فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فأما الجَلْد، فهو ضرب الجِلْد؛ يقال: جَلَدَه: إِذا ضرب جِلْده، كما يقال: بَطَنَه: إِذا ضَرَب بَطْنه.
قال المفسرون: ومعنى الآية: الزانية والزاني إِذا كانا حُرّين بالغَين بِكْرَيْن، {فاجلِدوا كُلَّ واحد منهما مائة جَلْدة}.
فصل:
قال شيخنا علي بن عبيد الله: هذه الآية تقتضي وجوب الجَلْدِ على البِكْر والثَّيّب.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق البِكْر زيادة على الجَلْد بتغريب عام، وفي حق الثَّيِّب زيادة على الجلد بالرجم بالحجارة.
فروى عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «البِكْر بالبِكْر جَلْدُ مائة وتغريب عامٍ، والثَّيِّب بالثَّيِّب جلد مائة ورجم بالحجارة» وممن قال بوجوب النَّفي في حق البِكْر أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر، وممن بعدهم عطاء، وطاووس، وسفيان، ومالك، وابن أبي ليلى، والشافعي، وأحمد، وإِسحاق، وممن قال بالجمع بين الجلد والرجم في حق الثَّيِّب عليُّ بن أبي طالب، والحسن البصري، والحسن بن صالح، وأحمد، وإِسحاق.
قال: وذهب قوم من العلماء إِلى أن المراد بالجَلْد المذكور في هذه الآية: البِكْر، فأما الثَّيِّب، فلا يجب عليه الجَلْد، وإِنما يجب الرجم، روي عن عمر، وبه قال النخعي، والزهري والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالك، وروي عن أحمد رواية مثل قول هؤلاء.
قوله تعالى: {ولا تَأْخُذْكُمْ} وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو رزين، والضحاك، وابن يعمر، والأعمش: {يَأْخُذْكُمْ} بالياء، {بهما رأفةُ} قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي: {رَأْفَةٌ} باسكان الهمزة.
وقرأ أبو المتوكل، ومجاهد، وأبو عمران الجوني، وابن كثير: بفتح الهمزة وقصرها على وزن رَعَفَة.
وقرأ سعيد بن جبير، والضحاك، وأبو رجاء العطاردي: {رآفَةٌ} مثل سآمة وكآبة.
وفي معنى الكلام قولان:
أحدهما: لا تأخذكم بهما رأفة، فتخفِّفوا الضرب، ولكن أوجعوهما، قاله سعيد بن المسيب، والحسن، والزهري، وقتادة.
والثاني: لا تأخذكم بهما رأفة فتعطِّلوا الحدود ولا تقيموها، قاله مجاهد، والشعبي، وابن زبد في آخرين.
فصل:
واختلف العلماء في شدة الضرب في الحدود، فقال الحسن البصري: ضرب الزنا أشد من القذف، والقذف أشد من الشُّرب، ويضرب الشارب أشد من ضرب التعزير، وعلى هذا مذهب أصحابنا.
وقال أبو حنيفة: التعزير أشد الضرب، وضرب الزنى أشد من ضرب الشارب، وضرب الشارب أشد من ضرب القذف.
وقال مالك: الضرب في الحدود كلِّها سواءٌ غير مبرِّح.
فصل:
فأما ما يُضرَب من الأعضاء، فنقل الميموني عن أحمد في جَلْد الزاني، قال: يجرَّد، ويعطى كل عضو حقَّه، ولا يضرب وجهه ولا رأسه.
ونقل يعقوب ابن بختان: لا يُضرب الرأس ولا الوجه ولا المذاكير، وهو قول أبي حنيفة.
وقال مالك: لا يُضرب إِلا في الظَّهر.
وقال الشافعي: يُتَّقى الفرج والوجه.
قوله تعالى: {في دين الله} فيه قولان:
أحدهما: في حُكمه، قاله ابن عباس.
والثاني: في طاعة الله، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: {ولْيَشْهَدْ عذابَهُما طائفة من المؤمنين} قال الزجاج: القراءة باسكان اللام، ويجوز كسرها.
