادة} أي: ما غاب وما شوهد، وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي برفع الميم على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هو، والباقون بالخفض على أنه صفة لله، ثم رتب على هذا الدليل قوله تعالى: {فتعالى} أي: تعاظم {عما يشركون} معه من الآلهة.
ثم إن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {قل رب} أي: أيها المحسن إلى {إما} فيه إدغام نون إن الشرطية في ما الزائدة أي: إن كان لابد أن {تريني} لأنَّ ما والنون للتأكيد {ما يوعدون} من العذاب في الدنيا والآخرة. {رب فلا تجعلني} بإحسانك إلى {في القوم الظالمين} أي: قرينا لهم في العذاب.
فإن قيل: كيف يجوز أن يجعل الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم المعصوم مع الظالمين حتى يطلب أن لا يجعله معهم؟
أجيب: بأنه يجوز أن يسأل العبد ربه ما علم أنه يفعله، وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله إظهارًا للعبودية وتواضعًا لربه وإخباتًا له واستغفاره صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلسه سبعين مرة أو مائة مرة لذلك وما أحسن قول الحسن في قول أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: وليتكم ولست بخيركم، كان يعلم أنه خيرهم ولكن المؤمن يهضم نفسه وإنما ذكر ربه مرتين مرة قبل الشرط، ومرة قبل الجزاء مبالغة في التضرع.
{وإنا} أي: بما لنا من العظمة {على أن نريك} أي: قبل موتك {ما نعدهم} من العذاب {لقادرون} لكنا نؤخره علمًا بأن بعضهم أو بعض أعقابهم يؤمنون وهو صادق بالقتل يوم بدر أو فتح مكة، ثم كأنه قال: فماذا أفعل فيما تعلم من أمرهم، فقال تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن} أي: من الأقوال والأفعال بالصفح والمداراة {السيئة} أذاهم إياك وهذا قبل الأمر بالقتال فهي منسوخة، وقيل: محكمة لأن المداراة محثوث عليها ما لم تؤد إلى نقصان دين أو مروءة {نحن أعلم بما يصفون} في حقك وحقنا، فلو شئنا منعناهم منه أو عاجلناهم بالعذاب، وليس أحد بأغير منا فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل.
ولما أدب سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يدفع بالتي هي أحسن علمه ما به يقوى على ذلك بقوله تعالى: {وقل رب} أي: أيها المحسن إلى {أعوذ بك} أي: ألتجىء إليك {من همزات الشياطين} أي: أن يصلوا إلى بوساوسهم، وأصل الهمز النخس ومنه مهماز الرائض شبه حثهم الناس على المعاصي بهمز الرائض الدواب على المشي وإنما جمع همزات لتنوع الوسواس أو لتعدد المضاف إليه.