فصل: حكم النظر وإبداء الزينة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.حكم النظر وإبداء الزينة:

قال اللّه تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30)} اتصال هذه الآية بما قبلها هو أنّ غضّ البصر أمر مستحسن، وأدب جميل ينبغي للمستأذن أن يتحلّى به عند الدخول، فإنّ دخول بيت الغير مظنة الاطلاع على العورات. وقد جيء في صورة حكم عام كلف به المؤمنين جميعا، حتّى يشمل المستأذنين وغيرهم.
وسبب نزول هذه الآية على ما أخرجه ابن مردويه عن علي كرّم اللّه وجهه أنّ رجلا مرّ على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في طريق من طرقات المدينة، فنظر إلى امرأة ونظرت إليه، فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجابا به، فبينما الرجل يمشي إلى جنب حائط، وهو ينظر إليها، إذا استقبله الحائط، فشقّ أنفه، فقال: واللّه لا أغسل الدم حتى آتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأخبره أمري، فأتاه، فقصّ عليه قصته، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «هذا عقوبة ذنبك» وأنزل اللّه تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ} إلخ.
يأمر اللّه نبيه أن يحث المؤمنين على أن يغضوا أبصارهم عمّا لا يحل، ويحفظوا فروجهم عن المحرمات، ويبيّن لهم أن ذلك أطهر لأخلاقهم، وأبعد بهم عن مظان الريبة وسوء السمعة.
والفعل المضارع {يَغُضُّوا} مجزوم في جواب قُلْ ومفعول القول محذوف، والتقدير: قل للمؤمنين غضوا أبصاركم يغضوها. وكذلك التقدير في {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} وفي هذا إشارة إلى أنّ شأن المؤمنين أن يسارعوا إلى امتثال الأوامر، حتى كأنّهم لفرط مطاوعتهم لا ينفك فعلهم عن أمره عليه الصلاة والسلام.
وغضّ البصر إطباق الجفن على الجفن، أو هو خفض الجفن الأعلى وإرخاؤه، ومن الثاني قول كعب بن زهير:
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا ** إلا أغنّ غضيض الطرف مكحول

فليس يريد أنها مغمضة عينها مطبقة أجفانها، بل إنها خافضة الطرف من الحياء والخفر.
وكلمة {مِنْ} قيل: إنها صلة على مذهب الأخفش، والراجح أنها أصلية، وهي على ذلك تحتمل معاني أظهرها أنّها للتبعيض، أي يغضوا بعض أبصارهم، وهو كناية عن غض بصرهم عن بعض المبصرات، وهي التي لا تحلّ، أو يغضوا بعض أبصارهم عند النظر إلى المحرمات، فلا يحملقوا بأعينهم في محرّم، ويكون المعنى على هذا الوجه على إرادة توبيخ من يكثر التأمّل في المحرم، كما تقول لمن عهدت أنه يأتي نوعا من المنكر، ورأيته يسترسل فيه: بعض هذا يا فلان. فأنت لا تريد منه أن يقتصر على بعض هذا المنكر، ولا تفيد بهذا أنك ترضاه له، وأنك تقرّه عليه، بل غرضك أن تلومه وتوبخه على التمادي فيه.
وربما ساعد على هذا المعنى ما سبق في نزول الآية، مما يدل على أنّ الرجل والمرأة كان كل منهما يمعن النظر في صاحبه، حتى وسوس الشيطان لهما أنّ كلّا منهما معجب بالآخر.
وقد يرشّح هذا المعنى أيضا تغيير النظم في هذه الآية، وصرف الخطاب فيها عن وجهه بتوجيهه إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، وتكليفه أن يأمر الناس بغض الأبصار، فإنّ في هذه الطريقة إشعارا بأنّ هذا الفعل قبيح، وأنّ صاحبه يستحق أن يعرض عنه، ويصرف الخطاب إلى غيره.
ولا يلزم من مراعاة هذا المعنى في جانب الأمر بغضّ البصر أن يراعى أيضا في الأمر بحفظ الفروج، فإنّ أمر الفروج عظيم ينبغي أن يشدد فيه أكثر مما يشدد في غيره، فلا يستقيم مع ذلك أن يؤتى في جانب الأمر بحفظ الفروج بعبارة توهم صورتها أنّ بعض الفروج قد يتساهل فيه، ولا يشدد في الأمر بحفظه.
