فصل: الاستئذان في دخول البيوت:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الاستئذان في دخول البيوت:

قال اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)}.
الآيات التي تقدّمت في صدر الصورة كانت في حكم الزنى وبيان أنّه قبيح ومحرّم، وأنّ صاحبه يستحق العذاب والنكال، ولما كان الزنى طريقه النظر والخلوة والاطلاع على العورات، وكان دخول الناس في بيوت غير بيوتهم مظنة حصول ذلك كلّه أرشد اللّه عزّ وجلّ عباده إلى الطريقة الحكيمة التي يجب أن يتبعوها إذا أرادوا دخول هذه البيوت، حتى لا يقعوا في ذلك الشر الوبيل، وأيضا فإنّ أصحاب الإفك لم يكن لهم متكأ في رمي عائشة رضي اللّه عنها إلا أنها كانت مع صفوان في خلوة أو ما يشبه الخلوة، لذلك نهى اللّه سبحانه وتعالى عن دخول البيوت بغير إذن حتّى لا يؤدي ذلك إلى القدح في أعراض البراء الأطهار.
روي في سبب نزول هذه الآية أن امرأة أتت النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت: يا رسول اللّه إني أكون في بيتي على الحالة التي أحبّ أن لا يراني عليها أحد، ولا ولد ولا والد فيأتيني آت، فيدخل عليّ فكيف أصنع؟ فنزل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} إلخ.
وكلمة {بُيُوتًا} نكرة واقعة في سياق النهي فكانت في ظاهرها شاملة البيوت المسكونة وغير المسكونة، إلا أن مقابلتها بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} يقتضي حملها على المسكونة فقط. والمراد بالبيوت المضافة إلى المخاطبين في قوله تعالى: {غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} البيوت التي يسكنونها. فالمعنى: لا تدخلوا بيوتا مسكونة لغيركم حتى تستأنسوا إلخ.
الاستئناس: استفعال. قيل: إنه من آنس بالمد بمعنى علم {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] فالاستئناس طلب العلم. فالذي يريد أن يدخل بيت غيره مكلّف قبل الدخول أن يستأنس، أي يتعرّف من أهله ما يريدونه من الإذن له بالدخول وعدمه، فهو بمعنى الاستئذان. وقد فسّره بذلك ابن عباس كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم وابن الأنباري وابن جرير وابن مردويه. وهو أيضا تفسير ابن مسعود وإبراهيم وقتادة رضي اللّه عنهم.
ويدل على أنّ المراد بالاستئناس الاستئذان قوله تعالى: {وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 59] فإنّ المراد بالذين من قبلهم هم المخاطبون في الآية التي معنا. وقد سمّى اللّه تعالى استئناسهم استئذانا.
وعن ابن عباس من طريق شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عنه أنه كان يقرأ هذا الحرف حتى تستأذنوا ويقول: غلط الكاتب. وهذا يوافق ما رواه الحاكم وصححه والضياء في كتابه الأحاديث المختارة والبيهقي عن ابن عباس أيضا أنه قال في: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} أخطأ الكاتب. وإنما هي حتى تستأذنوا ومن أجل أنّ هذه الرواية فيها كما ترى دلالة على أن ابن عباس ينكر وجها من وجوه القراءات المتواترة للقرآن الكريم- ولا شك أنّ القول بهذا فيه شر كبير- لهذا أنكر أبو حيان هذه الرواية عن ابن عباس وقال: إنّه رضي اللّه عنه يجل مقامه أن يذهب هذا المذهب الفاسد، ومن روى عنه ذلك فهو طاعن في الإسلام، ملحد في الدين.
لكن غير أبي حيان ممن لا يرى رأيه في هذه الرواية يجيب عنها بغير ما أجاب، فابن الأنباري لم ينكرها، بل قال: إنها ضعيفة ومعارضة بروايات أخرى عن ابن عباس، منها ما تقدّم لك أنه كان يفسر الاستئناس بالاستئذان، وهذا يدلّ على أنّه ما كان ينكر قراءة {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا}.
