فصل: حد القذف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.حد القذف:

قال اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَدًا وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} أصل الرمي: القذف بشيء صلب، يقال: رمى فلانا بالحجر ونحوه: قذفه به، ورمى الحجر: ألقاه، واستعمال الرمي في الشتم مجاز، وهو المراد هنا، والقرينة قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ} لأنّ الإتيان بالشهادة هنا في مصلحة الرامين، وليس من المعقول أن يكون من مصلحتهم الإتيان بأربعة يشهدون بأنهم رموا المحصنات بالحجر أو نحوه، فتعيّن أن يكون المراد أنّهم يشتمون المحصنات ويرمونهم بالعيب، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء يشهدون على صدقهم فيما رموا به المحصنات من العيب. ثم المراد بذلك العيب الزنى، ويدلّ عليه إيراد الجملة عقيب الكلام في الزنى وأحكامه.
والتعبير عن المفعول بالمحصنات، وأشهر معاني الكلمة العفيفات المنزّهات عن الزنى، فكأنه قيل: يرمون المنزهات عن الزنى، ويكاد هذا يكون صريحا في أنّ المراد يرمونهم بالزنى، ثم اشتراط أربعة من الشهود مع العلم بأنه لا شيء يتوقف ثبوته على شهادة أربعة إلا الزنى يقوّي أنّ المراد الرمي بالزنى.
وأصل الإحصان: المنع، والمحصن بالفتح يكون بمعنى الفاعل والمفعول، وهو أحد الكلمات الثلاث التي جاءت نوادر يقال: أحصن فهو محصن، وأسهب فهو مسهب، وأفلح- إذا افتقر- فهو مفلح، والفاعل والمفعول في هذه الأحرف الثلاثة سواء.
والمفهومات التي يطلق عليها لفظ الإحصان أربعة: فالمرأة تكون محصنة:
بالعفاف والإسلام، وبالحرية، وبالتزوج. وكذلك الرجل.
والصور التي يتحقق بها القذف أربع: فقد يكون القاذف والمقذوف رجلين، وقد يكونان امرأتين، وقد يكون القاذف رجلا والمقذوف امرأة، وقد يكون القاذف امرأة والمقذوف رجلا. فهل نستطيع أن نأخذ من الآية أحكام الصور الأربع؟ لا شك أنّ الآية جعلت الرامي من جنس الرجال، والظاهر أنّ المراد من المحصنات النساء المحصنات، وحينئذ تكون الآية تعرّضت بالنص لصورة واحدة من الصور الأربع، وهي أن يكون القاذف رجلا والمقذوف امرأة.
أما حكم الصور الثلاث الباقية فإنما يثبت بدلالة النص، للقطع بإلغاء الفارق، وهو صفة الأنوثة في المقذوف، وصفة الذكورة في القاذف، واستقلال دفع العار بالتأثير في شرع الحكم، وحينئذ يكون تخصيص الذكور في جانب القاذف، والإناث في جانب المقذوف لخصوص الحادثة.
وقد أخرج البخاري أنّ الآية نزلت في عويمر وامرأته، وعن سعيد بن جبير أنّها نزلت في قصة الإفك. ومن قال: إنّ المراد بالمحصنات في الآية الفروج المحصنات، أو الأنفس المحصنات، لم يخل قوله عن وهن وضعف.
ولم تشرط الآية في القاذف أكثر من عجزه عن الإتيان بأربعة شهداء، لكنّ قواعد الشرع تقتضي بأنّ المخاطب بمثل هذا الحكم إنما هو أهل التكليف: البالغ العاقل المختار العالم بالتحريم حقيقة أو حكما الملتزم بالأحكام إلى آخر ما هو مبيّن في كتب الفروع.
وكذلك لم تشرط في المقذوف أكثر من أن يكون محصنا، وقد كان يكفي في تحقق الشرط أن يكون المرمي محصنا بأي معنى من معاني الإحصان الأربعة، إلا أنه لما كان ثبوت الحد يجب فيه الاحتياط، فلا يثبت إلا عن يقين: وجب اعتبار سائر المفهومات التي يطلق عليها لفظ الإحصان إلا ما أجمع على عدم اعتباره هنا، وهو كون المرمي زوجا أو زوجة.
وأشهر معاني الإحصان: العفّة عن الزنى، فمن أجل ذلك كانت العفة عن الزنى، معتبرة في تحقق الإحصان هنا قطعا، لا نعلم في ذلك خلافا لأحد، فمن قذف شخصا غير عفيف لا يحدّ باتفاق.
واشتراط العفة عن الزنى في تحقق الإحصان يستتبع اشتراط البلوغ والعقل في تحققه أيضا، إذ إن الصبي لا يقال فيه عفّ عن الزنى، وكذلك المجنون لا يقال فيه:
عفّ عن الزنى، كما لا يقال للمجبوب: عفّ عن الزنى، وكما لا يقال للأعمى: عفّ عن النظر إلى المحرمات، إنما يقال عفّ عن الزنى لمن كان يتصوّر الزنى منه، ثم كفّ عنه، وذلك البالغ العاقل الفحل.
ولابد من اعتبار الحرية، لأنّها من معاني الإحصان- على ما علمت- والرقيق ليس بمحصن بهذا المعنى، وإذا كان محصنا من جهة أخرى، فغاية ما فيه أنّه محصن من وجه، وغير محصن من وجه، وذلك شبهة في إحصانه، فوجب درء الحد عن قاذفه.
وكذلك لابد من اعتبار الإسلام أيضا في تحقيق الإحصان، فالكافر ليس بمحصن بهذا المعنى، وإذا كان محصنا من جهة أخرى، فغايته أنه محصن من وجه وغير محصن من وجه، فيكون ذلك شبهة في إحصانه، فيجب درء الحد عن قاذفه.
ولولا أنّ الإجماع قائم على عدم اعتبار الإحصان بمعنى التزوج لكان عدم التزوج شبهة في إحصان المقذوف، فلا يحد قاذفه.
والحاصل أنّه يعتبر في تحقق إحصان المقذوف العفة عن الزنى، والحرية والإسلام، وأما البلوغ والعقل فإنّهما من لوازم العفة- كما علمت- وهذا الذي ذكرناه لك هو رأي الجمهور من العلماء وفقهاء الأمصار، وأصحّ الروايتين عن أحمد، ولبعض الفقهاء خلاف في شيء من ذلك: فداود الظاهري لا يشترط الحرية في المقذوف، ويرى أنّ قاذف العبد يحد، فإن كان يكتفي في الإحصان بالعفة لشهرته فيها لزمه القول بحد من قذف كافرا عفيفا.
وروي عن ابن أبي ليلى أنّ من قذف ذميّة لها ولد مسلم يحدّ. قال بعضهم:
وكذلك يحد قاذفها إذا كانت تحت مسلم. ذهبوا إلى ذلك دفعا للعار الذي يلحق ابنها أو زوجها المسلم.
وعن أحمد في إحدى الروايتين القول بحدّ قاذف الصبي الذي يجامع مثله.
وقال مالك في الصبية التي يجامع مثلها: يحدّ قاذفها، ألحق مالك وأحمد في هذه الرواية دور المراهقة بالبلوغ، ونظرهما في ذلك إلى أنّ المراهق يلحقه العار كما يلحق البالغ، فوجب الحدّ لدفع العار. وكذلك يقول مالك والليث: يحدّ قاذف المجنون لدفع العار الذي يلحقه.
والجمهور يمنعون لحوق العار للصبي والمجنون إذا نسبا إلى الزنى، ولو فرضنا لحوق العار فليس ذلك على الكمال، فيندرئ الحد عن قاذفهما، وليس معنى ذلك أنه لا عقوبة على قاذفهما، بل يجب على الإمام تعزيره للإيذاء.
وقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ} قد شرط في تحقق القذف المستوجب للعقوبة عجز القاذف عن الإتيان بأربعة يشهدون أنهم قد رأوا المقذوف يزني، والتاء في {بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ} في ظاهرها تفيد اعتبار كونهم من الرجال، والحكم كذلك، لأنّه لا مدخل لشهادة النساء في الحدود باتفاق. ولم يستفد من الآية في صفة هؤلاء الشهداء أكثر من أنهم أربعة رجال من أهل الشهادة. وللعلماء خلاف في أهل الشهادة من هو فالشافعية يقولون: لابد في أهل الشهادة أن يكون عدلا، والحنفية يقولون: الفاسق من أهل الشهادة، فإذا شهد أربعة فسّاق فهم قذفة عند الشافعية يحدون كما يحد القاذف الأول، إذ لم يأت بأربعة من أهل الشهادة. والحنفية يقولون: لا حد عليه، لأنه أتى بأربعة من أهل الشهادة، إلا أنّ الشرع لم يعتبر شهادتهم لقصور في الفاسق، فثبتت بشهادتهم شبهة الزنى، فيسقط الحد عنهم وعن القاذف، وكذلك عن المقذوف لاعتبار العدالة في ثبوت الزنى.
وظاهر العموم في الآية أنه يكفي أن يكون أحد الأربعة زوج المقذوفة، وبهذا الظاهر قال أبو حنيفة وأصحابه.
وقال مالك والشافعي: يلاعن الزوج، ويحدّ الثلاثة، وحجتهم في ذلك أنّ الشهادة بالزنى قذف، بدليل أنّ الشاهد يحدّ إذا لم يكمل النصاب، ولفظ الآية وإن كان عاما إلا أن آية اللعان جعلت للزوج حكما يخصه، وآية اللعان أخصّ من الآية التي معنا، والخاصّ مقدّم على العام.