وقال صاحب الكشاف: إنما دخلت مِنْ في غضّ البصر دون حفظ الفرج للدلالة على أنّ أمر النظر أوسع، ألا ترى أنّ المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن وثديهن وأعضادهن وسوقهن وأقدامهن، وكذلك الجواري المستعرضات للبيع، وأنّ الأجنبية ينظر إلى وجهها وكفيها. وأمّا أمر الفرج فمضيّق، وكفاك فرقا أن أبيح النظر إلا ما استثني منه، وحظر الجماع إلا ما استثني منه.
وقد اختلف في المراد بحفظ الفروج، فقيل: إنّ معناه تجنب الزنى واللواطة، وقيل: إن المراد سترها، فلا يحل للمؤمن أن يكشف عن سوءته، ولا أن يلبس لباسا رقيقا يشفّ عما تحته، ويبين عورته، ولا مانع من إرادة المعنيين جميعا.
ثم لا يخفى وجه الجمع بين أمرين:
أحدهما: متعلق بحفظ الأبصار.
والثاني: متعلق بحفظ الفروج فإنّ النظر إلى المحرم من أقوى الدواعي إلى الوقوع في الفجور، فكان حراما، لأن من شأنه أن يؤدي إلى الحرام، فإن وقع القصر على محرم من غير قصد وجب أن يصرف عنه، وليس على المرء إثم في النظرة الأولى غير المقصودة، فقد روى مسلم عن جرير بن عبد اللّه البجلي رضي اللّه عنه قال: سألت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري.
وروى أبو داود عن بريدة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لعلي: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإنّ لك الأولى وليست لك الآخرة».
{ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ} أي ما ذكر من غضّ البصر وحفظ الفرج أطهر لقلوبهم، وأنقى لدينهم، وأبعد بهم عن الريبة. وأفعل التفضيل هنا للمبالغة في أنّ غضّ الأبصار وحفظ الفروج يطهّران النفوس من دنس الرذائل، أو أنّ المفاضلة على سبيل الفرض والتقدير، أو باعتبار ظنهم أنّ في استيفاء اللذة نفعا.
{إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ} الخبرة: العلم القوي الذي يصل إلى بواطن الأشياء، ويكشف عن دخائلها، فاللّه خبير بما يصنعون. عليم علما تاما بظواهر أعمالهم وبواطنها، لا تخفى عليه من ذلك خافية، وهو وعيد وتهديد على مثال ما سبق.
قال اللّه تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)} جرت عادة القرآن الكريم في التكاليف العامة والآداب التي تشمل نوعي الذكور والإناث أن يوجّه الأمر والنهي، ويصرف الخطاب إلى جماعة الذكور، وتكون النساء داخلات في الحكم بطريق تغليب الرجال عليهن، أو بطريق المقايسة.
وقد يكون للنساء حكم يخصّهنّ، فيفردن بالذكر من أجله. وعلى هذه الطريقة جاء قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ} الآية، لأنهن زدن عن الرجال أحكاما تخصهن، وهي النهي عن إبداء زينتهن إلا ما استثنى اللّه تعالى. والأمر بإرخاء خمرهن على جيوبهن، والنهي عن كل فعل يلفت النظر إلى زينتهن، وينبّه الناس عليها.
أمرت هذه الآية الكريمة المرأة بغضّ بصرها، ولم تعين ما يجب غض البصر عنه، كما أنّ الآية السابقة لم تعيّن ما يجب على الرجال غض أبصارهم عنه، وقد تكفّلت السنة ببيان ذلك، فحظرت على المرأة أن تنظر من غير زوجها إلى ما بين السرة والركبة، سواء في ذلك الرجال والنساء، وسواء أكان ذلك بشهوة أم بغير شهوة، حظرت عليها أيضا أن تنظر إلى شيء من بدن الرجل بشهوة. كلّ هذا محل اتفاق بين الفقهاء جميعا.
