فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)}.
وساعة ينادي الله {يا أيها الذين آمنوا} فهذا النداء هو حيثية الحكم الذي سيأتي، ومعنى هذا القول: أنا لم أكلفكم اقتحاما على إرادتكم؛ أو على اختياركم، وإنما كلفتكم لأنك دخلتم إلى من باب الإيمان بي، ومادمتم قد آمنتم بي فاسمعوا مني التكليف. فالله لم يكلف من لم يؤمن به، ومادام الله لا يكلف إلا من آمن به فإيمانك به جعلك شريكا في العقد، فإن كتب عليك شيئا فأنت شريك في الكتابة، لأنك لو لم تؤمن لما كتب، فكأن الصفقة انعقدت، ومادامت الصفقة قد انعقدت فأنت شريك في التكليف، ولذلك يقول الله: {كتب} بضم الكاف، ولم يقل كتب بفتح الكاف. وتلحظ الفرق جليا في الأشياء التي للإنسان دخل فيها، فهو سبحانه يقول: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} من الآية 21 سورة المجادلة.
إنه سبحانه هنا الذي كتب، لأنه لا شريك له. عندما تقرأ {كتب عليكم} فافهم أن فيها إلزاما ومشقة، وهي على عكس كتب لكم مثل قوله تعالى: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا} من الآية 51 سورة التوبة.
إن {كتب لنا} تشعرنا أن الشيء لمصلحتنا. وفي ظاهر الأمر يبدو أن القصاص مكتوب عليك، وساعة يكتب عليك القصاص وأنت قاتل فيكون ولي المقتول مكتوبًا له القصاص، إذن كل عليك مقابلها لك، وأنت عرضة أن تكون قاتلا أو مقتولا. فإن كنت مقتولا فالله كتب لك. وإن كنت قاتلا فقد كتب الله عليك. لأن الذي لي لابد أن يكون على غيري، والذي علي لابد أن يكون لغيري. فالتشريع لا يشرع لفرد واحد وإنما يشرع للناس أجمعين.
عندما يقول: {كتب عليكم القصاص}، ثم يقول في الآية التي بعدها: {ولكم في القصاص حياة}، فهو سبحانه قد جاء ب {لكم}، و{عليكم}. {عليكم} للقاتل، و{لكم} لولي المقتول. فالتشريع عادلا لأنه لم يأت لأحد على حساب أحد، والعقود دائما تراعي مصلحة الطرفين. {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر}.
ومن هو الحر؟ الحر ضد العبد وهو غير مملوك الرقبة، والحر من كل شيء هو أكرم ما فيه، ويقال: حر المال يعني أكرم ما في المال.
و{الحر} في الإنسان هو من لا يحكم رقبته أحد. والحر من البقول هو ما يؤكل غير ناضج، أي غير مطبوخ على النار، كالفستق واللوز. والحق سبحانه يقول: {الحر بالحر}، وظاهر النص أن الحر لا يقتل بالعبد، لأنه سبحانه يقول: {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى}، لكن ماذا يحدث لو أن عبدًا قتل حرًا، أو قتلت امرأة رجلًا؛ هل نقتلهما أم لا؟ إن الحق يضع لمسألة الثأر الضوابط، وهو سبحانه لم يشرع أن الحر لا يقتل إلا بالحر، وإنما مقصد الآية أن الحر يقتل إن قتل حرًا، والعبد يقتل إن قتل عبدًا، والأنثى مقابل الأنثى، هذا هو إتمام المعادلة، فجزاء القاتل من جنس ما قتل، لا أن يتعداه القتل إلى من هو أفضل منه. إن الحق سبحانه وتعالى يواجه بذلك التشريع في القصاص قضية كانت قائمة بين القبائل، حيث كان هناك قتل للانتقام والثأر.
ففي الزمن الجاهلي كانت إذا نشأت معركة بين قبيلتين، فمن الطبيعي أن يوجد قتلى وضحايا لهذا الاقتتال، فإذا قتل عبد من قبيلة أصرت القبيلة التي تملك هذا العبد أن تصعد الثأر فتأخذ به حرًا، وكذلك إذا قتلت في تلك الحرب أنثى، فإن قبيلتها تصعد الثأر فتأخذ بها ذكرًا. والحق سبحانه وتعالى أراد أن يحسم قضية الثأر حسمًا تدريجيا، لذلك جاء بهذا الأمر {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى}. إذن فالحق هنا يواجه قضية تصعيدية في الأخذ بالثأر، ويضع منهجًا يحسم هذه المغالاة في الثأر. وفي صعيد مصر، مازلنا نعاني من الغفلة في تطبيق شريعة الله، فحين يقتل رجل من قوم فهم لا يثأرون من القاتل، وإنما يذهبون إلى أكبر رأس في عائلة القاتل ليقتلوه. فالذين يأخذون الثأر يريدون النكاية الأشد، وقد يجعلون فداء المقتول عشرة من العائلة الأخرى، وقد يمثلون بجثثهم ليتشفوا، وكل ذلك غير ملائم للقصاص.
