فصل: مطلب فيمن يجوز نظره ومن لا وستر الوجه وغيره وما هي الزينة التي لا يجوز النّظر إليها والنّكاح:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واعلموا أن رجوعكم بسبب تلك الأعذار وبمطلق عذر يصدر عن أهل البيت {هُوَ أَزْكى لَكُمْ} وأطهر وأصلح لما فيه من البعد عن مواقع التهم وعن منع أهل البيت من أشغالهم، وقد تكون معذرتهم لا تمكنهم من قبولكم لأن للناس أحوالا يكرهون اطلاع الغير عليها أو تأخير إنجازها أو تهيثهم للقبول {وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (28) لا يخفى عليه شيء من أمر الدّاخل والمدخول عليه وصدقهما ونيتهما، ولما نزلت هذه الآية قالوا كيف بالبيوت بين مكة والشّام والمدينة ليس فيها مساكن، يريدون الخانات المعدة لنزول المسافرين وكانت تعمر من قبل أهل الخير ويوضع فيها الماء وتترك ماوى للغادين والبادين دون أجر ما بخلاف ما عليه الحالة الآن اللّهم إلّا ما بقي من الخانات الموقوفة لهذه الغاية وما أحدثته وجددته الدّولة العثمانية على طريق الحاج من آثار من تقدمها من الحكومات التي كانت تعمل محلات هكذا لتسهيل أمر الحجاج والتيسير عليهم تأمينا لراحتهم، فأنزل اللّه ثابتا فيما هو غير مسكون فقال جل قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} بغير استئذان إذا تحققتم أن ليس فيها أحدلأن الأذن شرع على البيوت لوجود المخدرات فيها أو وجود أناس في حالة لا يجوز أن يطلع عليهم أحد معها، فإذا لم توجد هذه المحاذير فلا حاجة للاستئذان إذ قد يأتي الرّجل إلى أهل بيت لا يحبون دخوله عليهم مطلقا أو لا يريدون الزائر نفسه أو لوجود أحد يكرهه أو لا يحب أن يجلس معه أحد، فإذا أتقنت هذه الأعذار وغيرها مما يصح أن يكون عذرا جاز لكم الدّخول، ولاسيما إذا كان {فِيها مَتاعٌ لَكُمْ} وضعتموه قبلا أو وضعه أحد لكم كما هي العادة الآن أيضا، حيث يتركون في المنازل الواقعة على الطّرق وبالخاصة التي يرجعون إليها بعد قفولهم، حتى أن بعض النّاس في بلادنا يضعون بعض أثقالهم عند قبور الصّالحين وفي قببهم لاعتقادهم أن أحدا لا يجرؤ على أخذها، وهو كذلك لأن العقيدة فيهم والحمد للّه سائدة، ففي هذه المواقع لا حاجة للاستئذان إذ لا يوجد فيها أحد غالبا، وإذا كان فيها قيما أو خادما فإنهم قد يودعون عنده بعض أشيائهم عند ظهورهم إلى المراعي ونزولهم للقرى وهكذا المساكن التي يأوون إليها بقصد اتقاء الحر والبرد أو الاستراحة والنّوم، فلا حاجة أيضا للاستئذان وهكذا كلّ محل يتحقق لكم أن لا أحد فيه جاز الدّخول إليه لمطلق منفعه، أما عبثا فلا، لصريح الآية.
وتقييدها بالمتاع، إذ قد يجد العابث مالا يحب، وقال صلّى اللّه عليه وسلم دع ما يريبك إلى ما يريبك {وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ} من أموركم وأعمالكم {وَما تَكْتُمُونَ} (29) من أسراركم ونياتكم.
