فصل: من فوائد ابن تيمية في سورة النور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن تيمية في سورة النور:

سورة النُّورِ:
قال الشيخ الرَّبَّانِيُّ وَالصَّدِيقُ الثَّانِي: إمَامُ الْأَئِمَّةِ وَمُفْتِي الْأُمَّةِ: وَبَحْرُ الْعُلُومِ وَبَدْرُ النُّجُومِ. وَسَنَدُ الْحُفَّاظِ وَفَارِسُ الْمَعَانِي وَالْأَلْفَاظِ: وَفَرِيدُ الْعَصْرِ وَأَوْحَدُ الدَّهْرِ: وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ وَإِمَامُ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ: وَعَلَّامَةُ الزَّمَانِ وَتُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ: وَعَلَمُ الزُّهَّادِ وَأَوْحَدُ الْعُبَّادِ وَقَامِعُ الْمُبْتَدِعِينَ وَآخِرُ الْمُجْتَهِدِينَ الْبَحْرُ الزَّاخِرُ وَالصَّارِمُ الْبَاتِرُ: أَبُو الْعَبَّاسِ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ شِهَابِ الدِّينِ أَبِي الْمَحَاسِنِ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ مَجْدِ الدِّينِ أَبِي الْبَرَكَاتِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ الْخَضِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْخَضِرِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ وَرَحِمَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ:
فصل فِي مَعَانٍ مُسْتَنْبَطَةٍ مِنْ سُورَةِ النُّورِ:
قَالَ تَعَالَى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فَفَرَضَهَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالتَّقْدِيرِ لِحُدُودِ اللَّهِ الَّتِي مَنْ يَتَعَدَّ حَلَالَهَا إلَى الْحَرَامِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَمَنْ قَرُبَ مِنْ حَرَامِهَا فَقَدْ اعْتَدَى وَتَعَدَّى الْحُدُودَ وَبَيَّنَ فِيهَا فَرْضَ الْعُقُوبَةِ لِلزَّانِيَيْنِ مِائَةَ جِلْدَةٍ وَبَيَّنَ فِيهَا فَرِيضَةَ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا وَأَنَّهَا أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ وَكَذَلِكَ فَرِيضَةُ شَهَادَةِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا يَشْهَدُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ وَنَهَى فِيهَا عَنْ تَعَدِّي حُدُودِهِ فِي الْفُرُوجِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْعَوْرَاتِ وَطَاعَةِ ذِي السُّلْطَانِ سَوَاءٌ كَانَ فِي مَنْزِلِهِ أَوْ فِي وِلَايَتِهِ وَلَا يَخْرُجُ وَلَا يَدْخُلُ إلَّا بِإِذْنِهِ إذْ الْحُقُوقُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ لِلَّهِ فَلَا يَتَعَدَّى حُدُودَهُ وَنَوْعٌ لِلْعِبَادِ فِيهِ أَمْرٌ فَلَا يُفْعَلُ إلَّا بِإِذْنِ الْمَالِكِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ الْمَالِكُ فَإِذْنُ اللَّهِ هُوَ الْأَصْلُ وَإِذْنُ الْمَالِكِ حَيْثُ أَذِنَ اللَّهُ وَجَعَلَ لَهُ الْإِذْنَ فِيهِ. وَلِهَذَا ضَمَّنَهَا الِاسْتِئْذَانَ فِي الْمَسَاكِنِ وَالْمَطَاعِمِ وَالِاسْتِئْذَانَ فِي الْأُمُورِ الْجَامِعَةِ كَالصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ وَنَحْوِهِمَا وَوَسَطِهَا بِذِكْرِ النُّورِ الَّذِي هُوَ مَادَّةُ كُلِّ خَيْرٍ وَصَلَاحُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يَنْشَأُ عَنْ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ وَعَنْ الصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ ضِيَاءٌ فَإِنَّ حِفْظَ الْحُدُودِ بِتَقْوَى اللَّهِ يَجْعَلُ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ نُورًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} فَضِدُّ النُّورِ الظُّلْمَةُ وَلِهَذَا عَقَّبَ ذِكْرَ النُّورِ وَأَعْمَالَ الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا بِأَعْمَالِ الْكُفَّارِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ فَقَالَ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} إلَى قَوْلِهِ: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} وَكَذَلِكَ الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ مِنْ الظُّلْمِ فَإِنَّ لِلسَّيِّئَةِ ظُلْمَةً فِي الْقَلْبِ وَسَوَادًا فِي الْوَجْهِ وَوَهَنًا فِي الْبَدَنِ وَنَقْصًا فِي الرِّزْقِ وَبُغْضًا فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ ضَرَبَ مَثَلَ إيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ بِالنُّورِ وَمَثَلَ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ بِالظُّلْمَةِ. والْإِيمَانُ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ. والْكُفْرُ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَيَنْهَى عَنْهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَكْفُرُ الْعَبْدُ إذَا كَانَ مَعَهُ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَبَعْضُ فُرُوعِ الْكُفْرِ مِنْ الْمَعَاصِي كَمَا لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إذَا كَانَ مَعَهُ أَصْلُ الْكُفْرِ وَبَعْضُ فُرُوعِ الْإِيمَانِ- وَلِغَضِّ الْبَصَرِ اخْتِصَاصٌ بِالنُّورِ كَمَا سَنَذْكُرُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الْعَبْدَ إذَا أَذْنَبَ نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ وَإِنْ زَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى يَعْلُوَ قَلْبَهُ فَذَلِكَ الران الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ «إنَّهُ ليغان عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ» وَالْغَيْنُ حِجَابٌ رَقِيقٌ أَرَقُّ مِنْ الْغَيْمِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ اسْتِغْفَارًا يُزِيلُ الْغَيْنَ عَنْ الْقَلْبِ فَلَا يَصِيرُ نُكْتَةً سَوْدَاءَ كَمَا أَنَّ النُّكْتَةَ السَّوْدَاءَ إذَا أُزِيلَتْ لَا تَصِيرُ رَيْنًا. وَقَالَ حُذَيْفَةُ: إنَّ الْإِيمَانَ يَبْدُو فِي الْقَلْبِ لمظة بَيْضَاءَ فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ إيمَانًا ازْدَادَ قَلْبُهُ بَيَاضًا فَلَوْ كَشَفْتُمْ عَنْ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ لَرَأَيْتُمُوهُ أَبْيَضَ مُشْرِقًا وَإِنَّ النِّفَاقَ يَبْدُو مِنْهُ لمظة سَوْدَاءُ فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ نِفَاقًا ازْدَادَ قَلْبُهُ سَوَادًا فَلَوْ كَشَفْتُمْ عَنْ قَلْبِ الْمُنَافِقِ لَوَجَدْتُمُوهُ أَسْوَدَ مِرْبَدًا. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ النُّورَ إذَا دَخَلَ الْقَلْبَ انْشَرَحَ وَانْفَسَحَ قِيلَ: فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ عَلَامَةٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ التَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَالْإِنَابَةُ إلَى دَارِ الْخُلُودِ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِهِ». وَفِي خُطْبَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ الَّتِي كَتَبَهَا فِي كِتَابِهِ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَالزَّنَادِقَةِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَتْرَةً مِنْ الرُّسُلِ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَدْعُونَ مَنْ ضَلَّ إلَى الْهُدَى وَيَصْبِرُونَ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى يُحْيُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ الْمَوْتَى وَيُبَصِّرُونَ بِنُورِ اللَّهِ أَهْلَ الْعَمَى فَكَمْ مِنْ قَتِيلٍ لإبليس