وفي أيام الجاهلية كانوا يغالون في الثأر، والحق سبحانه وتعالى يبلغ البشرية جمعاء بأن هذه المغالاة في الثأر تجعل نيران العداوة لا تخمد أبدا. لذلك فالحق يريد أمر الثأر إلى حده الأدنى، فإذا قتلت قبيلة عبدًا فلا يصح أن تصعد القبيلة الأخرى الأمر فتأخذ بالعبد حرًا. إذن فالحق يشرع أمرًا يخص تلك الحروب الجماعية القديمة، وما كان يحدث فيها من قتل جماعي، وما ينتج عنها بعد ذلك من مغالاة في الثأر، وهذا هو التشريع التدريجي، وقضى سبحانه أن يرد أمر الثأر إلى الحد الأدنى منه، فإذا قتلت قبيلة عبدا فلا يصح أن تصعد القبيلة الأخرى الثأر بأن تقتل حرًا. والحق يشرع بعد ذلك أن القاتل في الأحوال العادية يتم القصاص منه بالقتل له أو بالدية. فقد جاءت آية أخرى يقول فيها الحق: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)} سورة المائدة.
وهكذا يصبح القصاص في قتل النفس يتم بنفس أخرى، فلا تفرقة بين العبد أو الحر أو الأنثى، بل مطلق نفس بمطلق نفس. وهاهو ذا الحق سبحانه وتعالى يواجه بتقنين تشريع القصاص قضية يريد أن يميت فيها لدد الثأر وحنق الحقد. فساعة تسمع كلمة قصاص وقتل، فمعنى ذلك أن النفس مشحونة بالبغضاء والكراهية، وريد أن يصفي الضغن والحقد الثأري من نفوس المؤمنين. إن الحق جل وعلا يعط يولي الدم الحق في أن يقتل أو أن يعفو، وحين يعطي الله لولي الدم الحق في أن يقتل، فإن أمر حياة القاتل يصبح بيد ولي الدم، فإن عفا ولي الدم لا يكون العفو بتقنين، وإنما بسماحة نفس، وهكذا يمتص الحق الغضب والغيظ. وبعد ذلك يرقق الله قلب ولي الدم فيقول: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان}.
وإذا تأملنا قوله: {فمن عفي فه من أخيه} فلنلاحظ النقلة من غليان الدم إلى العفو. ثم المبالغة في التحنن، كأنه يقول: لا تنس الأخوة الإيمانية {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف}.
وساعة يقول الحق كلمة أخ فانظر هل هذا الأخ اشترك في الأب؟ مثل قوله تعالى: {وجاء إخوة يوسف}. ثم يرتقى بالنسب الإيماني إلى مرتبة الأخوة الإيمانية، فيقول: {إنما المؤمنون إخوة} يعني إياكم أن تجعلوا التقاء النسب المادي دون التقائكم في القيم العقائدية. والأصل في الأخ أن يشترك في الأب مثل: {وجاء إخوة يوسف}، فإن كانوا إخوة من غير الأب يسمهم إخوانًا، فإن ارتقوا في الإيمان يسمهم إخوة. وعندما وصفهم بأنهم إخوان قال: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا}. لقد كانت بينهم حروب وبغضاء وشقاق، لم يصفهم بأنهم إخوة؛ لأنهم لازالوا في الشحناء، فوصفهم بأنهم إخوان، وبعد أن يختمر الإيمان في نفوسهم يصبحون إخوة.