هذا هو الحكم الشّرعي في ذلك ولها آداب أخر منها أن لا يقف أمام الباب لئلا يطلع على من في الدّار بل على يمينه أو شماله أي الجهة التي لا يفتح إليها لئلا ينظر لمن يأذن له ولا ينظر من شقوقه فيطلع على من هو داخل الدّار، وإذا كان الباب مفتوحا فليرده ثم يطرقه، بتؤدة وسكون لا بشدة وغضب لما فيه من قلة أدب المستأذن وعدم احترام صاحب البيت وإيقاع الرّيب في قلبه، ولا يصح يا فلان، وإذا قيل له من أنت؟ فليقل فلان بن فلان أو يذكر شهرته إن كان معروفا بها ليعلم صاحب الدّار هويته، حتى إذا لم يحب دخوله أو عنده من لا يحبه اعتذر، أما إذا كان مجيئه مع الرسول فلا حاجة للاستئذان لأن الرّسول هو الآذن وإنما ذهب ليأتي به بإذن المرسل، وإذا كان في البيت محارمه ليستأذنهم أيضا لعلهم في حالة لا يحبون اطلاعه عليها، وإذا وقع بصره على صاحب الدّار يسلم عليه أولا ثم يستأذن بالدخول، ولا يستعجل بل ينتظر قليلا لعلهم يصلحون شأنهم ومحلهم لأجله أو أنفسهم من تبديل لباس لا يليق بهم لقاؤه به أو يزيلوا ما يكرهون أو ما يكرهه هو النّظر إليه وغير ذلك.
ويجوز الدخول بلا استئذان إذا رأى حريقا أو طفلا على شفا حفرة أو رأس جدار أو أعمى عليهما أو سمع استغاثة داخلها أو علم وجود منكر فيها وكان يقدر على إزالته لإطفائه وتخليصه ومنعه، أو رأى عقربا او غيرها قريبا من نائم او غافل او صغير او مجنون، ففي هذه الأحوال له أن يدخل وأن يستعين بغيره لدرأ هذه الأشياء، أخرج أبو داوود عن عبد اللّه بن يسرة قال كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن او الأيسر ويقول السّلام عليكم.
وذلك إن الدّور لم يكن عليها يومئذ ستور فإذا كان لها وراء الباب مانع من الاطلاع على داخلها وما وراءها فيجوز أن يقف أمامه لعدم المحذور، وأخرج أبو داود عن ابي هريرة قال قال صلّى اللّه عليه وسلم إذا دعي أحدكم فجاء مع الرّسول فإن ذلك إذن له.
وأخرج مالك في الوطأ عن عطاء بن يسار أن رجلا سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال استأذن على أمي قال نعم، فقال إني معها في البيت، فقال صلّى اللّه عليه وسلم استأذن عليها، فقال الرّجل إني خادمها، فقال صلّى اللّه عليه وسلم استأذن عليها أتحب أن تراها عريانة؟ قال لا، قال فاستأذن عليها وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال اطلع رجل من حجر باب النّبي صلّى اللّه عليه وسلم ومع رسول اللّه مدري يرجل، وفي رواية يحك به رأسه، فقال صلّى اللّه عليه وسلم لو علمت انك تنظر لصقت به فيك، إنما جعل الإذن من أجل البصر، والمدري المشط والقرن وهنا يراد به الثاني لمناسبة الحال واللّه اعلم.
ورويا عن ابي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقؤا عينه قال تعالى في الأدب الثالث: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ} عما لا يحل النّظر إليه قصدا روى مسلم عن جرير قال سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن نظرة النّجأة قال اصرف بصرك، وأخرج أبو داود والترمذي عن بريدة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لعلي يا علي لا تتبع النّظرة النّظرة فإن لك الأولى وليست لك الثانية وروى مسلم عن ابي سعيد الخدري أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال لا ينظر الرّجل إلى عورة الرّجل ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يقضي الرّجل إلى الرّجل في ثوب واحد، ولا تقضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد أي لما في ذلك من الملامسة والنّظر إلى المنهي عنهما وفي ذكر الرّجل والمرأة إشارة إلى أن ذلك معفو في الأولاد والبنات الّذين هم دون البلوغ بل التمييز كما سيأتي في آخر هذه الآية {يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} عما لا يحل من الزنى واللّواطة والاستحلاب والسّحاق وابدائها للنظر إليها {ذلِكَ} غض البصر عن المحرمات وحفظ الفروج عن الزنى ودواعيه {أَزْكى لَهُمْ} من دنس الإثم {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ} (30) في اجالة النّظر وحركات الحواس والجوارح، فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم ونياتكم.