والمراد بعذابهما ضربهما.
وفي المراد بالطائفة هاهنا خمسة أقوال:
أحدها: الرجل فما فوقه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد.
وقال النخعي: الواحد طائفة.
والثاني: الاثنان فصاعدًا، قاله سعيد بن جبير، وعطاء؛ وعن عكرمة كالقولين.
قال الزجاج: والقول الأول على غير ما عند أهل اللغة، لأن الطائفة في معنى جماعة، وأقل الجماعة اثنان.
والثالث: ثلاثة فصاعدًا، قاله الزهري.
والرابع: أربعة، قاله ابن زيد.
والخامس: عشرة، قاله الحسن البصري. اهـ.

.قال القرطبي:

{سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)}.
مقصود هذه السورة ذكرُ أحكام العفاف والسِّتر.
وكتب عمر رضي الله عنه إلى أهل الكوفة: علّموا نساءكم سورة النور.
وقالت عائشة رضي الله عنها: لا تُنزلوا النساء الغُرَف ولا تعلموهنّ الكتابة وعلموهنّ سورة النور والغزل.
{وَفَرَضْنَاهَا} قرئ بتخفيف الراء؛ أي فرضنا عليكم وعلى من بعدكم ما فيها من الأحكام.
وبالتشديد: أي أنزلنا فيها فرائض مختلفة.
وقرأ أبو عمرو: {وفَرّضناها} بالتشديد أي قطّعناها في الإنزال نُجُمًا نُجُمًا.
والفرض القطع؛ ومنه فُرْضة القوس.
وفرائض الميراث وفرض النفقة.
وعنه أيضًا {فرّضناها} فصلناها وبيناها.
وقيل: هو على التكثير؛ لكثرة ما فيها من الفرائض.
والسورة في اللغة اسم للمنزلة الشريفة؛ ولذلك سُمّيت السورة من القرآن سورة.
قال زهير:
لم تر أن الله أعطاك سورة ** ترى كلّ مَلْكٍ دونها يتذبذب

وقد مضى في مقدمة الكتاب القول فيها.
وقرىء {سورةٌ} بالرفع على أنها مبتدأ وخبرها {أنزلناها}؛ قاله أبو عبيدة والأخفش.
وقال الزجاج والفرّاء والمُبَرّد: {سورةٌ} بالرفع لأنها خبر الابتداء؛ لأنها نكرة ولا يبتدأ بالنكرة في كل موضع، أي هذه سورة.
ويحتمل أن يكون قوله: {سورة} ابتداء وما بعدها صفة لها أخرجتها عن حدّ النكرة المحضة فحسن الابتداء لذلك، ويكون الخبر في قوله: {الزَّانِيَةُ والزّانِي}.
وقرىء {سورةً} بالنصب، على تقدير أنزلنا سورة أنزلناها.
وقال الشاعر:
والذئبَ أخشاه إن مررتُ به ** وَحْدِي وأخشى الرياح والمطرا

أو تكون منصوبة بإضمار فعل؛ أي اتل سورة.
وقال الفرّاء: هي حال من الهاء والألف، والحال من المكنى يجوز أن يتقدم عليه.
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)}.
فيه اثنان وعشرون مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {الزانية والزاني} كان الزّنَى في اللغة معروفًا قبل الشرع، مثل اسم السرقة والقتل.
وهو اسمٌ لوطء الرجل امرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة نكاح بمطاوعتها.
وإن شئت قلت: هو إدخال فرج في فرجٍ مشتهًى طبعًا محرّمٍ شرعًا؛ فإذا كان ذلك وجب الحدّ.
وقد مضى الكلام في حدّ الزنى وحقيقته وما للعلماء في ذلك.
وهذه الآية ناسخة لآية الحبس وآية الأذى اللتين في سورة النساء باتفاق.
الثانية: قوله تعالى: {مِئَةَ جَلْدَةٍ} هذا حدّ الزاني الحر البالِغ البكر، وكذلك الزانية البالغة البكر الحرّة.
وثبت بالسُّنّة تغريب عامٍ؛ على الخلاف في ذلك.
