فصل: تفسير الآيات (1- 2):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (1- 2):

قوله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
{بسم الله} الذي تمت كلمته فبهرت قدرته {الرحمن} الذي ظهرت الحقائق كلها بشمول رحمته {الرحيم} الذي شرف من اختاره بخدمته.
لما تقدم في التي قبلها تحريم الزنى والحث على الصيانة، وختم تلك الآية بذكر الجنة المتضمن للبعث، استدل عليه وذكر ما يتبعه من تهديد وعمل إلى أن فرغت السورة وأخبر في آخرها بتبكيت المعاندين يوم الندم بقوله: {ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون} [المؤمنون: 105] وبقوله: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا} [المؤمنون: 115] كل ذلك رحمة منه لخلقه ليرجع منهم من قضى بسعادته، ثم ختم بقوله: {وأنت خير الراحمين} [المؤمنون: 118] فابتدأ سبحانه هذه السورة بأنه منَّ على المخاطبين ببيان ما خلقوا له من الأحكام لأنهم لم يخلقوا سدى، بل لتكاليف تعبدهم بها ترفع التنازع وتحسم مادة الشر، فتوجب الرحمة والعطف بسلامة الصدر بما فيهم من الجنسية، فقال مخبرًا عن مبتدإ تقديره: هذه {سورة} أي عظيمة؛ ثم رغب في امتثال ما فيها مبينًا أن تنويهًا للتعظيم بقوله: {أنزلناها} أي بما لنا من العظمة وتمام العلم والقدرة {وفرضناها} أي قررناها وقدرناها وأكثرنا فيها من الفروض وأكدناها {وأنزلنا فيها} بشمول علمنا {آيات} من الحدود والأحكام والمواعظ والأمثال وغيرها، مبرهنًا عليها {بينات} لا إشكال فيها رحمة منا لكم، فمن قبلها دخل في دعوة نبينا صلى الله عليه وسلم التي لقناه إياها في آخر تلك فرحمه خير الراحمين، ومن أباها ضل فدخل في التبكيت بقولنا: {ألم تكن آياتي تتلى عليكم} [المؤمنون: 105] ونحوه، وذلك معنى قوله: {لعلكم تذكرون} أي لتكونوا- إذا تأملتموها مع ما قبلها من الآيات المرققة والقصص المحذرة- على رجاء- عند من لا يعلم العواقب- من أن تتذكروا ولو نوعًا من التذكر- كما أشار إليه الإدغام- بما ترون فيها من الحكم أن الذي نصبها لكم وفصلها إلى ما ترون لا يترككم سدى، فتقبلوا على جميع أوامره، وتنتهوا عن زواجره، ليغفر لكم ما قصرتم فيه من طاعته، ويرحمكم بتنويل ما لا وصول لكم إليه إلا برحمته، وتتذكروا أيضًا بما يبين لكم من الأمور، ويكشف عنه الغطاء من الأحكام التي اغمت عنها حجب النفوس، وسترتها ظلمات الأهوية- ما جبل عليه الآدميون، فتعلموا أن الذي تحبون أن يفعل معكم بحب غيركم أن تفعلوه معه، والذي تكرهونه من ذلك يكرهه غيركم، فيكون ذلك حاملًا لكم على النصفة فيثمر الصفاء، والألفة والوفاء، فتكونوا من المؤمنين المفلحين الوارثين الداخلين في دعوة البشير النذير بالرحمة.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه: لما قال تعالى {والذين هم لفروجهم حافظون} [المؤمنون: 5] ثم قال تعالى {فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} [المؤمنون: 7] استدعى الكلام بيان حكم العادي في ذلك، ولم يبين فيها فأوضحه في سورة النور فقال تعالى {الزانية والزاني}- الآية، ثم أتبع ذلك بحكم اللعان والقذف وانجرّ مع ذلك الإخبار بقصة الإفك تحذيرًا للمؤمنين من زلل الألسنة رجمًا بالغيب {وتحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم} وأتبع ذلك بعد بوعيد محبّي شياع الفاحشة، في المؤمنين بقوله تعالى: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات} [النور: 23] الآيات، ثم بالتحذيرمن دخول البيوت إلا بعد الاستئذان المشروع، ثم بالأمر بغض الأبصار للرجال والنساء ونهى النساء عن إبداء الزينة إلا لمن سمى الله سبحانه في الآية، وتكررت هذه المقاصد في هذه السورة إلى ذكر حكم العورات الثلاث، ودخول بيوت الأقارب وذوي الأرحام، وكل هذا مما تبرأ ذمة المؤمن بالتزام ما أمر الله فيه من ذلك والوقوف عندما حده تعالى من أن يكون من العادين المذمومين في قوله تعالى: {فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} [المؤمنون: 7].