.مطلب فيمن يجوز نظره ومن لا وستر الوجه وغيره وما هي الزينة التي لا يجوز النّظر إليها والنّكاح:

هذا ويجوز النّظر إلى وجوه المحارم وشعورهن واثديتهن واعضائهن وأقدامهن وكذلك الجواري المعروضات للبيع وإلى وجه الأجنبية وكفيها إذا أراد خطبتها، او كان شاهدا او حاكما يقضي عليها، أو إذا كانت محترفة، فلمن يشتري منها او يبيعها جواز النّظر إلى وجهها لمعرفتها فيما إذا كان وجب الرّدّ بالعيب والإشهاد على العقد او على نقد الثمن وغيره من متعلقات العقود.
قال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} عما لا يحل من الزنى والسّحاق وإبدائه للنظر له كما تقدم في الأدب الثالث {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} الخفية التي لم يبح كشفها للاجانب {إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ} المؤمنات بدليل الإضافة ولم يذكر في هذه الآية العم والحال مع أنهما من المحارم في جواز النّظر أيضا وهو قول الحسن البصري وقال لأن الآية لم يذكر فيها الرّضاع وهو كالنسب وجاء في آية الأحزاب 54 لا جناح عليهن في آبائهن ولم يذكر فيها البعولة ولا أبناءهم، وقد ذكروا هنا إذ قد يذكر البعض لينبه به على الجملة، قال الشّعبي إنما لم يذكرهما اللّه لئلا يصفهم العم والخال عند أولادهما، ومعناه أن القرابات تشارك الأم والأب في المحرمية إلّا العم والخال وأبناءهما فإذا رآها العم والخال فلربما يصفانهما لا بينهما فيقربان تصورهما إليهما بالوصف من نظرهما إليهما وهو ليس بحرام، إلا أنه من الدلالات المبغية على وجوب الاحتياط عليهن في التستر وهي من المروءة والغيرة، أخرج الترمذي عن أم سلمة قالت كنت عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وعنده ميمونة بنت الحارث إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليها فقال صلّى اللّه عليه وسلم احتجبا منه، فقلنا يا رسول اللّه أليس بأعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال صلّى اللّه عليه وسلم أفعمياوان أنتما ألستما تبصران وذلك لأن النّظر كما هو محرم على الرّجال محرم على النّساء.
وأخرجه أبو داود أيضا وقدم غض البصر على حفظ الفرج، لأن النّظر بريد الزنى ورائد الفجور وبذر الهوى طموح العين، وفيه قيل:
كل الحوادث مبداها من النّظر ** ومعظم النّار من مستصغر الشّرر

والمرء مادام ذا عين يقلّبها في ** أعين العين موقوف على الخطر

كم نظرة فعلت في قلب فاعلها ** فعل السّهام بلا قوس ولا وتر

يسر ناظره ماضر خاطره لا ** مرحبا بسرور جاء في الضّرر

والمراد بالزينة هنا الأساور والخلاخل في الأيدي والأرجل والخضاب فيها والقرط في الأذنين والخواتم في الأصابع والقلائد في الأعناق والصّوافن في الشّعر والشّعر نفسه سواء المسترسل وغيره، ومن هذا بدوا الأعضاء بسبب تضييق اللباس وما يضعنه على الثدايا والأرداف بقصد تصغيرهما وتكبيرهما وكلّ ما يطلق عليه اسم الزينة.