قَدْ أَحْيَوْهُ وَكَمْ مِنْ ضَالٍّ تَائِهٍ حَيْرَانَ قَدْ هَدَوْهُ فَمَا أَحْسَنَ أَثَرُهُمْ عَلَى النَّاسِ وَأَقْبَحَ أَثَرُ النَّاسِ عَلَيْهِمْ يَنْفُونَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ الَّذِينَ عَقَدُوا أَلْوِيَةَ الْبِدْعَةِ وَأَطْلَقُوا عَنَانَ الْفِتْنَةِ فَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ مُجْمِعُونَ عَلَى مُفَارَقَةِ الْكِتَابِ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ وَفِي اللَّهِ وَفِي كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ يَتَكَلَّمُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَيَخْدَعُونَ جُهَّالَ النَّاسِ بِمَا يُشَبِّهُونَ عَلَيْهِمْ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُبَهِ الْمُضِلِّينَ. قُلْت: وَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بَيْنَ أَهْلِ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَبَيْنَ أَهْلِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ بِمَا يُشْبِهُ هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} وَقَالَ: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} الْآيَةُ وَقَالَ فِي الْمُنَافِقِينَ: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} الْآيَاتُ وَقَالَ: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} الْآيَةُ. وَقَالَ: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ}. وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَهَذَا النُّورُ الَّذِي يَكُونُ لِلْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا عَلَى حُسْنِ عَمَلِهِ وَاعْتِقَادِهِ يَظْهَرُ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} الْآيَةُ فَذَكَرَ النُّورَ هُنَا عَقِيبَ أَمْرِهِ بِالتَّوْبَةِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ النُّورِ عَقِيبَ أَمْرِهِ بِغَضِّ الْبَصَرِ وَأَمْرِهِ بِالتَّوْبَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وَذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ أَمْرِهِ بِحُقُوقِ الْأَهْلِينَ وَالْأَزْوَاجِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالنِّسَاءِ وَقَالَ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} الْآيَاتُ إلَى قَوْلِهِ فِي الْمُنَافِقِينَ: {مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَفْقِدُونَ النُّورَ الَّذِي كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَمْشُونَ بِهِ وَيَطْلُبُونَ الِاقْتِبَاسَ مِنْ نُورِهِمْ فَيُحْجَبُونَ عَنْ ذَلِكَ بِحِجَابِ يُضْرَبُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمَّا فَقَدُوا النُّورَ فِي الدُّنْيَا كَانَ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} الْآيَةُ فَأَمَرَ بِعُقُوبَتِهِمَا وَعَذَابِهِمَا بِحُضُورِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَذَلِكَ بِشَهَادَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بِشَهَادَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ إذَا كَانَتْ ظَاهِرَةً كَانَتْ عُقُوبَتُهَا ظَاهِرَةً؛ كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ: مَنْ أَذْنَبَ سِرًّا فَلْيَتُبْ سِرًّا وَمَنْ أَذْنَبَ عَلَانِيَةً فَلْيَتُبْ عَلَانِيَةً وَلَيْسَ مِنْ السَّتْرِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى- كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ»- بَلْ ذَلِكَ إذَا سُتِرَ كَانَ ذَلِكَ إقْرَارًا لِمُنْكَرِ ظَاهِرٍ: وَفِي الْحَدِيثِ: «إنَّ الْخَطِيئَةَ إذَا خُفِيَتْ لَمْ تَضُرَّ إلَّا صَاحِبَهَا وَإِذَا أُعْلِنَتْ فَلَمْ تُنْكَرْ ضَرَّتْ الْعَامَّةَ» فَإِذَا أُعْلِنَتْ أُعْلِنَتْ عُقُوبَتُهَا بِحَسَبِ الْعَدْلِ الْمُمْكِنِ.
وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُعْلِنِ بِالْبِدَعِ وَالْفُجُورِ غَيْبَةٌ كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَعْلَنَ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ عُقُوبَةَ الْمُسْلِمِينَ لَهُ وَأَدْنَى ذَلِكَ أَنْ يُذَمَّ عَلَيْهِ لِيَنْزَجِرَ وَيَكُفَّ النَّاسُ عَنْهُ وَعَنْ مُخَالَطَتِهِ وَلَوْ لَمْ يُذَمَّ وَيُذْكَرْ بِمَا فِيهِ مِنْ الْفُجُورِ وَالْمَعْصِيَةِ أَوْ الْبِدْعَةِ لَاغْتَرَّ بِهِ النَّاسُ وَرُبَّمَا حَمَلَ بَعْضَهُمْ عَلَى أَنْ يَرْتَكِبَ مَا هُوَ عَلَيْهِ وَيَزْدَادَ أَيْضًا هُوَ جُرْأَةً وَفُجُورًا وَمَعَاصِيَ فَإِذَا ذُكِرَ بِمَا فِيهِ انْكَفَّ وَانْكَفَّ غَيْرُهُ عَنْ ذَلِكَ وَعَنْ صُحْبَتِهِ وَمُخَالَطَتِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَتَرْغَبُونَ عَنْ ذِكْرِ الْفَاجِرِ اُذْكُرُوهُ بِمَا فِيهِ كَيْ يَحْذَرُهُ النَّاسُ وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا والْفُجُورُ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مُتَجَاهِرٍ بِمَعْصِيَةِ أَوْ كَلَامٍ قَبِيحٍ يَدُلُّ السَّامِعَ لَهُ عَلَى فُجُورِ قَلْبِ قَائِلِهِ. وَلِهَذَا كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْهَجْرِ إذَا أَعْلَنَ بِدْعَةً أَوْ مَعْصِيَةً أَوْ فُجُورًا أَوْ تَهَتُّكًا أَوْ مُخَالَطَةً لِمَنْ هَذَا حَالُهُ بِحَيْثُ لَا يُبَالِي بِطَعْنِ النَّاسِ عَلَيْهِ فَإِنَّ هَجْرَهُ نَوْعُ تَعْزِيرٍ لَهُ فَإِذَا أَعْلَنَ السَّيِّئَات أُعِلْنَ هَجْرُهُ وَإِذَا أَسَرَّ أُسِرَّ هَجْرُهُ إذْ الْهِجْرَةُ هِيَ الْهِجْرَةُ عَلَى السَّيِّئَاتِ وَهِجْرَةُ السَّيِّئَاتِ هِجْرَةُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} وَقَالَ: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِثْلُهُمْ} وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّ ابْنَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَمَّا شَرِبَ الْخَمْرَ بِمِصْرِ وَذَهَبَ بِهِ أَخُوهُ إلَى أَمِيرِ مِصْرَ عَمْرِو بْنِ العاص لِيَجْلِدَهُ الْحَدَّ جَلَدَهُ الْحَدَّ سِرًّا وَكَانَ النَّاسُ يَجْلِدُونَ عَلَانِيَةً فَبَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى عَمْرٍو يُنْكِرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَلَمْ يَعْتَدَّ عُمَرُ بِذَلِكَ الْجَلْدِ حَتَّى أَرْسَلَ إلَى ابْنِهِ فَأَقْدَمَهُ الْمَدِينَةَ فَجَلَدَهُ الْحَدَّ عَلَانِيَةً وَلَمْ يَرَ الْوُجُوبَ سَقَطَ بِالْحَدِّ الْأَوَّلِ وَعَاشَ ابْنُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مُدَّةً ثُمَّ مَرِضَ وَمَاتَ وَلَمْ يَمُتْ مِنْ ذَلِكَ الْجَلْدِ وَلَا ضَرَبَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا يَزْعُمُهُ الْكَذَّابُونَ. قوله تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} الْآيَةُ: نَهَى تَعَالَى عَمَّا يَأْمُرُ بِهِ الشَّيْطَانُ فِي الْعُقُوبَاتِ عُمُومًا وَفِي أَمْرِ الْفَوَاحِشِ خُصُوصًا فَإِنَّ هَذَا الْبَابَ مَبْنَاهُ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالشَّهْوَةِ وَالرَّأْفَةِ الَّتِي يُزَيِّنُهَا الشَّيْطَانُ بِانْعِطَافِ الْقُلُوبِ عَلَى أَهْلِ الْفَوَاحِشِ وَالرَّأْفَةِ بِهِمْ حَتَّى يَدْخُلَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْآفَةِ فِي الدِّيَاثَةِ وَقِلَّةِ الْغَيْرَةِ إذَا رَأَى مَنْ يَهْوَى بَعْضُ الْمُتَّصِلِينَ بِهِ أَوْ يُعَاشِرُهُ عِشْرَةً مُنْكَرَةً أَوْ رَأَى لَهُ مَحَبَّةً أَوْ مَيْلًا وَصَبَابَةً وَعِشْقًا وَلَوْ كَانَ وَلَدُهُ رَأَفَ بِهِ وَظَنَّ أَنَّ هَذَا مِنْ رَحْمَةِ الْخَلْقِ وَلِينِ الْجَانِبِ بِهِمْ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ دِيَاثَةٌ وَمَهَانَةٌ وَعَدَمُ دِينٍ وَضَعْفُ إيمَانٍ وَإِعَانَةٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَتَرْكٌ لِلتَّنَاهِي عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ. وَتَدْخُلُ النَّفْسُ بِهِ فِي الْقِيَادَةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ الدِّيَاثَةِ كَمَا دَخَلَتْ عَجُوزُ السُّوءِ مَعَ قَوْمِهَا فِي اسْتِحْسَانِ مَا كَانُوا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ إتْيَانِ الذُّكْرَانِ وَالْمُعَاوَنَةِ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَكَانَتْ فِي الظَّاهِرِ مُسَلِّمَةً عَلَى دِينِ زَوْجِهَا لُوطٍ وَفِي الْبَاطِنِ مُنَافِقَةً عَلَى دِينِ قَوْمِهَا لَا تَقْلِي عَمَلَهُمْ كَمَا قَلَاهُ لُوطٌ؛ فَإِنَّهُ أَنْكَرَهُ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ وَأَبْغَضَهُ وَكَمَا فَعَلَ النِّسْوَةُ اللَّوَاتِي بِمِصْرِ مَعَ يُوسُفَ فَإِنَّهُنَّ أَعَنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ عَلَى مَا دَعَتْهُ إلَيْهِ مِنْ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ مَعَهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ} وَذَلِكَ بَعْدَ قَوْلِهِنَّ {إنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَحَبَّةَ الْفَوَاحِشِ مَرَضٌ فِي الْقَلْبِ فَإِنَّ الشَّهْوَةَ تُوجِبُ السُّكْرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ لُوطٍ: {إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ» الْحَدِيثُ إلَى آخِرِهِ. فَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَكُونُ مَقْصُودُهُ بَعْضَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: كَالنَّظَرِ وَالِاسْتِمْتَاعِ وَالْمُخَاطَبَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْتَقِي إلَى اللَّمْسِ وَالْمُبَاشَرَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَبِّلُ وَيَنْظُرُ وَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ وَقَدْ نَهَانَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَأْخُذَنَا بِالزُّنَاةِ رَأْفَةٌ بَلْ نُقِيمُ عَلَيْهِمْ الْحَدَّ فَكَيْفَ بِمَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ مِنْ هَجْرٍ وَأَدَبٍ بَاطِنٍ وَنَهْيٍ وَتَوْبِيخٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ بَلْ يَنْبَغِي شَنَآنُ الْفَاسِقِينَ وَقْلَيْهِمْ عَلَى مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ أَنْوَاعِ الزِّنَا الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ وَغَيْرِهِ. وَذَلِكَ أَنْ الْمُحِبَّ الْعَاشِقَ وَإِنْ كَانَ إنَّمَا يُحِبُّ النَّظَرَ وَالِاسْتِمْتَاعَ بِصُورَةِ ذَلِكَ الْمَحْبُوبِ وَكَلَامِهِ فَلَيْسَ دَوَاؤُهُ فِي أَنْ يُعْطِيَ نَفْسَهُ مَحْبُوبَهَا وَشَهْوَتَهَا مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَرِيضٌ وَالْمَرِيضُ إذَا اشْتَهَى مَا يَضُرُّهُ أَوْ جَزِعَ مِنْ تَنَاوُلِ الدَّوَاءِ الْكَرِيهِ فَأَخَذَتْنَا رَأْفَةٌ عَلَيْهِ حَتَّى نَمْنَعَهُ شُرْبَهُ فَقَدْ أَعَنَّاهُ عَلَى مَا يَضُرُّهُ أَوْ يُهْلِكُهُ وَعَلَى تَرْكِ مَا يَنْفَعُهُ فَيَزْدَادُ سَقَمُهُ فَيَهْلَكُ وَهَكَذَا الْمُذْنِبُ الْعَاشِقُ وَنَحْوُهُ هُوَ مَرِيضٌ فَلَيْسَ الرَّأْفَةُ بِهِ وَالرَّحْمَةُ أَنْ يُمَكَّنَ مِمَّا يَهْوَاهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَلَا يُعَانَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا أَنْ يُمَكَّنَ مِنْ تَرْكِ مَا