وما تخلل الآي المذكورات ونسق عليها مما ليس من الحكم المذكور فلاستجرار الآي إياه واستدعائه، ومظنة استيفاء ذلك وبيان ارتباطه التفسير، وليس من شرطنا هنا- والله سبحانه وتعالى يوفقنا لفهم كتابه- انتهى.
ولما كان مبنى هذه الدار على الأنساب في التوارث والإمامة والنكاح وغير ذلك، ومبنى تلك الدار على الأعمال لقوله تعالى: {فلا أنساب بينهم يومئذ} [المؤمنون: 101] وكان قد حث في آخر تلك على الستر والرحمة، حذر رحمة منه في أول هذه من لبس الأنساب، وكسب الأعراض وقطع الأسباب، معلمًا أن الستر والرقة ليسا على عمومهما، بل على ما يحده سبحانه، فقال مخاطبًا للأئمة ومن يقيمونه: {الزانية} وهي من فعلت الزنى، وهو إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعًا محرم شرعًا، وقدمها لأن أثر الزنى يبدو عليها من الحبل وزوال البكارة، ولأنها أصل الفتنة بهتك ما أمرت به من حجاب التستر والتصون والتحذر {والزاني}.
ولما كان ال بمعنى الاسم الموصول، أدخل الفاء في الخبر فقال: {فاجلدوا} أي فاضربوا وإن كان أصله ضرب الجلد بالسوط الذي هو جلد {كل واحد منهما} إذا لم يكن محصنًا، بل كان مكلفًا بكرًا- بما بينته السنة الشريفة {مائة جلدة} فبدأ بحد الزنى المشار إليه أول تلك بقوله تعالى: {فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} [المؤمنون: 7] وفي التعبير بلفظ الجلد الذي هو ضرب الجلد إشارة إلى أنه يكون مبرحًا بحيث يتجاوز الألم إلى اللحم.
ولما كان هذا ظاهرًا في ترك الشفقة عليهما، صرح به لأن من شأن كل من يجوز على نفسه الوقوع في مثل ذلك أن يرحمهما فقال: {ولا تأخذكم} أي على حال من الأحوال {بهما رأفة} أي لين، ولعله عبر بها إعلامًا بأنه لم ينه عن مطلق الرحمة، لأن الرأفة أشد الرحمة أو أرقها وتكون عن أسباب من المرؤوف به، وكذا قوله: {في دين الله} أي الذي شرعه لكم الملك المحيط بصفات الكمال- إشارة إلى أن الممنوع منه رحمة تؤدي إلى ترك الحد أو شيء منه أو التهاون به أو الرضى عن منتهكه لا رقة القلب المطبوع عليها البشر كما يحكى عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه بكى يوم فتحت قبرص وضربت رقاب ناس من أسراها فقيل له: هذا يوم سرور، فقال: هو كذلك، ولكني أبكي رحمة لهؤلاء العباد الذين عصوا الله فخذلهم وأمكن منهم.
ولما علم سبحانه ما طبع عليه عباده من رحمة بعضهم لبعض فحث على هذا الحكم بالأمر والنهي، زاد في التهييج إليه والحض عليه بقوله: {إن كنتم} أي بما هو كالجبلة التي لا تنفك {تؤمنون بالله} أي الملك الأعظم الذي هو أرحم الراحمين، فما شرع ذلك إلا رحمة للناس عمومًا وللزانيين خصوصًا، فمن نقص سوطًا فقد ادعى أنه أرحم منه، ومن زاد سوطًا فقد ظن أنه أحكم وأعظم منه.
ولما ذكر بالإيمان الذي من شرطه التزام الأحكام، وكان الرجاء غالبًا على الإنسان، أتبعه ما يرهبه فقال: {واليوم الآخر} الذي يحاسب فيه على النقير والقطمير والخفي والجلي.
ولما كان الخزي والفضيحة أعظم عند بعض الناس من ضرب السيف فضلًا عن ضرب السوط قال: {وليشهد} أي يحضر حضورًا تامًا {عذابهما طائفة} أي جماعة يمكن إطافتها أي تحلقها وحفوفها بكل منهما {من المؤمنين} العريقين إشهارًا لأمرهما نكالًا لهما، وعن نصر بن علقمة أن ذلك ليدعى لهما بالتوبة والرحمة.
وفي كل هذا إشارة ظاهرة إلى أن إقامة الحدود والغلظة فيها من رحمته سبحانه المشار إليها بقوله: {وأنت خير الراحمين} [المؤمنون: 118]. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{فرضناها} بالتشديد: ابن كثير وأبو عمرو {ورأفة} بفتح الهمزة: ابن كثير عن ابن فليح ورفعه الباقون بالإسكان وكلاهما مصدر. وكذلك روى الخزاعي عن أصحابه، وروى ابن شنبوذ عن البزي هاهنا وفي الحديد متحركة الهمزة، وعن قنبل هاهنا بالفتح وفي الحديد بالسكون. وقرأ أبو عمر وغير شجاع ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف بغير همز {أربع شهادات} بالرفع: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الآخرون بالنصب على إعمال المصدر فيما في حكم المصدر والتقدير فواجب شهادة أحدهم شهادات أربعًا {أن} مخففة {لعنة الله} بالرفع: نافع وسهل ويعقوب والمفضل. الباقون بالتشديد والنصب {والخامسة} الثانية بالنصب: حفص على معنى وتشهد الشهادة الخامسة. {أن} مخففًا {غضب} فعلًا ماضيًا {الله} بالرفع: نافع والمفضل {أن} بالتخفيف {غضب الله} بالرفع: سهل ويعقوب. الباقون {أن غضب الله} بالتشديد والنصب.