ولننظر في غزوة بدر، هاهو ذا مصعب بن عمير، كان فتى قريش المدلل والمنعم الذي كانت تفوح منه رائحة العطر وملابسه من حرير؛ كان ذلك قبل إسلامه، وتغير كل ذلك عندما دخل في الإسلام، فقد أخرجه الإيمان من هذا النعيم إلى بؤس المؤمنين الأولين لدرجة أنه كان يلبس جلد حيوان ويراه رسول الله في هذا الضنك فيقول: «انظروا كيف فعل الإيمان بصاحبكم». وعندما جاءت معركة بدر التقى مع أخيه أبي عزيز الذي ظل على دين قريش، والتقى الاثنان في المعركة، مصعب في معسكر المؤمنين، وأبو عزيز في جيش المشركين. وأثناء المعركة رأى أخاه أبا عزيز أسيرًا مع أبي اليسر وهو من الأنصار؛ فالتفت مصعب إلى أبي اليسر، وقال: يا أبا اليسر أشدد على أسيرك فإن أمه غنية وستفديه بمال كثير. فالتفت إليه أبو عزيز وقال: يا أخي أهذه وصاتك بأخيك؟ قال مصعب: لا لست أخي وإنما أخي هذا. وأشار إلى أبي اليسر. لقد انتهى نسب الدم وأصبح نسب الإيمان هو الأصل، وأصبح مصعب أخًا لأبي اليسر في الإيمان، وانقطعت صلته بشقيقه في النسب لأنه ظل مشركًا.
وقوله تعالى: {فمن عفي له من أخيه شيء} كأنه يحث ولي الدم على أن يعفوا ولا ينسى أخوة الإيمان. صحيح أنه ولى للمقتول؛ لأنه من لحمته ونسبه، ولكن الله أراد أن يجعل أخوة الإيمان فوق أخوة الدم.
{فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف}. وقد أراد الحق الأخوة هنا لترقيق المشاعر، لينبه أهل القاتل والقتيل معًا أن القتل لا يعني أن الأخوة الإيمانية انتهت، لا. إن على المؤمنين أن يضعوا في اعتبارهم أن أخوة الإيمان قد تفتر رابطتها. وحين يتذكر أولياء الدم أخوة الإيمان، فإن العفو يصبح قريبًا من نفوسهم. ولنا أن نلاحظ أن الحق يرفعنا إلى مراتب التسامي، فيذكرنا أن عفو واحد من أولياء الدم يقتضي أن تسود قضية العفو، فلا يقتل القاتل.
وبعد ذلك لننظر إلى دقة الحق في تصفية غضب القلوب حين يضع الدية مكان القصاص بالقتل. إن الدية التي سيأخذها أولياء الدم من القاتل قد تكون مؤجلة الأداء، فقد يقدر القاتل أو أهله على الأداء العاجل، لذلك فعلى الذي يتحمل الدية أن يؤديها، وعلى أهل القتيل أن يتقبلوا ذلك بالمعروف، وأن تؤدي الدية من أهل القاتل أو من القاتل نفسه بإحسان. وقوله الحق: {عفي له من أخيه شيء}، تدل على أن أولياء المقتول إن عفا واحد منهم فهو عفو بشيء واحد، وليس له أن يقتص بعد ذلك، وتنتهي المسألة ويحقن الدم، ولم يرد الله أن يضع نصا بتحريم القصاص، ولكن أراد أن يعطي ولي الدم الحق في أن يقتل، وحين يصبح له الحق في أن يقتل؛ فقد أصبحت المسألة في يده، فإن عفا، تصبح حياة القاتل ثمرة من ثمرات إحسانه، وإن عاش القاتل، لا يترك هذا في نفس صاحب الدم بغضاء، بل إن القاتل سيتحبب إليه لأنه احسن إليه ووهبه حياته.
لكن لو ظل النص على قصاص أهل القتيل من القاتل فقط ولم يتعده إلى العفو لظلت العقدة في القلب. والثارات الموجودة في المجتمعات المعاصرة سببها أننا لم نمكن ولي الدم من القاتل، بدليل أنه إذا ما قدر قاتل على نفسه وذهب إلى أهل القتيل ودخل عليهم بيتهم، وبالغ في طلب العفو منهم، وأخذ كفنه معه وقال لهم: جئتكم لتقتصوا مني، وهذا كفني معي فاصنعوا بي ما شئتم، لم يحدث قط أن أهل قتيل غدروا بقاتل، بل المألوف والمعتاد أن يعفو عنه، لماذا؟ لأنهم تمكنوا منه وأصبحت حياته بين أيديهم، وفي العادة تنقلب العداوة إلى مودة. فيظل القاتل مدينا بحياته للذين عفوا عنه. والذين يعرفون ذلك من أبناء القاتل يرون أن حياة أبيهم هبة وهبها لهم أولياء القتيل وأقرباؤه، يرون أن عفو أهل القتيل هو الذي نجا حياة قريبهم، وهكذا تتسع الدائرة، وتنقلب المسألة من عداوة إلى ود.
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} من الآية 34 سورة فصلت.
