فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)}.
{حتى} هي الابتدائية دخلت على الجملة الشرطية، وهي مع ذلك غاية لما قبلها متعلقة بقوله: {لكاذبون} وقيل: ب {يصفون} والمراد بمجيء الموت: مجيء علاماته {قَالَ رَبّ ارجعون} أي قال ذلك الواحد الذي حضره الموت تحسرًا وتحزنًا على ما فرط منه: رب ارجعون، أي ردوني إلى الدنيا، وإنما قال: ارجعون بضمير الجماعة لتعظيم المخاطب.
وقيل: هو على معنى تكرير الفعل، أي ارجعني ارجعني ارجعني، ومثله قوله: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24].
قال المازني: معناه ألق ألق، وهكذا قيل في قول امرىء القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

ومنه قول الحجاج: يا حرسي اضربا عنقه.
ومنه قول الشاعر:
ولو شئت حرمت النساء سواكم

وقول الآخر:
ألا فارحموني يا إله محمد

وقيل: إنهم لما استغاثوا بالله قال قائلهم: {ربّ} ثم رجع إلى مخاطبة الملائكة فقال: {ارجعون لَعَلّي أَعْمَلُ صالحا} أي: أعمل عملًا صالحًا في الدنيا إذا رجعت إليها من الإيمان وما يتبعه من أعمال الخير، ولما تمنى أن يرجع ليعمل ردّ الله عليه ذلك بقوله: {كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} فجاء بكلمة الردع والزجر، والضمير في: {إنها} يرجع إلى قوله: {رَبّ ارجعون} أي إن هذه الكلمة هو قائلها لا محالة، وليس الأمر على ما يظنه من أنه يجاب إلى الرجوع إلى الدنيا، أو المعنى: أنه لو أجيب إلى ذلك لما حصل منه الوفاء، كما في قوله: {وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28].
وقيل: إن الضمير في: {قائلها} يرجع إلى الله، أي لا خلف في خبره، وقد أخبرنا بأنه لا يؤخر نفسًا إذا جاء أجلها {وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ} أي من أمامهم وبين أيديهم.
والبرزخ هو: الحاجز بين الشيئين. قاله الجوهري.
واختلف في معنى الآية، فقال الضحاك ومجاهد وابن زيد: حاجز بين الموت والبعث.
وقال الكلبي: هو الأجل ما بين النفختين، وبينهما أربعون سنة.
وقال السديّ: هو الأجل، و{إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} هو يوم القيامة.
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور} قيل: هذه هي النفخة الأولى.
وقيل: الثانية، وهذا أولى، وهي النفخة التي تقع بين البعث والنشور.
وقيل: المعنى: فإذا نفخ في الأجساد أرواحها، على أن الصور جمع صورة، لا القرن ويدلّ على هذا قراءة ابن عباس والحسن: {الصور} بفتح الواو مع ضم الصاد جمع صورة.
وقرأ أبو رزين بفتح الصاد والواو، وقرأ الباقون بضم الصاد وسكون الواو، وهو القرن الذي ينفخ فيه {فَلاَ أنساب بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ} أي لا يتفاخرون بالأنساب ويذكرونها لما هم فيه من الحيرة والدهشة {وَلاَ يَتَسَاءلُونَ} أي لا يسأل بعضهم بعضًا، فإن لهم إذ ذاك شغلًا شاغلًا، ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وصاحبته وَبَنِيهِ} [عبس: 34 36].
وقوله: {وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} [المعارج: 10].
ولا ينافي هذا ما في الآية الأخرى من قوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} [الطور: 25].
فإن ذلك محمول على اختلاف المواقف يوم القيامة، فالإثبات باعتبار بعضها، والنفي باعتبار بعض آخر كما قررناه في نظائر هذا، مما أثبت تارة ونفي أخرى.