وبعض العلماء لم يجادل في صحة الرواية التي يقول فيها ابن عباس بخطأ الكاتب نظرا إلى أنها رويت من عدة طرق في بعضها قوة وجودة لهذا اضطر أن يؤول قوله: أخطأ الكاتب بأنه ينبغي أن يكون مراد به أنّ الكاتب الذي عهد إليه أن يكتب القرآن بحرف واحد يجتمع عليه الناس أخطأ في اختيار هذا الحرف {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} دون الحرف الثاني تستأذنوا وكان ينبغي أن يختار الثاني، لأنّه أبين وأوضح دلالة على المعنى، ولأنّ معناه محدود، إذ ليس في اللفظ تجوّز ولا اشتراك.
وهذا الجواب الأخير هو مختار المحققين من العلماء وأئمة التفسير.
ويصح أن يكون الاستئناس مأخوذا من الأنس بضم الهمزة، وهو سكون النفس واطمئنان القلب وزوال الوحشة، فإنّ القادم على بيت غيره مستوحش لا يدري أيؤذن له بالدخول أم لا، فعليه أن يستأنس أولا، أي يلتمس ما يؤنس ويزيل وحشته، وذلك الالتماس إنما يكون بالاستئذان.
وقيل: إنّ المراد بالاستئناس إعلام الطارق أهل البيت إعلاما تاما أنه قادم عليهم، ويدل له ما روي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال: قلنا يا رسول اللّه ما الاستئناس؟ فقال: «يتكلم الرجل بالتسبيحة والتكبيرة والتحميدة يتنحنح يؤذن أهل البيت».
وقيل: إنّ المراد بالاستئناس فعل ما يؤنس أهل البيت، ويدفع عنهم الوحشة التي كانت تلمّ بهم لو لم يفعل. وذلك يكون بالتنحنح وما يشبهه، فهذه معان أربعة للاستئناس:
الأول: أن القادم يطلب العلم برأي أصحاب البيت في دخوله.
والثاني: أنه يطلب منهم ما يؤنسه ويزيل وحشته.
والثالث: أنه يعلمهم إعلاما مؤكدا بقدومه.
والرابع: أنه يؤنسهم بعمل ما، كأن يسبح أو يكبر، ومنه ما تعارفه الناس اليوم من دقّ الباب دقا خفيفا دلالة على طلب الإذن.
وأنت ترى أنّ مآل المعنيين الأولين للاستئناس هو الاستئذان، فيكون القادم منهيا عن الدخول قبل أن يأتي بعبارة صريحة تدلّ على الاستئذان، وحينئذ لا يباح له الدخول إلا أن يؤذن له، إذ لا معنى للاستئذان دون أن ينتظر الإذن، فيكون تأويل الآية هكذا: لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأذنوا ويؤذن لكم، ويدل على هذا المضمر قوله تعالى بعد: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ}.
أما على المعنيين الآخرين فظاهر الآية أنّه لا يتوقف دخول القادم على أن يأذن له بذلك أهل البيت ما دام قد أعلمهم وأزال وحشتهم. وبهذا قال مجاهد وعكرمة، ولعلّك ترى أنّ هذا الرأي ضعيف، فإنّ إعلامهم ودفع الوحشة عنهم لا ينبغي أن يكون كافيا في إباحة الدخول، إذ الحكمة التي من أجلها شرع الاستئذان هي أنّ اقتحام البيوت بغير إذن قد يؤدي إلى أن يقع نظر الداخل على ما لا يحل النظر إليه، أو يطلع على ما يكره أهل الدار اطلاعه عليه.
وظاهر الآية الكريمة أنّه لابدّ قبل الدخول من الاستئذان والسلام معا، وعليه جمهور الفقهاء، فكلّ من الاستئذان والسلام مطلوب غير أنّ الطلب فيهما متفاوت، فالطلب في الاستئناس على سبيل الوجوب، والطلب في السلام على سبيل الندب، كما هو حكم السلام في غير هذا الموطن.