ولو لم يشرع الله القصاص لأصبحت المسألة فوضى. لكنه يشرعه، ثم يتلطف ليجعل أمر إنهاء القصاص فضلا من ولي الدم ويحببه لنا ويقول: {فمن عفي له من أخيه بشيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان}. وهل من المعقول أن تكون الدية إحسانًا؟ لتتذكر أن القائل هنا هو الله، وكلامه قرآن، والدقة في القرآن بلا حدود. إن الحق ينبه إلى أن أولياء الدم إذا ما قبلوا الدية؛ فمعنى ذلك أن أهل القتيل قد أسقطوا القصاص عن القاتل؛ وأنهم وهبوه حق الحياة، لذلك فإن هذا الأمر يجب أن يرد بتحية أو مكرمة احسن منه. كان الحق لا يريد من أولياء الدم أن يرهقوا القاتل أو أهله في الاقتضاء، كما يريد أن يؤدي القاتل أو أهله الدية بأسلوب يرتفع إلى مرتبة العفو الذي ناله القاتل.
وفي ذلك الأمر تخفيف عما جاء بالتوراة؛ ففي التوراة لم تكن هناك دية يفتدى القاتل بها نفسه، بل كان القصاص في التوراة بأسلوب واحد هو قتل إنسان مقابل إنسان آخر. وفي الإنجيل لا دية ولا قتل: لأن هناك مبدأ أراد أن يتسامى به أتباع عيسى عليه السلام على اليهود الذين انغمسوا في المادية. لقد جاء عيسى عليه السلام رسولًا إلى بني إسرائيل لعله يستل من قلوبهم المادية، فجاء بمبدأ: من صفعك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر. ولكن الإسلام قد جاء دينًا عامًا جامعًا شاملًا، فيثير في النفس التسامي، ويضع الحقوق في نصابها، فأبقى القصاص، وترك للفضل مجالًا. لذلك يقول الحق عن الدية: {ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم}. وما وجه الاعتداء بعد تقرير الدية والعفو؟
كان بعض من أهل القبائل إذا قُتل منهم واحد يشيعون أنهم عفوا وصفحوا وقبلوا الدية حتى إذا خرج القاتل من مخبئه مطمئنًا، عندئذ يقتلونه. والحق يقرر أن هذا الأمر هو اعتداء، ومن يعتدي بعد أن يسقط، حق القتل ويأخذ الدية فله عذاب أليم. وحكم الله هنا في العذاب الأليم، ونفهمه على أن المعتدي بقتل من أعلن العفو عنه لا يقبل منه دية ويستحق القتل عقابًا، ولا يرفع الله عنه عذاب الدنيا أو الآخرة. إن الحق يرفع العقاب والعذاب عن القاتل إذا قبل القصاص ونفذ فيه، أو إذا عفي عنه إلى الدية وأداها. ولكن الحق لا يقبل سوى استخدام الفرص التي أعطاها الحق للخلق ليرتفعوا في علاقاتهم. إن الحق لا يقبل أن يتستر أهل قتيل وراء العفو، ليقتلوا القاتل بعد أن أعلنوا العفو عنه فذلك عبث بما أراده الحق منهجًا بين العباد.
ولذلك يقول الحق: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)}. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)}.
أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: إن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإِسلام بقليل، فكان بينهم قتل وجراحات حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا أن لا يرضوا حتى بالعبد من الحر منهم، وبالمرأة من الرجل منهم، فنزل فيهم {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} وذلك أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة ولكن يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة، فأنزل الله: {النفس بالنفس} [المائدة: 45] فجعل الأحرار في قصاص سواء فيما بينهم من العَمْد رجالهم ونساؤهم في النفس وما دون النفس، وجعل العبيد مستوين في العمد النفس وما دون النفس رجالهم ونساؤهم.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الشعبي قال: نزلت هذه الآية في قبيلتين من قبائل العرب اقتتلتا قتال عمية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقتل بعبدنا فلان ابن فلان، ونقتل بأمتنا فلانة بنت فلانة. فأنزل الله: {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى}.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن أبي مالك قال: كان بين حيين من الأنصار قتال كان لأحدهما على الآخر الطول، فكأنهم طلبوا الفضل، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليصلح بينهم، فنزلت هذه الآية: {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} قال ابن عباس: نسختها {النفس بالنفس} [المائدة: 45].
وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: لم يكن لمن كان قبلنا دية إنما هو القتل والعفو، فنزلت هذه الآية في قوم كانوا أكثر من غيرهم، فكانوا إذا قتل من الكثير عبد قالوا: لا نقتل به إلا حرًا، وإذا قتلت منهم امرأة قالوا: لا نقتل بها إلا رجلًا، فأنزل الله: {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى}.
وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وأبو القاسم الزجاجي في أماليه والبيهقي في سننه عن قتادة في الآية قال: كان أهل الجاهلية فيهم بغي وطاعة للشيطان، فكان الحي منهم إذا كان فيهم عدد فقتل لهم عبدًا عبد قوم آخرين فقالوا: لن نقتل به إلا حرًا تعززًا وتفضلًا على غيرهم في أنفسهم، وإذا قتلت لهم أنثى قتلتها امرأة قالوا: لن نقتل بها إلا رجلًا، فأنزل الله هذه الآية يخبرهم أن العبد بالعبد إلى آخر الآية، نهاهم عن البغي، ثم أنزل سورة المائدة فقال: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} [المائدة: 45] الآية.
وأخرج النحاس في ناسخه عن ابن عباس {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى}. قال: نسختها {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} الآية.
أما قوله تعالى: {فمن عفي له} الآية.
أخرج عبد بن حميد وابن جرير والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس {فمن عفي له} قال: هو العمد يرضى أهله بالدية {فاتباع بالمعروف} أمر به الطالب {وأداء إليه بإحسان} قال: يؤدى المطلوب بإحسان {ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} مما كان على بني إسرائيل.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس {فمن عفي له من أخيه شيء} بعد أخذ الدية بعد استحقاق الدم وذلك العفو {فاتباع بالمعروف} يقول: فعلى الطالب اتباع بالمعروف إذا قبل الدية {وأداء إليه بإحسان} من القاتل في غير ضرر ولا فعلة المدافعة {ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} يقول: رفق.
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبخاري والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وابن حبان والبيهقي عن ابن عباس قال: كان في بني إسرائيل القصاص ولم يكن فيهم الدية فقال الله لهذه الأمة {كتب عليكم القصاص في القتلى} إلى قوله: {فمن عفي له من أخيه شيء} فالعفو أن تقبل الدية في العمد {فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} يتبع الطالب بالمعروف ويؤدي إليه المطلوب بإحسان {ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} مما كتب على من كان قبلكم {فمن اعتدى بعد ذلك} قتل بعد قبول الدية {فله عذاب أليم}.
وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: كانت بنو إسرائيل إذا قتل فيهم القتيل عمدًا لا يحل لهم إلا القود، وأحل الله الدية لهذه الأمة، فأمر هذا أن يتبع بمعروف، وأمر هذا أن يؤدي بإحسان {ذلك تخفيف من ربكم}.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: كان على بني إسرائيل القصاص في القتلى، ليس بينهم دية في نفس ولا جرح، وذلك قول الله: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} [المائدة: 45] الآية.
فخفف الله عن أمة محمد، فجعل عليهم الدية في النفس وفي الجراحة، وهو قوله: {ذلك تخفيف من ربكم ورحمة}.
وأخرج ابن جرير والزجاجي في أماليه عن قتادة في قوله: {ورحمة} قال: هي رحمة رحم الله بها هذه الأمة أطعمهم الدية وأحلها لهم ولم تحل لأحد قبلهم، فكان في أهل التوراة إنما هو القصاص أو العفو ليس بينهما أرش، فكان أهل الإِنجيل إنما هو عفو أمروا به، وجعل الله لهذه الأمة القتل والعفو الدية إن شاءوا أحلها لهم ولم يكن لأمة قبلهم.
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن شريح الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أصيب بقتل أو جرح فإنه يختار إحدى ثلاث: إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية، فإن أراد رابعة فخذوا على يديه، ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالدًا فيها أبدًا».
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة رضي الله عنه {فمن اعتدى بعد ذلك} بأن قتل بعد أخذه الدية {فله عذاب أليم} قال: فعليه القتل لا يقبل منه الدية، وذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا أعافي رجلًا قتل بعد أخذ الدية».
وأخرج سمويه في فوائده عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أعافي رجلًا قتل بعد أخذ الدية».
وأخرج وكيع وعبد بن حميد وابن جرير الحسن في قوله: {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم} قال: كان الرجل في الجاهلية إذا قتل قتيلًا ينضم إلى قومه فيجيء قومه فيصالحون عنه بالدية، فيخرج الفار وقد أمن في نفسه فيقتله ويرمي إليه بالدية، فذلك الاعتداء.
وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة. في رجل قتل بعد أخذ الدية قال: يقتل، أما سمعت الله يقول: {فله عذاب أليم}. اهـ.