فصل: من فوائد القونوي في الآية الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد القونوي في الآية الكريمة:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} يتضمّن مسائل أربع: أولاها:
سرّ الحمد، ثم سرّ الاسم {اللّه} ثمّ سرّ الاسم {الربّ} ثم {العالمين}.
مقدّمة:
ولابد قبل الشروع في هذا الكلام من تقديم أصل وجيز يكون مذكّرا ببعض ما سلف ذكره في القواعد ممّا يتعلّق بهذا الأمر المتكلّم فيه، وعونا على فهم ما يذكر من بعد.
ولهذا المعنى ونحوه قدّمت تلك القواعد الكلّيّة، وضمّنتها من كلّيّات العلوم والحقائق ما يستعين به اللبيب على معرفة ما يأتي بعدها من التفاصيل، ولأكتفي في المواضع الغامضة- التي لا يتمّ إيضاحها إلّا بمعرفة أصلها- بالتنبيه على ما سلف من كلّيّات الأمور المعرّفة بسرّ ذلك الأصل وحكمه، فلا أحتاج إلى الإعادة والتكرار، فممّا سلف- ممّا يحتاج إلى استحضاره في هذا الموضع هو: أنّ كلّ موجود كائنا ما كان فله ذات ومرتبة، ولمرتبته أحكام تظهر في وجوده المتعيّن بحقيقته الثابتة، فتسمّى آثار تلك الأحكام في ذات صاحبها أحوالا. والمرتبة عبارة عن حقيقة كلّ شيء لا من حيث تجرّدها، بل من حيث معقوليّة نسبتها الجامعة بينها وبين الوجود المظهر لها والحقائق التابعة لها فإنّه قد بيّنّا أنّ بعض الحقائق تابع للبعض، وأنّ التابعة أحوال للمتبوعة وصفات ولوازم. وبيّنّا أيضا أنّ الموجودات ليست بأمر زائد على حقائق مختلفة ظهرت بوجود واحد تعيّن وتعدّد في مراتبها وبحسبها، لا أنّه إذا اعتبر مجرّدا عن الاقتران بهذه الحقائق يتعدّد في نفسه.
وللحقّ ذات ومرتبة، ومرتبته عبارة عن معقوليّة نسبة كونه إلها، وهذه النسبة من حيث هي هي مسمّاة بالألوهيّة، وللحقّ سبحانه من حيث هي آثار في المألوهين، وصفات لازمة تسمّى أحكام الألوهيّة. وذاته سبحانه من حيث تجرّدها عن جميع الاعتبارات المقيّدة، وعدم تعلّقها بشيء، وتعلّق شيء بها لعدم المناسبة لا كلام فيها، كما مرّ بيانه غير مرّة.
ومن حيث معقوليّة نسبة تعلّقها بالخلق، وتعلّقهم بها، وبحسب أحوالهم من كونهم مجاليه ومظاهره، يضاف إليها أحوال، كالرضى والغضب، والإجابة والفرح، وغير ذلك عبّر عنها بالشؤون. وتضاف إليها من حيث آثار مرتبتها التي هي الألوهيّة في كلّ مؤثّر فيه، صفات تسمّى أحكام المرتبة، كالقبض والبسط، والإحياء والإماتة، والقهر واللطف، ونحو ذلك فاعلم واستحضر هذه المقدّمة الكلّيّة لتنتفع بها- إن شاء اللّه تعالى- وبعد أن تقرّر هذا، فلنشرع في شرح الحمد بلسان التنبيه.
معنى الحمد:
فنقول قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} الحمد من مقام التفصيل والجمع لا الأحديّة، ولا يصحّ بين متماثلين، بل لابد من علوّ المحمود على الحامد من حيث هو محمود بالنسبة إلى الحامد من حيث هو حامد، حال الحمد وعلى أيّ وجه ظهر الحمد فإنّه من حيث صورته لسان من ألسنة الكمال، فهو في البداية إشارة إلى كمال قصد الحامد في نفسه، وإلى كمال مبدئيّة ظهور حكم القصد، من كون الحامد متوجّها لإظهار ما شرع فيه بالحمد.
وهو أيضا تنبيه على معرفة المثني بالمحمود من الوجه الذي بعثه على الحمد، وبالحال الموجب له ذلك.
