فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المسألة الثامنة:
يقام الحد في وقت اعتدال الهواء، فإن كان في حال شدة حر أو برد نظر إن كان الحد رجمًا يقام عليه كما يقام في المرض لأن المقصود قتله، وقيل إن كان الرجم ثبت عليه بإقراره فيؤخر إلى اعتدال الهواء وزوال المرض الذي يرجى زواله، لأنه ربما رجع عن إقراره في خلال الرجم وقد أثر الرجم في جسمه فتعين شدة الحر والبرد والمرض على أهلاكه بخلاف ما لو ثبت بالبينة لأنه لا يسقط، وإن كان الحد جلدًا لم يجز إقامته في شدة الحر والبرد كما لا يقام في المرض.
أما الرجم ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
قال الشافعي رحمه الله، ومالك رحمه الله: يجوز للإمام أن يحضر رجمه وأن لا يحضر، وكذا الشهود لا يلزمهم الحضور.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: إن ثبت الزنا بالبينة وجب على الشهود أن يبدأوا بالرجم ثم الإمام ثم الناس، وإن ثبت بإقرار بدأ الإمام ثم الناس.
حجة الشافعي رحمه الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برجم ماعز والغامدية ولم يحضر رجمهما.
المسألة الثانية:
إن ثبت الزنا بإقراره فمتى رجع ترك، وقع به بعض الحد أو لم يقع.
وبه قال أبو حنيفة رحمه الله والثوري وأحمد وإسحق، وقال الحسن وابن أبي ليلى وداود لا يقبل رجوعه، وعن مالك رحمه الله روايتان.
حجة القول الأول: أن ماعزًا لما مسته الحجارة وهرب، فقال عليه السلام: «هلا تركتموه».
المسألة الثالثة:
يحفر للمرأة إلى صدرها حتى لا تنكشف ويرمى إليها، ولا يحفر للرجل، لما روى أبو سعيد الخدري «أن ماعزًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله إني أصبت فاحشة فأقم على الحد، فرده النبي عليه السلام مرارًا، ثم سأل قومه، فقالوا: لا نعلم به بأسًا فأمرنا أن نرجمه، فانطلقنا به إلى بقيع الغرقد فما أوثقناه ولا حفرنا له، قال فرميناه بالعظام والمدر والخزف، قال فاشتد واشتددنا خلفه حتى أتى عرض الحرة وانتصب لنا فرميناه بجلاميد الحرة حتى سكن» وجه الاستدلال أنه قال: فما أوثقناه ولا حفرنا له ولأنه هرب، ولو كان في حفرة لما أمكنه ذلك.
المسألة الرابعة:
إذا مات في الحد يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين، فهذا ما أردنا ذكره من بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بهذه الآية.
أما المباحث العقلية: فاعلم أن من الناس من قال: لا شك أن البدن مركب من أجزاء كثيرة، فإما أن يقوم بكل جزء حياة وعلم وقدرة على حدة أو يقوم بكل الأجزاء حياة واحدة وعلم واحد وقدرة واحدة، والثاني محال لاستحالة قيام العرض الواحد بالمحال الكثيرة فتعين الأول، وإذا كان كذلك كان كل جزء من أجزاء البدن حيًا على حدة وعالمًا على حدة وقادرًا على حدة، وإذا ثبت هذا فنقول الزاني هو الفرج لا الظهر، فكيف يحسن من الحكيم أن يأمر بجلد الظهر، ولأنه ربما كان الإنسان حال إقدامه على الزنا عجيفًا نحيفًا ثم يسمن بعد ذلك فكيف يجوز إيلام تلك الأجزاء الزائدة مع أنها كانت بريئة عن فعل الزنا، فإن قال قائل هذا مدفوع من وجهين: الأول: وهو أنه ليس كل واحد من أجزاء البدن فاعلًا على حدة وحيًا على حدة وذلك محال، بل الحياة والعلم والقدرة تقوم بالجزء الواحد ثم توجب حكم الحيية والعالمية والقادرية لمجموع الأجزاء، فيكون المجموع حيًا واحدًا عالمًا واحدًا قادرًا واحدًا، وعلى هذا التقدير يزول السؤال الثاني: أن يقال الذي هو الفاعل والمحرك والمدرك شيء ليس بجسم ولا جسماني.
وإنما هو مدبر لهذا البدن، وعلى هذا التقدير أيضًا يزول السؤال والجواب: أما الأول فضعيف، وذلك لأن العلم إذا قام بجزء واحد، فإما أن يحصل بمجموع الأجزاء عالمية واحدة فيلزم قيام الصفة الواحدة بالمحال الكثيرة وهو محال، أو يقوم بكل جزء عالمية على حدة فيعود المحذور المذكور، وأما الثاني ففي نهاية البعد لأنه إذا كان الفاعل للقبيح هو ذلك المباين فلم يضرب هذا الجسد؟ واعلم أن المقصود من أحكام الشرع رعاية المصالح، ونحن نعلم أن شرع الحد يفيد الزجر، فكان المقصود حاصلًا والله أعلم.