{فَمَن ثَقُلَتْ موازينه} أي موزوناته من أعماله الصالحة {فأولئك هُمُ المفلحون} أي الفائزون بمطالبهم المحبوبة، الناجون من الأمور التي يخافونها {وَمَنْ خَفَّتْ موازينه} وهي أعماله الصالحة {فأولئك الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} أي ضيعوها وتركوا ما ينفعها {فِي جَهَنَّمَ خالدون} هذا بدل من صلة الموصول، أو خبر ثانٍ لاسم الإشارة، وقد تقدّم الكلام على هذه الآية مستوفى فلا نعيده، وجملة: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار} مستأنفة، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال، أو تكون خبرًا آخر لأولئك، واللفح: الإحراق، يقال: لفحته النار: إذا أحرقته، ولفحته بالسيف: إذا ضربته، وخصّ الوجوه؛ لأنها أشرف الأعضاء {وَهُمْ فِيهَا كالحون} هذه الجملة في محل نصب على الحال.
والكالح: الذي قد تشمرت شفتاه وبدت أسنانه، قاله الزجاج. ودهر كالح، أي شديد.
قال أهل اللغة: الكلوح: تكشر في عبوس.
وجملة {أَلَمْ تَكُنْ ءاياتي تتلى عَلَيْكُمْ} هي على إضمار القول، أي يقال لهم ذلك توبيخًا وتقريعًا أي: ألم تكن آياتي تتلى عليكم في الدنيا {فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ}.
وجملة: {قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} مستأنفة جواب سؤال مقدّر، أي غلبت علينا لذّاتنا وشهواتنا، فسمي ذلك شقوة؛ لأنه يؤول إلى الشقاء.
قرأ أهل المدينة، وأبو عمرو وعاصم: {شقوتنا} وقرأ الباقون: {شقاوتنا} وهذه القراءة مروية عن ابن مسعود والحسن {وَكُنَّا قَوْمًا ضَالّينَ} أي بسب ذلك فإنهم ضلوا عن الحق بتلك الشقوة.
ثم طلبوا ما لا يجابون إليه فقالوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظالمون} أي فإن عدنا إلى ما كنا عليه من الكفر وعدم الإيمان فإنا ظالمون لأنفسنا بالعود إلى ذلك، فأجاب الله عليهم بقوله: {قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ} أي اسكنوا في جهنم.
قال المبرد: الخسء: إبعاد بمكروه، وقال الزجاج: تباعدوا تباعد سخط وأبعدوا بعد الكلب. فالمعنى على هذا: أبعدوا في جهنم. كما يقال للكلب: اخسأ، أي ابعد، خسأت الكلب خسًا: طردته، {ولا تكلمون} في إخراجكم من النار ورجوعكم إلى الدنيا، أو في رفع العذاب عنكم، وقيل: المعنى: لا تكلمون رأسًا.
ثم علل ذلك بقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ} وهم المؤمنون.
وقيل: الصحابة، يقولون: {رَبَّنَا ءامَنَّا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الرحمين} قرأ الجمهور: {إنه كان فريق} بكسر إن استئنافًا تعليليًا، وقرأ أبيّ بفتحها {فاتخذتموهم سِخْرِيًّا} قرأ نافع وحمزة والكسائي بضمّ السين، وقرأ الباقون بكسرها.
وفرّق بينهما أبو عمرو فجعل الكسر من جهة الهزو، والضم من جهة السُّخْرة.
قال النحاس: ولا يعرف هذا الفرق الخليل، ولا سيبويه ولا الكسائي ولا الفرّاء، وحكى الثعلبي عن الكسائي: أن الكسر بمعنى الاستهزاء والسخرية بالقول، والضم بمعنى: التسخير والاستعباد بالفعل {حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي} أي اتخذتموهم سخريًا إلى هذه الغاية فإنهم نسوا ذكر الله لشدّة اشتغالهم بالاستهزاء {وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} في الدنيا، والمعنى: حتى نسيتم ذكري باشتغالكم بالسخرية والضحك، فنسب ذلك إلى عباده المؤمنين لكونهم السبب.
وجملة: {إِنِي جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صَبَرُواْ} مستأنفة لتقرير ما سبق، والباء في: {بما صبروا} للسببية {أَنَّهُمْ هُمُ الفائزون} قرأ حمزة والكسائي بكسر الهمزة على الاستئناف، وقرأ الباقون بالفتح، أي لأنهم الفائزون، ويجوز أن يكون منصوبًا على أنه المفعول الثاني للفعل {قال كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ} القائل هو الله عز وجلّ وتذكيرًا لهم كم لبثوا، لما سألوا الرجوع إلى الدنيا بعد أن أخبرهم بأن ذلك غير كائن، كما في قوله: {اخسئوا فيها}، والمراد بالأرض: هي الأرض التي طلبوا الرجوع إليها، ويحتمل أن يكون السؤال عن جميع ما لبثوه في الحياة وفي القبور.