وهو- أعني الحمد- في الآخر تعريف بكمال ما شرع فيه، وبحصول ما كان مطلوبا مع أنّه يسري في ذلك حكم طلبي متعلّقه دوام التحقق بذلك الكمال، وبقاء حكمه بعد نفوذه على الوجه الأتمّ وإيناع الثمرات العظيمة الجدوى. ولأوّل الحمد الغيب المفتتح به، ولآخره الشهادة المقتضية له وإن انتهى إلى الغيب.
وأمّا السرّ الجامع بينهما فراجع إلى المقام الذي تساوى نسبة الأطراف والمحامد بالنسبة إليه، ويختص بحمد الحمد الذي له الشمول والإحاطة، ومن ألسنته الحمد لله على كلّ حال فافهم.
ثم اعلم، أنّ أوّل ما يستفاد من إخبار كلّ مخبر عن أمر مّا، أو تعريفه له بلسان الثناء أو غيره كونه حاكما على نفسه بأنّه عارف بما أخبر عنه وأثنى عليه وعرّفه من حيث ما هو مخبر ومثن ومعرّف.
ثم تقع الفائدة من تفصيل إخباره وتعريفه وثنائه أنّ ما ادّعاه وحكم به على نفسه وعلى من عرّفه وأخبر عنه وأثنى عليه هل هو صحيح أم لا؟ ويظهر ذلك بالإصابة والصدق وعدمهما، فهو في أوّل أمره مدّع معرفة نفسه من حيث حكمه عليها، ومعرفة المخبر عنه والمثنى عليه والمعرّف، وفي الحال الثاني مبرهن على دعواه، ومعرب عمّا يوضح صحّة ما ادّعاه لنفسه ولغيره.
وإذا تقرّر هذا، فنقول: الحمد من حيث هو مطلق وكلّي لا لسان له ولا حكم يظهر عنه أو يضاف إليه، وهكذا شأن جميع الصفات والأسماء والحقائق المجرّدة الكلّيّة، المنسوبة إلى الحقّ وإلى الخلق على سبيل الاختصاص أو الاشتراك النسبي. وقد تقدّمت في بيان ذلك تنبيهات شتّى.
ثم ليعلم أنّ الحمد هو الثناء كما مرّ، وكلّ ثناء من كلّ مثن على كلّ مثنى عليه فهو تعريف كما بيّنّا، وهذا التعريف من المثني قد يكون بذاته أو بأحوالها أو بمرتبته أو بأحكامها أو بالمجموع. وقد سبقت في تعرّف الذوات وأحوالها والمراتب وأحكامها تلويحات كافية، ومع ذلك فنزيده هنا إيضاحا بمثال نذكره في الإنسان لكونه الأنموذج الأكمل والمراد بالقصد الأوّل. وإذا عرفت كيفيّة الأمر فيه، وبالنسبة إليه، عرف اطّراده فيما سواه من الموجودات بحسب نسبته منه إذ ليس شيء خارجا عنه فأقول:
حقيقة الإنسان عينه الثابتة، التي قلنا: إنّها عبارة عن نسبة معلوميّته للحقّ وتميّزه في حضرته أزلا حسب مرتبته وعلم ربّه.
وأحوال هذه الحقيقة ما يتقلّب فيه الإنسان وينضاف إليه ويوصف به من الصور والنشآت والتطوّرات وغير ذلك من الأمور التي ظهرت بالوجود المستفاد من الحقّ.
ومرتبته عبارة عن عبوديّته ومألوهيّته.
وأحكام هذه المرتبة الأمور والصفات المنضافة إليه من كونه عبدا ممكنا ومألوها، ومن كونها أيضا مرآة للحضرتين: الإلهيّة والكونيّة، ونسخة جامعة لما اشتملتا عليه ظاهرا بصورة الحضرة والخلافة.
ولمّا كان جميع ما يظهر بالإنسان والعالم وفيهما، ويوصفان به على سبيل الاشتراك وعلى سبيل التخصيص ليس بأمر زائد على سرّ التجلّي الإلهي الجمعي الأحدي وظهور حكمه فيهما بحسب الأسماء والصفات وبموجب أحكام النسب العلميّة المتعدّدة بقبول القابل، كان ثناء كلّ منهما- أعني الإنسان والعالم جمعا وفرادى- على الحقّ من حيث كلّ اعتبار وقسم من الأقسام والاعتبارات المذكورة هو نفس دلالته على أصل ذلك الأمر ونسبه في الجناب الإلهي وإعرابه عنه.
