فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قرأ أبو جعفر وابن محيصن وإسماعيل وأبان بن ثعلب: {الكريم} بالرفع على أنه نعت لربّ، وقرأ الباقون بالجرّ على أنه نعت للعرش.
ثم زيف ما عليه أهل الشرك توبيخًا لهم وتقريعًا فقال: {وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا ءاخَرَ} يعبده مع الله أو يعبده وحده، وجملة {لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} في محل نصب صفة لقوله: إلها، وهي صفة لازمة جيء بها للتأكيد، كقوله: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38].
والبرهان: الحجة الواضحة والدليل الواضح، وجواب الشرط قوله: {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ}.
وجملة: {لا برهان له به} معترضة بين الشرط والجزاء، كقولك: من أحسن إلى زيد لا أحقّ منه بالإحسان، فالله مثيبه.
وقيل: إن جواب الشرط قوله: لا برهان له به على حذف فاء الجزاء كقول الشاعر:
من يفعل الحسنات الله يشكرها... {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون} قرأ الحسن وقتادة بفتح أن على التعليل، وقرأ الباقون بالكسر على الاستئناف، وقرأ الحسن: {لا يفلح} بفتح الياء واللام مضارع فلح بمعنى أفلح.
ثم ختم هذه السورة بتعليم رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدعوه بالمغفرة والرحمة فقال: {وَقُل رَّبّ اغفر وارحم وَأنتَ خَيْرُ الراحمين} أمره سبحانه بالاستغفار لتقتدي به أمته.
وقيل: أمره بالاستغفار لأمته.
وقد تقدّم بيان كونه أرحم الراحمين، ووجه اتصال هذا بما قبله أنه سبحانه لما شرح أحوال الكفار أمر بالانقطاع إليه والالتجاء إلى غفرانه ورحمته.
وقد أخرج ابن أبي الدنيا في ذكر الموت وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: إذا أدخل الكافر في قبره فيرى مقعده من النار {قَالَ رَبّ ارجعون} أتوب أعمل صالحًا، فيقال له: قد عمرت ما كنت معمرًا، فيضيق عليه قبره، فهو كالمنهوش ينازع ويفزع تهوي إليه حيات الأرض وعقاربها.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج قال: زعموا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: «إن المؤمن إذا عاين الملائكة قالوا: نرجعك إلى الدنيا، فيقول: إلى دار الهموم والأحزان، بل قدما إلى الله، وأما الكافر فيقولون له: نرجعك، فيقول: {ربّ ارجعون لَعَلّي أَعْمَلُ صالحا فِيمَا تَرَكْتُ}» هو مرسل.
وأخرج الديلمي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا حضر الإنسان الوفاة يجمع له كل شيء يمنعه عن الحقّ فيجعل بين عينيه، فعند ذلك يقول: {ربّ ارجعون لعلي أعمل صالحًا فيما تركت}» وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله: {أَعْمَلَ صالحا} قال: أقول: لا إله إلا الله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عائشة قالت: ويل لأهل المعاصي من أهل القبور، يدخل عليهم في قبورهم حيات سود، حية عند رأسه وحية عند رجليه، يقرصانه حتى تلتقيا في وسطه، فذلك العذاب في البرزخ الذي قال الله: {وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {فَلاَ أنساب بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ} قال: حين نفخ في الصور، فلا يبقى حيّ إلا الله.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه، أنه سئل عن قوله: {فَلاَ أنساب بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ} وقوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} [الصافات: 27، الطور: 25] فقال: إنها مواقف، فأما الموقف الذي لا أنساب بينهم ولا يتساءلون عند الصعقة الأولى، لا أنساب بينهم فيها إذا صعقوا، فإذا كانت النفخة الآخرة فإذا هم قيام يتساءلون.
وأخرج ابن جرير، والحاكم وصححه عنه أيضًا، أنه سئل عن الآيتين فقال: أما قوله: {وَلاَ يَتَسَاءلُونَ} فهذا في النفخة الأولى حين لا يبقى على الأرض شيء، وأما قوله: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} [الصافات: 50] فإنهم لما دخلوا الجنة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون.
وأخرج ابن المبارك في الزهد، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر عن ابن مسعود قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأوّلين والآخرين.
وفي لفظ: يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة على رؤوس الأوّلين والآخرين، ثم ينادي منادٍ: ألا إن هذا فلان بن فلان، فمن كان له حق قبله فليأت إلى حقه.
وفي لفظ: من كان له مظلمة فليجىء فليأخذ حقه، فيفرح والله المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته وإن كان صغيرًا، ومصداق ذلك في كتاب الله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور فَلاَ أنساب بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ}.
وأخرج أحمد والطبراني والحاكم والبيهقي في سننه عن المسْور بن مخرمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الأنساب تنقطع يوم القيامة غير نسبي وسببي وصهري» وأخرج البزار والطبراني وأبو نعيم والحاكم، والضياء في المختارة: عن عمر بن الخطاب، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي» وأخرج ابن عساكر عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري» وأخرج أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: «ما بال رجال يقولون: إن رحم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينفع قومه، بلى والله إن رحمي موصولة في الدنيا والآخرة، وإني أيها الناس فرط لكم» وأخرج ابن جرير عن ابن عباس: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار} قال: تنفح.
وأخرج ابن مردويه، والضياء في صفة النار عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار} قال: «تلفحهم لفحة فتسيل لحومهم على أعقابهم» وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود في الآية قال: لفحتهم لفحة فما أبقت لحمًا على عظم إلا ألقته على أعقابهم.