واعلم أنه كما لا يجوز إبداء شيء من ذلك لا يجوز النّظر إليه ممن لا يحل له وقد يجوز إبداء شيء من ذلك للحاجة كأن كانت تمتهن أو للضرور كالشهادة والحكم والحاكم والطّبيب المسلم، لأن إبداء الوجه بشيء من ذلك يستلزم إبداء الكحل في العينين، وإظهار الكفين يستوجب إظهار الخواتم والخضاب في ظاهرهما وباطنهما، ولا يعني هذا جواز نظر الأجنبي إلى هذا الظّاهر دون حاجة كلا بل لا يجوز النّظر مطلقا لما فيه من الفتنة ولما يجر وراءه من العواقب السّيئة فكم نظرة أحرقت قلب ناظرها في الدّنيا وجسمه في النّار بالآخرة باتباع نفسه هواها، وإذا كان إبداء الزينة منهن عنه فإن إبداء الوجه الذي كله زينة خلقة وحلية يكون منهى عنه من باب أولى فيثبت بهذا وبما قدمناه في الآية 59 من سورة الأحزاب أن ستر الوجه واجب، والنّظر إليه غير جائز، والسّفور حرام بالكتاب والسّنة واجماع الأمة تدبر، ولا تلفت إلى أقوال الزائغين عن السّداد من أهل العتو والفساد بلا حجة ولا برهان اتباعا لما تسوله أنفسهم الخبيثة وما يوسوس له إليهم قرناؤهم من الجن والإنس والشّياطين وأهل البغي والعناد أولئك الّذين غضب اللّه عليهم وأصمهم وأعمى أبصارهم، والمراد بالجيوب في الآية هو شق الثوب مما يلي الصّدر وكانوا يتوسعون بذلك لإخراج الثدي لإرضاع الولد حتى تبدو صدورهن منها وكن يسدلن الخمر سدلا وهي الملافع وراءهن، فأمرهن اللّه في هذه الآية أن يسدلن بعضها على صدورهن كي تكون كالمقانع يغطين النّحر والعنق والصّدر والأذان وما فيهما من الأقراط وما على صدورهن من الحلي وعلى أكتافهن من الشّعر حتى لا يبقى إلّا تدويرة الوجه فيسدلن عليه شيئا من طرفه الآخر لأن الوجه والكفين وإن كانا ليسا من العورة في الصّلاة ففي خارجها عورة يحرم النّظر إليها خشية الافتتان.
روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت يرحم اللّه نساء المهاجرين الأوّل، لما أنزل اللّه {وَلْيَضْرِبْنَ} إلخ الآية، شققن مروطهن فاختمرن بها.
والمرط كساء من صوف أو خز او كنان {أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ} من الجواري، فكل هؤلاء يجوز النّظر لهم إلى محارمهم عدا ما بين السّرّة والرّكبة، أما المملوكون المذكورون فلهم النّظر للزينة الظّاهرة فقط سواء كانوا فحولا أو خصيين أو عنينين، قال سعيد بن المسيب لا تغرنكم سورة النّور فإنها في الإماء دون الذكور، وظاهر القرآن يؤيد ذلك، لأن الآية مسبوقة لما قبلها أي معطوفة على نسائهن، والمراد بهن الأحرار فناسب عطف النّساء المملوكات عليهن.
وقال بعضهم إذا كان العبد عفيفا جاز له الدّخول على سيدته والنّظر إليها إلّا ما بين السّرّة والرّكبة مستدلين بأن السّيدة عائشة رضي اللّه عنها أباحت لعبدها النّظر إليها، ويروى ذلك عن أم سلمة أيضا، وروى أنس أن الرّسول أتى فاطمة بعبد وقال إنه ليس عليك بأس إنما هو غلامك، إلا أن هذه الرّوايات لم تثبت صحتها ثبوتا يركن إليه ويمكن جعلها حجة للاستدلال، وعلى فرض صحتها فأين العفة المطلوبة بالعبد الآن، وأين عبيدنا وخدمنا من عبيدهم وخدمهم، ونساؤنا من فاطمة وعائشة وأم سلمة رضي اللّه عنهن، على أن قوله صلّى اللّه عليه وسلم للسيدة فاطمة لا بأس عليك إنه غلامك على فرض صحته يصرف إلى نظر الوجه واليدين إذ لا يمكن حجبهما عن الخادم الأمين لضرورة الأخذ والعطاء، أما نساء الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم فلا قياس عليهن، لأنهن أمهات المؤمنين أجمع ولا يمنع النّاس من النّظر إلى أمهاتهم، ومع هذا كن يحتجبن.