فتارة من حيث التفصيل، وتارة من حيث أحديّة الجمع، مرّة في مقام المضاهاة من حيث المثليّة للظهور بالصورة، وأخرى في مقام المقابلة بالنقائص، لما يمتاز به الكون عن موجده ومولاه، ولما ينفرد به الحقّ في مقام المقابلة ممّا لا يشاركه فيه سواه.
فثناؤه من جهة التفصيل أنّ كلّ فرد فرد من الحقائق والأجزاء العرضيّة والجوهريّة التي اشتملت عليه ذات الإنسان والعالم- يثني على الاسم والصفة الإلهيّة الناظرة إليه والمرتبطة بالحقّ من حيث هي بالألسن الأربعة المذكورة: لسان الذات، والحال، والمرتبة، والحكم.
ومتعلّق الثناء من حيث الجملة بلسان أحديّة الجمع الحضرة الذاتيّة الجامعة المحيطة بجميع الأسماء والصفات والعوالم والحضرات والنسب والإضافات. وحكم هذه النسبة الجامعة يظهر في كلّ قسم من الأقسام المذكورة، من حيث النسبة إلى الجناب الإلهي ذاتا وصفة وفعلا وإلى المقام الكوني، ويعبّر عن هذا الحكم الجمعي الأحدي في مقام الحمد بحمد الحمد فإنّ له في كلّ مقام اسما بحسبه.
وموجب هذا الحمد أنّ النعمة الذاتيّة الإلهيّة الكبرى- التي بها وجود الأشياء وبقاؤها وظهور أحكام الحقائق والأسماء والصفات وآثارها- لمّا كانت واصلة إلى الإنسان.
والعالم وما اشتملا عليه، تارة من جهة الأسماء والصفات والمراتب، وتارة لا من حيثيّته بعينها، اقتضت الحكمة العادلة وحكم الحضرة الكاملة ومقابلة ذلك بحمد وشكر جامع وحدانيّ النعت، كامل الوصف، مستوعب جميع أنواع الحمد، يظهر بالكمّل من حيث حمدهم ربّهم به ومن حيث حمده سبحانه نفسه بهم بصورة جامعة بين الحمدين في حالة واحدة لا حالتين، حمدا يعلو على حكم الحضرتين: الإلهيّة والكونيّة، وما اختصّ بهما من اسم ووصف وعين، فافهم واللّه المرشد.
واعلم، أنّ قولنا: إنّه لا يمكن أن يصدر ثناء من كلّ مثن على كلّ مثنى عليه دون معرفة المثنى عليه من حيث هو مثنى عليه لهذا المثني، وإنّ الثناء في الحقيقة تعريف والتعريف لا يصحّ بدون معرفة المعرّف، إنّما ذلك فيما عدا التعريف الذاتي فالتعريف الذاتي أمر وجداني والوجدانيات والأمور الذاتيّة. من أوضح مراتب العلم وأجلى أقسامه، فالشيء بهذا الاعتبار هو المثني على نفسه، والدالّ عليه من وجهين باعتبارين، كما أشرنا إلى ذلك في سرّ العلم، فافهم.
وأيضا فلمّا كانت الموجودات بأسرها كلمات اللّه، كان ثناؤها على الحقّ- كما اومأت إليه- هو بما استفادته منه وانطبع في مرائي أعيانها من تجلّيه، فالمقترن بها من نور الحقّ وسرّ صفاته وأسمائه بما استفادته هو المثني فيهم ومنهم على الحقّ، فإذن الحقّ هو المثني على نفسه من حيث مراتب خلقه وبخلقه، لا هم.
وهكذا الشأن في الأمور كلّها غير الحمد، فرجع الأمر كلّه إليه، وعادت عاقبة كلّ ثناء عليه، وكان الحمد صفته ونسبة من نسبه لا تغايره إلّا باعتبار تسميتها حمدا، فكان الحامد من هذا الوجه وهذا الاعتبار هو الحمد والمحمود ولتتذكّر ما نبّهت عليه في حمد الحمد فهذا من سرّه.