وأخرج أحمد وعبد بن حميد، والترمذي وصححه، وابن أبي الدنيا في صفة النار، وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وأبو نعيم في الحلية وابن مردويه في قوله: {وَهُمْ فِيهَا كالحون} قال: تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته.
وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وهناد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني، والحاكم وصححه عن ابن مسعود في الآية قال: كلوح الرأس النضيج بدت أسنانهم وتقلصت شفاههم.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {كالحون} قال: عابسون.
وقد ورد في صفة أهل النار وما يقولونه وما يقال لهم أحاديث كثيرة معروفة.
وأخرج الحكيم الترمذي وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم، وابن السني في عمل اليوم والليلة، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود؛ أنه قرأ في أذن مصاب: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكم عَبَثًا} حتى ختم السورة فبرىء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بماذا قرأت في أذنه؟» فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لو أن رجلًا موقنًا قرأ بها على جبل لزال» وأخرج ابن السني وابن منده، وأبو نعيم في المعرفة، قال السيوطي: بسند حسن، من طريق محمد بن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية وأمرنا أن نقول إذا أمسينا وأصبحنا: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكم عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} فقرأناها فغنمنا وسلمنا. اهـ.

.قال سيد قطب:

{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)}.
في هذا الدرس الأخير في السورة يستطرد في الحديث عن نهاية المشركين؛ فيبرزها في مشهد من مشاهد القيامة. يبدأ بمشهد الاحتضار في الدنيا، وينتهي هنالك بعد النفخ في الصور. ثم تنتهي السورة بتقرير الألوهية الواحدة، وتحذير من يدعون مع الله إلهًا آخر وتخويفهم من مثل تلك النهاية.
وتختم السورة بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه ليطلب غفرانه ورحمته؛ والله خير الراحمين.
{حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحًا فيما تركت}.
إنه مشهد الاحتضار، وإعلان التوبة عند مواجهة الموت، وطلب الرجعة إلى الحياة، لتدارك ما فات، والإصلاح فيما ترك وراءه من أهل ومال.. وكأنما المشهد معروض اللحظة للأنظار، مشهود كالعيان! فإذا الرد على هذا الرجاء المتأخر لا يوجه إلى صاحب الرجاء، إنما يعلن على رءوس الأشهاد: {كلا إنها كلمة هو قائلها}.
كلمة لا معنى لها، ولا مدلول وراءها، ولا تنبغي العناية بها أو بقائلها. إنها كلمة الموقف الرهيب، لا كلمة الإخلاص المنيب. كلمة تقال في لحظة الضيق، ليس لها في القلب من رصيد!
وبها ينتهي مشهد الاحتضار. وإذا الحواجز قائمة بين قائل هذه الكلمة والدنيا جميعًا. فلقد قضي الأمر، وانقطعت الصلات، وأغلقت الأبواب، وأسدلت الأستار: {ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون}.
فلا هم من أهل الدنيا، ولا هم من أهل الآخرة. إنما هم في ذلك البرزخ بين بين، إلى يوم يبعثون.
ثم يستطرد السياق إلى ذلك اليوم، يصوره ويعرضه للأنظار.
{فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون}.
إنما تقطعت الروابط، وسقطت القيم التي كانوا يتعارفون عليها في الدنيا {فلا أنساب بينهم يومئذ}. وشملهم الهول بالصمت، فهم ساكنون لا يتحدثون {ولا يتساءلون}.
ويعرض ميزان الحساب وعملية الوزن في سرعة واختصار.
{فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون}.
وعملية الوزن بالميزان تجري على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير، وتجسيم المعاني في صور حسية، ومشاهد ذات حركة.
ومشهد لفح النار للوجوه حتى تكلح، وتشوه هيئتها، ويكدر لونها.. مشهد مؤذ أليم.
وهؤلاء الذين خفت موازينهم خسروا كل شيء. فقد خسروا أنفسهم. وحين يخسر الإنسان نفسه فماذا يملك إذن؟ وما الذي يتبقى له. وقد خسر نفسه التي بين جنبيه، وخسر ذاته التي تميزه، فكأنما لم يكن له وجود.
وهنا يعدل عن أسلوب الحكاية إلى أسلوب الخطاب والمواجهة، فإذا العذاب الحسي على فظاعته أهون من التأنيب والخزي الذي يصاحبه.
وكأنما نحن نراه اللحظة ونشهده في حوار ممض طويل: {ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون}.
وكأنما يخيل إليهم وقد سمعوا هذا السؤال إنهم مأذونون في الكلام، مسموح لهم بالرجاء. وأن الإعتراف بالذنب قد يجدي في قبول الرجاء: {قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قومًا ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون}.
وهو اعتراف تتجلى فيه المرارة والشقوة.. ولكن كأنما هم قد تجاوزوا حدهم وأساءوا أدبهم، فلم يكن مأذونًا لهم في غير الإجابة على قدر السؤال. بل لعله كان سؤالًا للتبكيت لا يطلب عليه منهم جواب. فهم يزجرون زجرًا عنيفًا قاسيًا: {قال اخسأوا فيها ولا تكلمون}.
إخرسوا واسكتوا سكوت الأذلاء المهينين، فإنكم لتستحقون ما أنتم فيه من العذاب الأليم والشقاء المهين: {إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريًا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون}.