أما نظرها إلى ما تحت الركبة وفوق السرة فقد اختلفت الروايات فيه.
فأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه عن أم سلمة قالت: كنت عند النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم حتى دخل عليه، وذلك بعد أن أمر بالحجاب، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «احتجبا منه» فقلنا: يا رسول اللّه أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟
فقال: «أفعمياوان أنتما، ألستما تبصرانه»؟.
وفي الموطأ عن عائشة أنّها احتجبت من أعمى فقيل لها: إنّه لا ينظر إليك، قالت: لكنّي انظر إليه.
فهاتان الروايتان بظاهرهما تحظران على المرأة أن تنظر إلى شيء من بدن الرجل الأجنبي، وهو قول أحمد، وأحد قولي الشافعي، وصححه النووي، وهو أيضا ظاهر قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ}.
وفي الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: رأيت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يسترني بردائه وأنا انظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا الذي يسأم.
ولأحمد عنها أن الحبشة كانوا يلعبون عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في يوم عيد قالت: فاطلعت من فوق عاتقه، فطأطأ لي منكبيه، فجعلت انظر إليهم من فوق عاتقه حتى شبعت، ثم انصرفت.
وقد صحّ أنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أمر فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم وقال: «إنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده» ولا شكّ أن مساكنتها له تستلزم نظرها إليه.
وصحّ أيضا أنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مضى إلى النساء في المسجد يوم عيد، فذكّرهن ومعه بلال، وأمرهنّ بالصدقة. وبعيد ألا ينظرن إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وإلى بلال حين كن يسمعن الموعظة ويتصدقن، فدلّ مجموع ذلك على أنه يباح للمرأة أن تنظر من الرجل الأجنبي إلى ما عدا ما بين سرته وركبته. وبهذا قال جمع من فقهاء الأمصار، وهو أحد قولي الشافعي كما علمت.
وأجاب أصحاب هذا الرأي عن حديث أم سلمة، واحتجاب عائشة من الأعمى: بأنّ الأعمى قد يبدو من عورته المتفق على حرمة النظر إليها ما لا يشعر به فأمرن بالاحتجاب منه لذلك، فلا يلزم من ذلك عدم جواز النظر بإطلاق.
كما أجاب أصحاب الرأي الأول عن نظر عائشة إلى الحبشة وهم يلعبون بأنّ ذلك كان قبل نزول الحجاب، أو أنّها كانت يومئذ جارية صغيرة كما قالت هي عن نفسها. وعن سكنى فاطمة بنت قيس في بيت ابن أم مكتوم بأنه يمكن أن تساكنه وتغض بصرها عنه.
وكذلك يمكن أن يستمع النساء إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مع غض أبصارهن عنه عليه الصلاة والسلام وعن بلال رضي اللّه عنه.
ولعل أولى ما جمع به بين هذه الأحاديث المتعارضة أن يحمل الأمر بالاحتجاب من ابن أم مكتوم على الندب، وكذلك احتجاب عائشة رضي اللّه عنها من الأعمى كان ورعا منها وعملا بما هو أجمل وأولى بالنساء، وحينئذ لا يكون حراما على المرأة أن تنظر من الأجنبي إلى ما عدا ما بين السرة والركبة، ويؤيد ذلك استمرار العمل على خروج النساء إلى الأسواق وإلى المساجد وفي الأسفار منتقبات حتى لا يراهن أحد من الرجال، ولم يؤمر الرجال بالانتقاب حتى لا يراهم النساء، فكان ذلك دليلا على المغايرة بين الرجال والنساء في الحكم. وليس بصحيح ما قيل من أن عائشة كانت صغيرة حينما كانت تنظر إلى الحبشة وهم يلعبون، ولا أن ذلك كان قبل نزول الحجاب، لأنّ في بعض روايات الحديث تصريحا بأنّ هذه القصة كانت بعد قدوم وفد الحبشة، ومعلوم أنّ قدومهم كان سنة سبع وسن عائشة يومئذ ست عشرة سنة، وكانت هذه الحادثة بعد نزول الحجاب كما هو ظاهر.