واعلم، أنّه قد بقيت تتمّة لطيفة من أقسام الحمد وهي- مع اندراجها في الأقسام والأصول المذكورة- تفيد مزيد إيضاح فإنّ لسان مرتبتها أقرب نسبة من المدارك ممّا تقدّم ذكره.
فإذا عرفت هذا، فنقول: الحمد ينقسم من وجه إلى حمد المحمود نفسه، وإلى حمد غيره له. ثم إنّ الحمد بما يحمد الشيء نفسه أو بما يحمده غيره على أنواع ثلاثة لأنّه إمّا أن يحمده بصفة فعل أو صفة تنزيه أو صفة ثبوتيّة قائمة بالمحمود يستحسنها الحامد، فيثني على المحمود من حيث هي، أو عليها من حيث ظهور حكمها بالمحمود وفيه، بما بيّنه وبينها من المناسبة الثابتة بما فيه منها، كما بيّنّا. وهذا القسم من وجه يندرج في قسم صفة الفعل فإنّ الاستحسان ونحوه لا يخلو عن نوع انفعال.
وحمد الحمد يسري ويظهر في كلّ الأقسام بذاته ولو لم يكن لما صحّ حمد لما عرفت من أنّ الحكم في كلّ موجود ومرتبة للسرّ الجمعي، فتذكّر.
ثم الحمد نوعان: أحدهما- وهو العلم- الحمد بما عليه المحمود. والثاني أخصّ منه، وهو الحمد بما يكون منه، ويسمّى شكرا. وتعيين الكلمات والصور والصفات والأحوال والكيفيّات الظاهرة والمعقولة من حيث دلالتها على ما ذكر لا يتناهى، وليس للحمد والمحمودين والحامدين قسم ولا مرتبة تخرج عن هذه الأصول التي ذكرناها.
وخاتمة الضوابط في هذا الباب هو أن تعلم أنّ كلّ ما ينسب إلى الجناب الإلهي بلسان الحمد والثناء لا يخلو إمّا أن يفيد أمرا ثبوتيّا أو سلبيّا، فالسلب راجع إلى التسبيح، والإثبات مندرج في الحمد، فافهم. ومع أيّ مرتبة من مراتب الحمد المذكورة حضر معها الحامد حال الحمد فإنّ النتيجة والجزاء من جهة الحقّ تكون لذلك الحامد من حيث تلك المرتبة وبحسبها، ومن حضر مع حمد الحمد وسرّ الجمعيّة دون التقيد بمرتبة ما أو صفة أو موجب على التعيين، كان ثمرة حمده الحقّ سبحانه وتعالى إذ ليس لصاحب هذا الحمد همّة متعلّقة بكون ولا متقيّدة بمرتبة ولا صفة ولا اسم ولا غير ذلك، والثمرات بحسب الأصول، فافهم وتدبّر سرّ هذا الفصل وحصره وإيجازه فإنّك إن خرقت بعون اللّه حجب جمله، تنزّهت في رياض تفاصيله، واللّه وليّ الإحسان والإرشاد. الحمد للّه.
قوله تعالى: {لِلَّهِ}. اعلم، أنّه قد نبّهنا على كلّيّات أسرار التسمية والأسماء ومتعلّقاتها وأحكامها بأصول حاصرة شاملة الحكم، عزيزة المنال، لا تخرج عن حيطة الذوق المختصّة بمقامها ذوق إلّا بنسبة جزئيّة تفصيليّة شاهدة باندراجها تحت حيطة الذوق والأصول المذكورة، وقد سبق في شرح هذا الاسم عند الكلام على البسملة ما يسّر الحقّ ذكره، ونحن نذكرها هنا أيضا ما يستدعيه هذا الموضع حسب تيسير اللّه ومشيئته، فنقول: قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} إضافة الحمد إلى الحقّ من حيث هذا الاسم إخبار، وهذا الاسم اسم جامع كلّي، لا يتعيّن له- من حيث هو- حمد ولا حكم، ولا يصحّ إليه إسناد أمر أصلا، كما أشرت إلى ذلك في الحمد المطلق وسائر الحقائق المجرّدة.