وأما المملوكات فالواجب خمسون جلدة؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} [النساء: 25] وهذا في الأَمَة، ثم العبدُ في معناها.
وأما المُحْصَن من الأحرار فعليه الرّجْم دون الجلد.
ومن العلماء من يقول: يجلد مائة ثم يُرْجَم.
وقد مضى هذا كله ممهَّدًا في النساء فأغنى عن إعادته، والحمد لله.
الثالثة: قرأ الجمهور {الزَّانِيَةُ والزّانِي} بالرفع.
وقرأ عيسى بن عمر الثَّقَفِيّ {الزانيةَ} بالنصب، وهو أوجه عند سيبويه؛ لأنه عنده كقولك: زيدًا اضرب.
ووجه الرفع عنده: خبر ابتداء، وتقديره: فيما يتلى عليكم حكم الزانية والزاني.
وأجمع الناس على الرفع وإن كان القياس عند سيبويه النصب.
وأما الفرّاء والمبرد والزجاج فإن الرفع عندهم هو الأوجه، والخبر في قوله: {فاجلدوا}؛ لأن المعنى: الزانية والزاني مجلودان بحكم الله؛ وهو قول جيد، وهو قول أكثر النحاة.
وإن شئت قدّرت الخبر: ينبغي أن يجلدا.
وقرأ ابن مسعود {والزان} بغير ياء.
الرابعة: ذكر الله سبحانه وتعالى الذَّكَر والأنثى، والزاني كان يكفي منهما؛ فقيل: ذكرهما للتأكيد؛ كما قال تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38].
ويحتمل أن يكون ذكرهما هنا لئلا يظن ظانّ أن الرجل لما كان هو الواطىء والمرأة محل ليست بواطئة فلا يجب عليها حدّ؛ فذكرها رفعًا لهذا الإشكال الذي أوقع جماعة من العلماء منهم الشافعيّ.
فقالوا: لا كفارة على المرأة في الوطء في رمضان؛ لأنه قال جامعت أهلي في نهار رمضان؛ فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «كفِّر».
فأمره بالكفارة، والمرأةُ ليست بمجامعة ولا واطئة.
الخامسة: قُدّمت {الزانية} في هذه الآية من حيث كان في ذلك الزمان زِنَى النساء فاش، وكان لإماء العرب وبغايا الوقت رايات، وكنّ مجاهراتٍ بذلك.
وقيل: لأن الزنى في النساء أعر وهو لأجل الحبل أضر.
وقيل: لأن الشهوة في المرأة أكثر وعليها أغلب؛ فصدّرها تغليظًا لتَرْدَع شهوتها، وإن كان قد رُكِّب فيها حياء لكنها إذا زنت ذهب الحياء كله.
وأيضًا فإن العار بالنساء ألحق إذ موضوعهنّ الحجب والصيانة فقدم ذكرهنّ تغليظًا واهتمامًا.
السادسة: الألف واللام في قوله: {الزانية والزاني} للجنس، وذلك يعطي أنها عامة في جميع الزناة.
ومن قال بالجلد مع الرجم قال: السُّنة جاءت بزيادة حكم فيقام مع الجلد.
وهو قول إسحاق بن رَاهْوَيْه والحسن بن أبي الحسن، وفعله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بشُرَاحة، وقد مضى في النساء بيانه.
وقال الجمهور: هي خاصة في البكرين، واستدلوا على أنها غير عامّة بخروج العبيد والإماء منها.
السابعة: نصّ الله سبحانه وتعالى على ما يجب على الزانِيَيْن إذا شُهد بذلك عليهما؛ على ما يأتي، وأجمع العلماء على القول به.
واختلفوا فيما يجب على الرجل يوجد مع المرأة في ثوب واحد؛ فقال إسحاق بن رَاهْوَيه: يضرب كل واحد منهما مائة جلدة.
وروي ذلك عن عمر وعليّ، وليس يثبت ذلك عنهما.
وقال عطاء وسفيان الثَّورِيّ: يؤدّبان.
وبه قال مالك وأحمد؛ على قدر مذاهبهم في الأدب.