وظاهر الإطلاق في الآية أنّه إذا أتى بأربعة شهداء كيفما اتفق مجيئهم مجتمعين أو متفرقين فهو آت بمقتضى النص، واجتماعهم أمر زائد لا إشعار به في الآية، وبهذا الظاهر قال مالك والشافعي، وأيدا قولهما بالقياس على الشهادة في سائر الأحكام، بل تفريقهم أولى، لأنه أبعد عن التهمة والتواطؤ.
وأيضا فليس من الممكن أن يشهدوا معا في وقت واحد، فلابد أن يسمع القاضي شهادتهم واحدا بعد آخر، فكذلك إذا اجتمعوا عند بابه، ثم دخلوا عليه واحدا بعد آخر.
وقال أبو حنيفة: إذا جاؤوا متفرقين لم يسقط الحد عن القاذف، وعليهم حد القذف، وحجته في ذلك أن الشاهد الواحد لما شهد صار قاذفا ولم يأت بأربعة شهداء، فوجب عليه الحد، وخرج عن كونه شاهدا، ولا عبرة بتسميته شاهدا إذا فقد المسمى، فلا خلاص من هذا الإشكال إلا باشتراط الاجتماع.
وظاهر الآية أيضا أنه إذا لم يأت القاذف بتمام العدة، بأن أتى باثنين أو ثلاثة منها جلد، ولم تتعرّض الآية لحكم الشهود إذا لم يكملوا النصاب، والمأثور أنّهم يحدون، فقد صحّ أنه رفع إلى عمر بن الخطاب حادثة شهد فيها على المغيرة بن شعبة بالزنى: شبل بن معبد وأبو بكرة وأخوه نافع وكان رابعهم زيادا، فلم يجزم بالشهادة بحقيقة الزنى، فحد الثلاثة عمر بمحضر من الصحابة رضي اللّه عنهم، ولم ينكروا عليه.
وقوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً} المخاطب فيه هم أولياء الأمر من الحكام.
وقد سبق الكلام آنفا فيمن يلي الحدّ في تفسير قوله تعالى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ} وظاهر العموم في اسم الموصول في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} إلخ أنّ الزوج وغيره في هذا الحكم سواء، وأن الزوج إذا قذف زوجته، وعجز عن البينة فعليه الحد.
لكن آية اللعان قد جعلت للزوج مخرجا إذا هو عجز عن البينة، فشرعت له اللعان كما يأتي، فتكون آية اللعان مخصّصة للعموم في الموصول هنا، وظاهر العموم أيضا أنّ الرقيق والحر في ذلك الحكم سواء، وأنّ كلا منهما يجلد ثمانين جلدة إذا وقع القذف منه بشرطه، وبهذا الظاهر قال ابن مسعود والأوزاعي، وهو أيضا مذهب الشيعة.
لكنّ فقهاء الأمصار مجمعون على أنّ حد الرقيق في القذف أربعون جلدة على النصف من حد الحر، كما في الزنى، وعلى ذلك تكون الآية خاصة بالأحرار.
وظاهر قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ} أنّ الإمام يقيم الحدّ ولو من غير طلب المقذوف، وبهذا قال ابن أبي ليلى.
وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي: لا يحد إلا بمطالبة المقذوف.
وقال مالك: إذا سمعه الإمام يقذف حده ولو لم يطلب المقذوف، إذا كان مع الإمام شهود عدول.
ولا يخفى أنّ القول بتوقف استيفاء الحد على المطالبة ظاهر في أنّ الحد حق العبد، كما أنّ تنصيفه على الرقيق ظاهر في أنّه حق للّه، ومما لا شكّ فيه أن في القذف تعديا على حقوق اللّه تعالى، وانتهاكا لحرمة المقذوف، فكان في شرع الحد صيانة لحق اللّه ولحق العبد. هذا المقدار لا خلاف فيه لأحد، إنما الخلاف بين الشافعية والحنفية في الذي يغلب من الحقين على الآخر. فالشافعية يغلّبون حق العبد باعتبار حاجته وغنى اللّه جلّ شأنه. والحنفية يغلبون حق اللّه تعالى، لأنّ ما للعبد من الحقوق يتولى استيفاءه مولاه، فيصير حق العبد تابعا لحق اللّه تعالى، فإذا غلّبنا حق اللّه تعالى كان حقّ العبد مستوفى لا مهدرا، وليس العكس كذلك. فما لا تعارض فيه من الصور بين حقّ اللّه وحق العبد فأمره ظاهر، وكذلك ما اتفق فيه الفريقان على تغليب أحد الحقين.