وظاهرها أيضا تقديم الاستئذان على السلام، لأنّ الأصل في الترتيب الذكري أن يكون على وفق الترتيب الواقعي، وبهذا الظاهر قال بعض العلماء. وجمهور الفقهاء على تقديم السلام على الاستئذان، وحجتهم في ذلك عموم قوله صلّى اللّه عليه وسلّم فيما أخرجه الترمذي عن جابر رضي اللّه تعالى عنه: «السلام قبل الكلام».
وما أخرجه ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب عن أبي هريرة فيمن يستأذن قبل أن يسلّم، قال: لا يؤذن له حتّى يسلم.
وما أخرجه ابن أبي شيبة وابن وهب عن زيد بن أسلم قال: أرسلني أبي إلى ابن عمر رضي اللّه عنهما فجئته فقلت أألج؟ فقال: ادخل، فلما دخلت قال: مرحبا يا ابن أخي، لا تقل أألج، ولكن قل: السلام عليكم. فإذا قيل: وعليك، فقل: أأدخل؟ فإذا قالوا: ادخل، فادخل.
وما أخرجه قاسم بن أصبغ وابن عبد البر عن ابن عباس قال: استأذن عمر رضي اللّه عنه على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: السلام على رسول اللّه السلام عليكم أيدخل عمر؟
وبعض العلماء فصّل في المسألة فقال: إن كان القادم يرى أحدا من أهل البيت سلّم أولا، ثم استأذن في الدخول، وإن كانت عينه لا تقع على أحد منهم قدّم الاستئذان على السلام. وهذا قول جيّد، ولا ينافيه حديث الترمذي والآثار السابقة، فإنّه يمكن أن تحمل على الحالات التي يكون فيها القادم بحيث يرى أهل البيت. فالأصل أن يقدّم الاستئذان على السلام كما هو ظاهر الآية إلا أن يكون القادم بحيث يرى أهل الدار، فينبغي أن يحييهم أولا بالسلام، ثم يستأذن. وفي هذا جمع بين الأدلة.
وظاهر الآية أنّ الاستئذان غير مقيّد بعدد، فإن استأذن مرة فأجيب بالإذن دخل، وإن أجيب بالرد رجع، وإن لم يجب فلا عليه أن يرجع.
وقال بعض العلماء: إنّ الاستئذان ثلاث مرات، فمن لم يؤذن له بعدهن فليرجع، إلا إذا أيقن أنّ من في البيت لم يسمع، فإنّه يجوز له الزيادة على الثلاث.
والحكمة في هذا العدد أنّ المرة الأولى لإسماع من في البيت، والثانية: ليتهيؤوا، والثالثة: ليأذنوا، أو يردوا. واستدلّ هؤلاء بما روى أبو هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «الاستئذان ثلاث: بالأولى يستنصتون، وبالثانية: يستصلحون، وبالثالثة: يأذنون أو يردون» وبما روي عن أبي سعيد الخدري قال: كنت جالسا في مجلس من مجالس الأنصار، فجاء أبو موسى فزعا، فقلنا له: ما أفزعك؟ فقال أمرني عمر أن آتيه فأتيته، فاستأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي، فرجعت فقال: ما منعك أن تأتيني؟
فقلت: قد جئت فاستأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي. وقد قال عليه الصلاة والسلام: «إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع» فقال: لتأتيني على هذا بالبينة أو لأعاقبنك، فقال أبيّ بن كعب: لا يقوم معك إلا أصغر القوم. قال أبو سعيد: وكنت أصغرهم، فقمت معه، فأخبرت عمر أنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال ذلك.
والراجح أنّ الواجب إنما هو الاستئذان مرة، فأما إكمال العدد ثلاثا فهو حقّ المستأذن، إن شاء أكمله، وإن شاء اقتصر على مرة أو مرتين.