وقيل: هو سؤال عن مدة لبثهم في القبور لقوله: {في الأرض} ولم يقل: على الأرض، وردّ بمثل قوله تعالى: {وَلاَ تُفْسِدُواْ في الأرض} [الأعراف: 56].
وانتصاب {عدد سنين} على التمييز، لما في {كم} من الإبهام {وسنين} بفتح النون على أنها نون الجمع، ومن العرب من يخفضها وينوّنها.
{قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} استقصروا مدّة لبثهم لما هم فيه من العذاب الشديد.
وقيل: إن العذاب رفع عنهم بين النفختين، فنسوا ما كانوا فيه من العذاب في قبورهم.
وقيل: أنساهم الله ما كانوا فيه من العذاب من النفخة الأولى إلى النفخة الثانية.
ثم لما عرفوا ما أصابهم من النسيان لشدّة ما هم فيه من الهول العظيم أحالوا على غيرهم فقالوا: {فَاسْأَلِ العادين} أي: المتمكنين من معرفة العدد، وهم الملائكة؛ لأنهم الحفظة العارفون بأعمال العباد وأعمارهم.
وقيل: المعنى: فاسأل الحاسبين العارفين بالحساب من الناس.
وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: {قل كم لبثتم في الأرض} على الأمر، والمعنى: قل يا محمد للكفار، أو يكون أمرًا للملك بسؤالهم، أو التقدير: قولوا كم لبثتم، فأخرج الكلام مخرج الأمر للواحد، والمراد: الجماعة.
وقرأ الباقون: {قال كم لبثتم} على أن القائل هو الله عز وجلّ أو الملك.
{قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلًا} قرأ حمزة والكسائي: {قل إن لبثتم} كما في الآية الأولى، وقرأ الباقون: {قال} على الخبر، وقد تقدّم توجيه القراءتين، أي ما لبثتم في الأرض إلا لبثًا قليلًا {لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} شيئًا من العلم، والجواب محذوف، أي لو كنتم تعلمون لعلمتم اليوم قلة لبثكم في الأرض أو في القبور أو فيهما، فكل ذلك قليل بالنسبة إلى لبثهم.
ثم زاد سبحانه في توبيخهم فقال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكم عَبَثًا} الهمزة للتوبيخ والتقرير، والفاء للعطف على مقدّر كما تقدّم بيانه في مواضع، أي ألم تعلموا شيئًا فحسبتم، وانتصاب {عبثًا} على الحال، أي عابثين، أو على العلة، أي للعبث.
قال بالأوّل سيبويه وقطرب، وبالثاني أبو عبيدة، وقال أيضًا: يجوز أن يكون منتصبًا على المصدرية، وجملة: {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} معطوفة على {أنما خلقناكم عبثًا} والعبث في اللغة: اللعب، يقال: عبث يعبث عبثًا فهو عابث، أي لاعب، وأصله من قولهم: عبثت الأقط، أي خلطته، والمعنى: أفحسبتم أن خلقناكم للإهمال كما خلقت البهائم ولا ثواب ولا عقاب، وأنكم إلينا لا ترجعون بالبعث والنشور فنجازيكم بأعمالكم، قرأ حمزة والكسائي: {ترجعون} بفتح الفوقية وكسر الجيم مبنيًا للفاعل، وقرأ الباقون على البناء للمفعول.
وقيل: إنه يجوز عطف وأنكم إلينا لا ترجعون على {عبثًا} على معنى: أنما خلقناكم للعبث ولعدم الرجوع.
ثم نزّه سبحانه نفسه فقال: {فتعالى الله} أي: تنزّه عن الأولاد والشركاء أو عن أن يخلق شيئًا عبثًا، أو عن جميع ذلك، وهو {الملك} الذي يحق له الملك على الإطلاق {الحق} في جميع أفعاله وأقواله {لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم} فكيف لا يكون إلها وربًا، لما هو دون العرش الكريم من المخلوقات؟ ووصف العرش بالكريم لنزول الرحمة والخير منه، أو باعتبار من استوى عليه، كما يقال: بيت كريم: إذا كان ساكنوه كرامًا.