.الوقوف:

{تذكرون} o {جلدة} ص {الآخر} o للعدول واعتراض الشرط مع اتفاق الجملتين {المؤمنين} o {مشركة} o للتفصيل بين الحالتين مع اتفاق الجملتين {مشرك} ج لاختلاف الجملتين {المؤمنين} o {أبداً} o {الفاسقون} o {وأصلحوا} ج للفاء وإن {رحيم} o {بالله} ط في الموضعين لأن ما بعده جواب لما في حكم القسم {الصادقين} o {الكاذبين} o {الصادقين} o {حكيم} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)}.
قرأ العامة {سورة} بالرفع، وقرأ طلحة بن مصرف بالنصب، أما الذين قرأوا بالرفع فالجمهور قالوا الابتداء بالنكرة لا يجوز، والتقدير هذه سورة أنزلناها، أو نقول سورة أنزلناها مبتدأ موصوف، والخبر محذوف أي فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها، وقال الأخفش لا يبعد الابتداء بالنكرة فسورة مبتدأ وأنزلنا خبره، ومن نصب فعلى معنى الفعل، يعني اتبعوا سورة أو أتل سورة أو أنزلنا سورة، وأما معنى السورة ومعنى الإنزال فقد تقدم، فإن قيل الإنزال إنما يكون من صعود إلى نزول، فهذا يدل على أنه تعالى في جهة، قلنا: الجواب من وجوه: أحدها: أن جبريل عليه السلام كان يحفظها من اللوح المحفوظ ثم ينزلها عليه صلى الله عليه وسلم، فلهذا جاز أن يقال أنزلناها توسعًا وثانيها: أن الله تعالى أنزلها من أم الكتاب في السماء الدنيا دفعة واحدة ثم أنزلها بعد ذلك نجومًا على لسان جبريل عليه السلام وثالثها: معنى {أنزلناها} أي أعطيناها الرسول، كما يقول العبد إذا كلم سيده رفعت إليه حاجتي، كذلك يكون من السيد إلى العبد الإنزال قال الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10].
أما قوله: {وفرضناها} فالمشهور قراءة التخفيف، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتشديد.
أما قراءة التخفيف فالفرض هو القطع والتقدير قال الله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] أي قدرتم {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرءان} [القصص: 85] أي قدر، ثم إن السورة لا يمكن فرضها لأنها قد دخلت في الوجود وتحصيل الحاصل محال، فوجب أن يكون المراد وفرضنا ما بين فيها، وإنما قال ذلك لأن أكثر ما في هذه السورة من باب الأحكام والحدود فلذلك عقبها بهذا الكلام، وأما قراءة التشديد فقال الفراء: التشديد للمبالغة والتكثير، أما المبالغة فمن حيث إنها حدود وأحكام فلابد من المبالغة في إيجابها ليحصل الانقياد لقبولها، وأما التكثير فلوجهين: أحدهما: أن الله تعالى بين فيها أحكامًا مختلفة والثاني: أنه سبحانه وتعالى أوجبها على كل المكلفين إلى آخر الدهر، أما قوله: {وأنزلنا فيها آيات بينات} ففيه وجوه: أحدها: أنه سبحانه ذكر في أول السورة أنواعًا من الأحكام والحدود وفي آخرها دلائل التوحيد فقوله: {وفرضناها} إشارة إلى الأحكام التي بينها أولًا ثم قوله: {وأنزلنا فيها آيات بينات} إشارة إلى ما بين من دلائل التوحيد، والذي يؤكد هذا التأويل قوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فإن الأحكام والشرائع ما كانت معلومة لهم ليؤمروا بتذكيرها.
أما دلائل التوحيد فقد كانت كالمعلومة لهم لظهورها فأمروا بتذكيرها.
وثانيها: قال أبو مسلم يجوز أن تكون الآيات البينات ما ذكر فيها من الحدود والشرائع كقوله: {رَبّ اجعل لِّي ءايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلاّ تُكَلّمَ الناس ثلاث لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: 10] سأل ربه أن يفرض عليه عملًا وثالثها: قال القاضي إن السورة كما اشتملت على عمل الواجبات فقد اشتملت على كثير من المباحثات بأن بينها الله تعالى، ولما كان بيانه سبحانه لها مفصلًا وصف الآيات بأنها بينات.