أما قوله تعالى: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ في دِينِ الله} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى:
الرأفة الرقة والرحمة وقراءة العامة بسكون الهمزة وقرئ رأفة بفتح الهمزة ورآفة على فعالة.
المسألة الثانية:
يحتمل أن يكون المراد أن لا تأخذكم رأفة بأن يعطل الحد أو ينقص منه، والمعنى لا تعطلوا حدود الله ولا تتركوا إقامتها للشفقة والرحمة، وهذا قول مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير واختيار الفراء والزجاج، ويحتمل أن لا تأخذكم رأفة بأن يخفف الجلد وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وقتادة، ويحتمل كلا الأمرين والأول أولى لأن الذي تقدم ذكره الأمر بنفس الجلد، ولم يذكر صفته، فما يعقبه يجب أن يكون راجعًا إليه وكفى برسول الله أسوة في ذلك حيث قال: «لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها» ونبه بقوله في دين الله على أن الدين إذا أوجب أمرًا لم يصح استعمال الرأفة في خلافه.
أما قوله تعالى: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} فهو من باب التهييج والنهاب الغضب لله تعالى ولدينه.
قال الجبائي تقدير الآية: إن كنتم مؤمنين فلا تتركوا إقامة الحدود، وهذا يدل على أن الاشتغال بأداء الواجبات من الإيمان بخلاف ما تقوله المرجئة والجواب: أن الرأفة لا تحصل إلا إذا حكم الإنسان بطبعه أن الأولى أن لا تقام تلك الحدود، وحينئذ يكون منكرًا للدين فيخرج عن الإيمان في الحديث: «يؤتى بوال نقص من الحد سوطًا، فيقال له لم فعلت ذاك؟ فيقول رحمة لعبادك، فيقال له أنت أرحم بهم مني! فيؤمر به إلى النار، ويؤتى بمن زاد سوطًا فيقال له لم فعلت ذلك؟ فيقول لينتهوا عن معاصيك، فيقول أنت أحكم به مني! فيؤمر به إلى النار».
أما قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مّنَ المؤمنين} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ} أمر وظاهره للوجوب، لكن الفقهاء قالوا يستحب حضور الجمع والمقصود إعلان إقامة الحد، لما فيه من مزيد الردع، ولما فيه من رفع التهمة عمن يجلد، وقيل أراد بالطائفة الشهود لأنه يجب حضورهم ليعلم بقاؤهم على الشهادة.
المسألة الثانية:
اختلفوا في أقل الطائفة على أقوال: أحدها: أنه رجل واحد وهو قول النخعي ومجاهد.
واحتجا بقوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] وثانيها: أنه اثنان وهو قول عكرمة وعطاء واحتجا بقوله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَائِفَةٌ لّيَتَفَقَّهُواْ في الدين} [التوبة: 122] وكل ثلاثة فرقة والخارج من الثلاثة واحد أو اثنان، والاحتياط يوجب الأخذ بالأكثر وثالثها: أنه ثلاثة وهو قول الزهري وقتادة، قالوا الطائفة هي الفرقة التي يمكن أن تكون حلقة، كأنها الجماعة الحافة حول الشيء، وهذه الصورة أقل ما لابد في حصولها هو الثلاثة ورابعها: أنه أربعة بعدد شهود الزنا، وهو قول ابن عباس والشافعي رضي الله عنهم وخامسها: أنه عشرة وهو قول الحسن البصري، لأن العشرة هي العدد الكامل.
المسألة الثالثة:
تسميته عذابًا يدل على أنه عقوبة، ويجوز أن يسمى عذابًا لأنه يمنع المعاودة كما سمي نكالًا لذلك، ونبه تعالى بقوله: {مِنَ المؤمنين} على أن الذين يشهدون يجب أن يكونوا بهذا الوصف، لأنهم إذا كانوا كذلك عظم موقع حضورهم في الزجر وعظم موقع إخبارهم عما شاهدوا فيخاف المجلود من حضورهم الشهرة، فيكون ذلك أقوى في الانزجار. والله أعلم. اهـ.

.قال الجصاص:

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يَخْتَلِفْ السَّلَفُ فِي أَنَّ حَدَّ الزَّانِيَيْنِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {وَاَللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} فَكَانَ حَدُّ الْمَرْأَةِ الْحَبْسُ وَالْأَذَى بِالتَّعْيِيرِ، وَكَانَ حَدُّ الرَّجُلِ التَّعْيِيرَ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ الْمُحْصَنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وَنُسِخَ عَنْ الْمُحْصَنِ بِالرَّجْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ» فَكَانَ ذَلِكَ عَقِيبَ الْحَبْسِ وَالْأَذَى الْمَذْكُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ: {وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} وَذَلِكَ لِتَنْبِيهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّانَا عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ السَّبِيلُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةُ حُكْمٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ السَّبِيلُ الْمَجْعُولُ لَهُنَّ مُتَقَدِّمًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبِيلِ هُوَ مَا ذَكَرَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْأَذَى وَالْحَبْسُ مَنْسُوخَيْنِ عَنْ غَيْرِ الْمُحْصَنِ بِالْآيَةِ وَعَنْ الْمُحْصَنِ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ الرَّجْمُ.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي حَدِّ الْمُحْصَنِ وَغَيْرِ الْمُحْصَنِ فِي الزِّنَا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرَ وَمُحَمَّدٌ: يُرْجَمُ الْمُحْصَنُ وَلَا يُجْلَدُ وَيُجْلَدُ غَيْرُ الْمُحْصَنِ، وَلَيْسَ نَفْيُهُ بِحَدٍّ وَإِنَّمَا هُوَ مَوْكُولٌ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ إنْ رَأَى نَفْيَهُ لِلدَّعَارَةِ فَعَلَ كَمَا يَجُوزُ حَبْسُهُ حَتَّى يُحْدِثَ تَوْبَةً.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: لَا يَجْتَمِعُ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ مِثْلُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا، وَاخْتَلَفُوا فِي النَّفْيِ بَعْدَ الْجَلْدِ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يُنْفَى الْبِكْرُ بَعْدَ الْجَلْدِ وَقَالَ مَالِكٌ: يُنْفَى الرَّجُلُ وَلَا تُنْفَى الْمَرْأَةُ وَلَا الْعَبْدُ، وَمَنْ نُفِيَ حُبِسَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُنْفَى إلَيْهِ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ: يُنْفَى الزَّانِي وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: وَلَا تُنْفَى الْمَرْأَةُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُنْفَى الْعَبْدُ نِصْفَ سَنَةٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ نَفْيَ الْبِكْرِ الزَّانِي لَيْسَ بِحَدٍّ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْحَدُّ الْمُسْتَحَقُّ بِالزِّنَا وَأَنَّهُ كَمَالُ الْحَدِّ، فَلَوْ جَعَلْنَا النَّفْيَ حَدًّا مَعَهُ لَكَانَ الْجَلْدُ بَعْضَ الْحَدِّ وَفِي ذَلِكَ إيجَابُ نَسْخِ الْآيَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ النَّفْيَ إنَّمَا هُوَ تَعْزِيرٌ وَلَيْسَ بِحَدٍّ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ غَيْرُ جَائِزَةٍ إلَّا بِمِثْلِ مَا يَجُوزُ بِهِ النَّسْخُ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ النَّفْيُ حَدًّا مَعَ الْجَلْدِ لَكَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ تَوْقِيفٌ لِلصَّحَابَةِ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَعْتَقِدُوا عِنْدَ سَمَاعِ التِّلَاوَةِ أَنَّ الْجَلْدَ هُوَ جَمِيعُ حَدِّهِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ وُرُودُهُ فِي وَزْنِ وُرُودِ نَقْلِ الْآيَةِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ خَبَرُ النَّفْيِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ بَلْ كَانَ وُرُودُهُ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَدٍّ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ غَرَّبَ رَبِيعَةَ بْنَ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفَ فِي الْخَمْرِ إلَى خَيْبَرَ فَلَحِقَ بِهِرَقْلَ، فَقَالَ عُمَرُ: لَا أُغَرِّبُ بَعْدَهَا أَحَدًا وَلَمْ يَسْتَثْنِ الزِّنَا.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ فِي الْبِكْرَيْنِ إذَا زَنَيَا: يُجْلَدَانِ وَلَا يُنْفَيَانِ وَإِنَّ نَفْيَهُمَا مِنْ الْفِتْنَةِ وَرَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ أَمَةً لَهُ زَنَتْ، فَجَلَدَهَا وَلَمْ يَنْفِهَا.
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: كَفَى بِالنَّفْيِ فِتْنَةً.
فَلَوْ كَانَ النَّفْيُ ثَابِتًا مَعَ الْجَلْدِ عَلَى أَنَّهُمَا حَدُّ الزَّانِي لَمَا خَفِيَ عَلَى كُبَرَاءِ الصَّحَابَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَشِبْلٌ وَزَيْدُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْأَمَةِ: «إذَا زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا فَإِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ».
وَقَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرُ الدَّلَالَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ النَّفْيُ ثَابِتًا لَذَكَرَهُ مَعَ الْجَلْدِ، وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} فَإِذَا كَانَ جَلْدُ الْأَمَةِ نِصْفَ حَدِّ الْحُرَّةِ وَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِّهَا بِالْجَلْدِ دُونَ النَّفْيِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حَدَّ الْحُرَّةِ هُوَ الْجَلْدُ وَلَا نَفْيَ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ التَّأْدِيبَ دُونَ الْحَدِّ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْأَمَةَ إذَا زَنَتْ قَبْلَ أَنْ تُحْصَنَ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} قِيلَ لَهُ: قَدْ رَوَى سَعِيدُ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ: ثُمَّ لِيَبِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ» وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تُنْفَى؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ نَفْيُهَا لَمَا جَازَ بَيْعُهَا؛ إذْ لَا يُمْكِنُ الْمُشْتَرِيَ تَسَلُّمُهَا؛ لِأَنَّ حُكْمَهَا أَنْ تُنْفَى.