يَنْفَعُهُ مِنْ الطَّاعَاتِ الَّتِي تُزِيلُ مَرَضَهُ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} أَيْ فِيهَا الشِّفَاءُ وَأَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ. بَلْ الرَّأْفَةُ بِهِ أَنْ يُعَانَ عَلَى شُرْبِ الدَّوَاءِ وَإِنْ كَانَ كَرِيهًا: مِثْلَ الصَّلَاةِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ وَأَنْ يُحْمَى عَمَّا يُقَوِّي دَاءَهُ وَيَزِيدُ عِلَّتَهُ وَإِنْ اشْتَهَاهُ. وَلَا يَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّهُ إذَا حَصَلَ لَهُ اسْتِمْتَاعٌ بِمُحَرَّمِ يَسْكُنُ بَلَاؤُهُ بَلْ ذَلِكَ يُوجِبُ لَهُ انْزِعَاجًا عَظِيمًا وَزِيَادَةً فِي الْبَلَاءِ وَالْمَرَضِ فِي الْمَآلِ فَإِنَّهُ وَإِنْ سَكَنَ بَلَاؤُهُ وَهَدَأَ مَا بِهِ عَقِيبَ اسْتِمْتَاعِهِ أَعْقَبَهُ ذَلِكَ مَرَضًا عَظِيمًا عَسِيرًا لَا يَتَخَلَّصُ مِنْهُ بَلْ الْوَاجِبُ دَفْعُ أَعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا قَبْلَ اسْتِحْكَامِ الدَّاءِ الَّذِي تَرَامَى بِهِ إلَى الْهَلَاكِ وَالْعَطَبِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَلَمَ الْعِلَاجِ النَّافِعِ أَيْسَرُ وَأَخَفُّ مِنْ أَلَمِ الْمَرَضِ الْبَاقِي. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ لَك أَنَّ الْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةَ كُلَّهَا أَدْوِيَةٌ نَافِعَةٌ يُصْلِحُ اللَّهُ بِهَا مَرَضُ الْقُلُوبِ وَهِيَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ وَرَأْفَتِهِ بِهِمْ الدَّاخِلَةِ فِي قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} فَمَنْ تَرَكَ هَذِهِ الرَّحْمَةَ النَّافِعَةَ لِرَأْفَةِ يَجِدُهَا بِالْمَرِيضِ فَهُوَ الَّذِي أَعَانَ عَلَى عَذَابِهِ وَهَلَاكِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُرِيدُ إلَّا الْخَيْرَ إذْ هُوَ فِي ذَلِكَ جَاهِلٌ أَحْمَقُ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ الْجُهَّالِ بِمَرْضَاهُمْ وَبِمَنْ يُرَبُّونَهُ مِنْ أَوْلَادِهِمْ وَغِلْمَانِهِمْ وَغَيْرِهِمْ فِي تَرْكِ تَأْدِيبِهِمْ وَعُقُوبَتِهِمْ عَلَى مَا يَأْتُونَهُ مِنْ الشَّرِّ وَيَتْرُكُونَهُ مِنْ الْخَيْرِ رَأْفَةً بِهِمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبَ فَسَادِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمْ وَهَلَاكِهِمْ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ تَأْخُذُهُ الرَّأْفَةُ بِهِمْ لِمُشَارَكَتِهِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَرَضِ وَذَوْقِهِ مَا ذَاقُوهُ مِنْ قُوَّةِ الشَّهْوَةِ وَبُرُودَةِ الْقَلْبِ وَالدِّيَاثَةِ فَيَتْرُكُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْعُقُوبَةِ وَهُوَ فِي َلِكَ مِنْ أَظْلَمِ النَّاسِ وأديثهم فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَنُظَرَائِهِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمَرْضَى قَدْ وَصَفَ لَهُمْ الطَّبِيبُ مَا يَنْفَعُهُمْ فَوَجَدَ كَبِيرُهُمْ مَرَارَتَهُ فَتَرَكَ شُرْبَهُ وَنَهَى عَنْ سَقْيِهِ لِلْبَاقِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ الرَّأْفَةُ لِكَوْنِ أَحَدِ الزَّانِيَيْنِ مَحْبُوبًا لَهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا لِصُورَتِهِ وَجِمَالِهِ بِعِشْقِ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ لِقُرَابَةِ بَيْنَهُمَا أَوْ لِمَوَدَّةِ أَوْ لِإِحْسَانِهِ إلَيْهِ أَوْ لِمَا يَرْجُو مِنْهُ مِنْ الدُّنْيَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ أَوْ لِمَا فِي الْعَذَابِ مِنْ الْأَلَمِ الَّذِي يُوجِبُ رِقَّةَ الْقَلْبِ. وَيَتَأَوَّلُ: «إنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ» وَيَقُولُ الْأَحْمَقُ: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» وَغَيْرُ ذَلِكَ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ ذَلِكَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ بَلْ قَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ دَيُّوثٌ» فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُبْغِضًا لِلْفَوَاحِشِ كَارِهًا لَهَا وَلِأَهْلِهَا وَلَا يَغْضَبُ عِنْدَ رُؤْيَتِهَا وَسَمَاعِهَا لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لِلْعُقُوبَةِ عَلَيْهَا فَيُبْقَى الْعَذَابُ عَلَيْهَا يُوجِبُ أَلَمَ قَلْبِهِ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} الْآيَةُ. فَإِنَّ دِينَ اللَّهِ هُوَ طَاعَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ الْمَبْنِيَّ عَلَى مَحَبَّتِهِ وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا؛ فَإِنَّ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ مَا لَمْ تَكُنْ مُضَيِّعَةً لِدِينِ اللَّهِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ» وَقَالَ: «لَا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ» وَقَالَ: «مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ» وَفِي السُّنَنِ: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ». فَهَذِهِ الرَّحْمَةُ حَسَنَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ بِخِلَافِ الرَّأْفَةِ فِي دِينِ اللَّهِ فَإِنَّهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَالشَّيْطَانُ. يُرِيدُ مِنْ الْإِنْسَانِ الْإِسْرَافَ فِي أُمُورِهِ كُلِّهَا فَإِنَّهُ إنْ رَآهُ مَائِلًا إلَى الرَّحْمَةِ زَيَّنَ لَهُ الرَّحْمَةَ حَتَّى لَا يُبْغِضَ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ؛ وَلَا يَغَارَ لِمَا يَغَارُ اللَّهُ مِنْهُ وَإِنْ رَآهُ مَائِلًا إلَى الشِّدَّةِ زَيَّنَ لَهُ الشِّدَّةَ فِي غَيْرِ ذَاتِ اللَّهِ حَتَّى يَتْرُكَ مِنْ الْإِحْسَانِ وَالْبِرِّ وَاللِّينِ وَالصِّلَةِ وَالرَّحْمَةِ مَا يَأْمُرُ بِهِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَتَعَدَّى فِي الشِّدَّةِ فَيَزِيدُ فِي الذَّمِّ وَالْبُغْضِ وَالْعِقَابِ عَلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ: فَهَذَا يَتْرُكُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ وَهُوَ مَذْمُومٌ مُذْنِبٌ فِي ذَلِكَ وَيُسْرِفُ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ الشِّدَّةِ حَتَّى يَتَعَدَّى الْحُدُودَ وَهُوَ مِنْ إسْرَافِهِ فِي أَمْرِهِ. فَالْأَوَّلُ مُذْنِبٌ وَالثَّانِي مُسْرِفٌ {إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} فَلْيَقُولَا جَمِيعًا: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}. وقوله تعالى: {إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فَالْمُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يَفْعَلُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَنْهَى عَمَّا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَإِنَّهُ يَتَّبِعُ هَوَاهُ فَتَارَةً تَغْلِبُ عَلَيْهِ الرَّأْفَةُ هَوًى وَتَارَةً تَغْلِبُ عَلَيْهِ الشِّدَّةُ هَوًى فَيَتَّبِعُ مَا يَهْوَاهُ فِي الْجَانِبَيْنِ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} فَإِنَّ الزِّنَا مِنْ الْكَبَائِرِ وَأَمَّا النَّظَرُ وَالْمُبَاشَرَةُ فَاللَّمَمُ مِنْهَا مَغْفُورٌ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى النَّظَرِ أَوْ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ صَارَ كَبِيرَةً وَقَدْ يَكُونُ الْإِصْرَارُ عَلَى ذَلِكَ أَعْظَمَ مِنْ قَلِيلِ الْفَوَاحِشِ فَإِنَّ دَوَامَ النَّظَرِ بِالشَّهْوَةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ الْعِشْقِ وَالْمُعَاشَرَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ قَدْ يَكُونُ أَعْظَمَ بِكَثِيرِ مِنْ فَسَادِ زِنَا لَا إصْرَارَ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ فِي الشَّاهِدِ الْعَدْلِ: أَنْ لَا يَأْتِيَ كَبِيرَةً وَلَا يُصِرَّ عَلَى صَغِيرَةٍ وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ: «لَا صَغِيرَةَ مَعَ إصْرَارٍ وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ». بَلْ قَدْ يَنْتَهِي النَّظَرُ وَالْمُبَاشَرَةُ بِالرَّجُلِ إلَى الشِّرْكِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}. وَلِهَذَا لَا يَكُونُ عِشْقُ الصُّوَرِ إلَّا مِنْ ضَعْفِ مُحِبَّةِ اللَّهِ وَضَعْفِ الْإِيمَانِ وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا ذَكَرَهُ فِي الْقُرْآنِ عَنْ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ الْمُشْرِكَةِ وَعَنْ قَوْمِ لُوطٍ الْمُشْرِكِينَ وَالْعَاشِقُ الْمُتَيَّمُ يَصِيرُ عَبْدًا لِمَعْشُوقِهِ مُنْقَادًا لَهُ أَسِيرَ الْقَلْبِ لَهُ. وَقَدْ جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذِكْرَ الْحُدُودِ إنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُ لَمْ يَزَلْ فِي سُخْطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ وَمَنْ قَالَ فِي مُسْلِمٍ مَا لَيْسَ فِيهِ حُبِسَ فِي رَدْغَةِ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ» فَالشَّافِعُ فِي تَعْطِيلِ الْحُدُودِ مُضَادٌّ لِلَّهِ فِي أَمْرِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى تَعَدِّي الْحُدُودِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَأْخُذَ الْمُؤْمِنَ رَأْفَةٌ بِأَهْلِ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ وَالْمَعَاصِي وَالظُّلْمَةِ. وَجِمَاعُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِيمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ حَيْثُ قَالَ {أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ} وَقَالَ {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} فَإِنَّ هَذِهِ الْكَبَائِرَ كُلَّهَا مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ وَلَمْ يَكُنْ الْمُسْلِمُ كَافِرًا بِمُجَرَّدِ ارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ؛ وَلَكِنَّهُ يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ كَمَا فِي الصِّحَاحِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» الْحَدِيثُ إلَى آخِرِهِ فَفِيهِمْ مِنْ نَقْصِ الْإِيمَانِ مَا يُوجِبُ زَوَالَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ بِهِمْ وَاسْتَحَقُّوا بِتِلْكَ الشُّعْبَةِ مِنْ الشِّدَّةِ بِقَدْرِ مَا فِيهَا وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ يَرْحَمُ وَيُحِبُّ مِنْ وَجْهٍ وَيُعَذَّبُ وَيُبْغَضُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَيُثَابُ مِنْ وَجْهٍ وَيُعَاقَبُ مِنْ وَجْهٍ فَإِنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْأَمْرَانِ خِلَافًا لِمَا يَزْعُمُهُ الْخَوَارِجُ وَنَحْوُهُمْ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ مَنْ اسْتَحَقَّ الْعَذَابَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لَا يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ فَأَوْجَبُوا خُلُودَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ. وَقَالَ مَنْ اسْتَحَقَّ الْعَذَابَ: لَا يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ.