فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

سورة النور:
نزولها: هي مدنية.. باتفاق.
عدد آياتها: أربع وستون آية.
عدد كلماتها: ألف وثلاثمائة وست عشرة كلمة.
عدد حروفها: خمسة آلاف، وستمائة وثمانون حرفا.
بسم اللّه الرحمن الرحيم:
الآيات: (1- 3) [سورة النور (24): الآيات 1- 3].
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ:
{سورة أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)}.
التفسير:
فى هذه السورة- أمران- نحب أن نقف قليلا عندهما، قبل أن نمضى في تفسيرها:
أولهما: هذا البدء الذي بدئت به، والإخبار عنها بأنها سورة مع أنها سورة من مائة وأربع عشرة سورة، هي القرآن الكريم كله.
فما سرّ هذا؟
لم نجد أحدا من المفسرين سأل هذا السؤال، أو أشار إليه من قريب أو بعيد.. وإن كانوا قد توسعوا في شرح معنى سورة، وأنها من السور الذي يقوم على ما يداخله، ويحتويه.. فهى بهذا أشبه بالسور.. لها بدء وختام.
وما بين بدئها وختامها محصور في البدء والختام.. وليس في هذا ما يجعلها منفردة بوضع خاص بين سور القرآن الكريم.
أما الإخبار عنها بأنها سورة، وهى سورة فعلا.. فهذا ما قد سكتوا عنه.
وهو أمر يلفت النظر، ويستوجب الدراسة والبحث.
ونحن إذ ننظر في قوله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
نجد هذا الخبر وما وصف به، ينطبق على كل سورة من سور القرآن الكريم.
فكل سورة منه هي سورة، وكل سورة، أنزلها اللّه وفرضها، وأوجب على المسلمين التعبّد بآياتها، والفعل بأحكامها.. وكل سورة فيها آيات بينات، للتذكر والتدبر، وهى في هذا لا تختص بمزيد فضل على غيرها من السور، لأن القرآن كله كلام اللّه، وكلام اللّه- سبحانه- على التمام والكمال جميعه، لا يفضل بعضه بعضا بشىء.. إذ ليس هناك مكان لزيادة في فضل! فما السر إذن؟
نقول- واللّه أعلم- إن بدء السورة في الحقيقة هو قوله تعالى في الآية الثانية منها: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ}.. وإن الآية التي بدئت بها السورة ليست إلا تنبيها على أن سورة ستنزل، وفيها فرائض، وأحكام، وآيات بينات.. وذلك أن الأحكام الشرعية.. وخاصة ما يتصل منها بالحدود- لم يجىء بها القرآن الكريم في صدر السور القرآنية، وإنما جاء بها بين ثنايا الآيات، حيث يمهد لها بآيات قبلها، ثم يعقب عليها بآيات بعدها.. وبهذا يجىء الحكم الشرعي وبين يديه ومن خلفه ما يدعمه، ويوضحه.
فقوله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
هو أشبه بالموسيقى، التي تتقدم موكب المجاهدين في سبيل اللّه، المتجهين إلى غزو مواقع الكفر والضلال، إذ أن الآيات التي جاءت بعد هذا المطلع، هي في الواقع أقرب شيء إلى أن تكون بعثا من جند السماء، يحمل الهدى والنور إلى هذه المواطن المظلمة من المجتمع الإسلامى، فيبدد ظلامها، ويكشف للأبصار والبصائر، الطريق المستقيم إلى مرضاة اللّه!
وثانيهما: تسميتها بسورة النور.. على اعتبار أن أسماء السور توقيفى، وهو الرأى الراجح عندنا.
لم سميت بهذا الاسم؟
والجواب- واللّه أعلم- أن ذلك:
أولا: لأنها جاءت بآيات كشفت ظلاما كثيفا، كان قد انعقد في سماء المسلمين قبل أن تنزل هذه السورة، وتنزل معها هذه الآيات.. وذلك أن السيدة عائشة رضي اللّه عنها، كانت في تلك الفترة موضع اتهام على ألسنة المشركين والمنافقين، وقد أوذى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من هذا الحديث المفترى، كما أوذيت زوجه رضي اللّه عنها، وأوذى المسلمون بهذا الذي طاف حول بيت النبوة من غبار تلك التهمة المفتراة.. فلما نزلت الآيات التي تبرّئ البريئة الصدّيقة بنت الصديق- انقشع هذا الظلام، وكشف النور السماوي، عن وجوه المنافقين المفترين.
وثانيا: جاء في السورة الكريمة قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ (35)}.
فلهذه الأنوار التي تملأ الوجود من نور اللّه، ولهذه الآيات المنزلة التي أضاءت للمسلمين ظلام الليل الكثيف، وفضحت المشركين والمفترين- لهذا أو ذاك، أولهما معا، استحقت السورة أن تحمل هذا الاسم، وأن تكون نورا على نور.. من نور اللّه!
بعد هذا، نستطيع أن نلتقى بالسورة الكريمة، ونقف بين يدى آياتها.
قوله تعالى: {سورة أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
{سورة} خبر لمبتدأ محذوف، تقديره، هذه سورة.. وقد قرئ {سورة} بالنصب، بتقدير ناصب لها من فعل، أو اسم فعل، مثل اقرأ، أو استقبل، أو إليك أيها النبي سورة.
وفى هذا البدء إلفات إلى ما سيجيئ في السورة من أحكام. وتشريعات، وقواعد، لحفظ المجتمع، وصيانة روابط الأسرة، التي هي الأساس الذي يقوم عليه كيان الجماعات والأمم.
الجلد والرجم.. وجريمة الزنا:
قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.
هكذا تبدأ السورة بهذا الحكم، على غير ما جرى عليه القرآن من تقرير الأحكام في ثنايا السورة، وبين يديها ومن خلفها آيات تمهيد لها، وتعقب عليها.
أما هنا، فقد تكاد السورة تبدأ بهذا الحكم، وليست الآية التي بدأت بها السورة إلا إعلانا عن أن هذه سورة، وأنها جاءت ابتداء بتقرير هذا الحكم، وهذا يشير إلى أن هذا الأمر الذي جعلته السورة في مقدمتها، هو أمر عظيم الخطر على المجتمع الإنسانى، وأن من الحكمة الإسراع في محاربته والقضاء عليه، وأنه لهذا جدير بأن يتصدر سورة من سور القرآن الكريم، وألا تسبقه مقدمات، وإرهاصات تشير إليه.
وفى تصدير الحكم بالجملة الاسمية، تقديم للمسند إليه- المبتدأ- وكشف عنه قبل الكشف عن الحكم الذي سيسند إليه.. إذ ليس المقصود أولا هو إقامة الحدّ على الزانية والزاني، وإنما المراد هو التعرف على من يحمل هذا المرض الخبيث في كيانه.. ثم يأتى بعد ذلك ما يتخذ لوقايته، ووقاية المجتمع منه.
فقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} يلفت السامع إلى أن حكما ما سيقع عليهما، أو قولا سيقال فيهما.. وهنا تصغى الأسماع، وتتطلع النفوس إلى هذا الحكم.
وإذ يتوقع المستمعون أن هذا الحكم سيكون وعيدا من اللّه، أو وصفا دامغا للزانية والزاني- يجىء الأمر على غير ما ينتظرون، وإذا هم أنفسهم، هم المطالبون بالكشف عن هذا الداء، ثم هم مطالبون أيضا بأخذهم بهذا الدّواء الذي وضعه اللّه في أيديهم، وإنفاذ أمره فيهم.. وهذا كله من شأنه أن يجعل المسلمين جميعا حربا على هذا الداء، وأساة لمن يصابون به.
ففي قوله تعالى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ}.
أولا: عزل للمؤمنين، عن جماعة الزّناة، الذين تحقق المجتمع من هذا الداء الذي نزل بهم.
وثانيا: إلزام للمؤمنين ألا يقفوا موقفا سلبيا من هذا الداء الذي يتهددهم إن هم تغاضوا عنه، ولم يأخذوا ولأنفسهم وقاية منه.
وبهذا يكون معنى الآية:
الزانية والزاني، ها هما قد أصيبا بهذا الداء الخبيث، وإنه لكى تدفعوا عن أنفسكم شر هذا الداء، فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين اللّه إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر، إذ لستم أنتم أرأف بالناس من رب الناس.
وفى قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} إشارة إلى أن الجريمة ينبغى أن يكون عقابها علنا، بمحضر من الناس، ليكون في ذلك فضح للجانى، وتحذير لغيره من أن يأتى هذا المنكر، ويقع تحت سياط العذاب، وعلى أعين الناس! وهذه الجريمة ينكرها الناس جميعا، وتنكرها كذلك المدنية الغربية جهرا، وترضى بها وعنها سرا.. وذلك لما في هذه الجريمة من عدوان على حقوق الأزواج، ومن اختلاط الأنساب، وحل روابط الأسرة، وقطع ما بين الآباء والأبناء من تعاطف، وتراحم، وإيثار، وبذل يبلغ حد التضحية بالنفس، الأمر الذين لا يكون إلا إذا ملأت عاطفة الأبوة قلوب الآباء.. وهذا لا يكون إلا إذا وقع في نفوس الآباء وقوعا محققا أن هؤلاء الأبناء من أصلابهم، وأنهم غرسهم الذي غرسوه، ونبتهم الذي خرج من هذا الغرس.. ومن هنا تقوم في أنفسهم الدواعي القوية لرعاية هذا النّبت وبذل الجهد له، حتى ينمو، ويزهو، ويثمر.
إن المجتمع لا يكون مجتمعا سليما، قوى البنيان، ثابت الأركان، إلا إذا انتظمت أفراده مشاعر متلاحمة من التوادّ والتعاطف بين أفراده.. والأسرة هي أول لبنة في بناء المجتمع.. ومن هنا كان حرص الإسلام على إقامة هذه اللّبنة من مادة متماسكة، متلاحمة، مصفاة من الشوائب، محصنة من الآفات.. فربط أولا بين الزوج والزوجة بهذا الرباط الموثق، الذي لا ينحل إلا إذا عرضت له عوارض تجعل من إمساك الزوجين بهذا الرباط أمرا فيه إعنات لهما، أو لأحدهما، فكان التحلل منه أرفق وأوفق.. ثم لم يدع الإسلام هذا الرباط ينحل تلقائيا- إذا دعت دواعيه- بل جعل له أسلوبا خاصا يجرى عليه، ويتعامل الزوجان بمقتضاه، كأن تعتدّ المرأة بعد انحلال الرابطة الزوجية بالطلاق أو الوفاة، وكأن يقدم الرجل للمرأة مؤخر الصداق، ونفقة العدة، وغير هذا مما هو مفصل في كتب الفقه.. ثم هذه الثمرة التي يثمرها الزواج من أولاد، وما يجب على الآباء عن رعاية وتربية لهؤلاء الأولاد، وهو أمر وإن كان في فطرة الكائن الحي، إلا أن الإسلام جعله شريعة، يؤخذ بها من فسدت فطرتهم من الآباء والأمهات.
وكذلك أوجبت الشريعة على الأبناء طاعة الآباء، وبرّهم، وتقديم الرعاية الكاملة لهم عند الكبر والعجز.. وهذا أمر وإن كانت تقضى به الفطرة، وتوجبه المروءة، التي تدعو إلى مقابلة الإحسان بالإحسان، فإن الإسلام جعله شريعة ملزمة، وحقا واجب الأداء، إذا كان في الأبناء من ذهبت مروءته، وطمست معالم فطرته، فلم يرع هذا الحق ابتداء من غير طلب.
وهكذا ينظر الإسلام إلى الأسرة، ويعدّها البوتقة الأولى، التي تنصب فيها مبادئه، وتختبر أحكامه، وتثمر شريعته.. فإنه إذا ظهرت آثار هذه الشريعة في مجتمع الأسرة، وقامت منها تلك الخلية السليمة، القوية، المحصنة من آفات الانحلال والتفكك- كان المجتمع الذي يقوم من اجتماع هذه الخلايا، مجتمعا سليما قويا.. أشبه بالجسد السليم القوى، الذي لا تنال منه الآفات والعلل.. إذا عرضت له.
وسلامة الرباط الذي يقوم بين الزوجين، وقيام الرابطة الزوجية في ضمان من التحلل والتفكك، وفى أمان من الشك والارتياب- هو الأساس الذي تقوم عليه الصلات الروحية، والنفسية، والمادية بين أعضاء هذه الأسرة، التي يبنيها الزوج والزوجة معا.
من أجل هذا وقفت شريعة الإسلام هذه الوقفة الحكيمة الحازمة، من أمر الزنا، وعدّته آفة مهلكة إذا لم يأخذ المجتمع كله السبيل عليها، وينكّل بالذين يعتدون على حرمته ويهددون أمنه وسلامته، ويدكون صرح بنيانه، باقتراف هذا المنكر.
وقد فرق الإسلام في العقوبة بين المحصنين وغير المحصنين، لما بين الفريقين من اختلاف في الحاجة، وفى الدافع إليها.
فالحدّ الذي فرضه الإسلام، هو مائة جلدة لغير المحصن، من النساء والرجال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ}.
أما المحصن من الرجال والنساء، فحدّه الموت.. رجما بالحجارة.
فإذا توافرت أركان هذه الجريمة بما يوجب الحد، وجب الحد، ولزم.
ثم إنه إذا أقيم الحد- جلدا أو رجما- وجب أن يكون علنا، يشهده طائفة من المؤمنين، وقد أشرنا من قبل إلى الحكمة المبتغاة من هذه العلانية.
هذا، وقد جاء الجلد نصا في القرآن الكريم.. كما جاءت به الآية الكريمة: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ}.
ولكن.. هنا سؤال:
إذا كان حكم القرآن قد جاء هكذا مطلقا في الزانية والزاني، وهو الجلد.
فلم هذا التخصص بغير المحصنين؟ ومن أين جاء النص على المحصنين بالرجم؟
ونقول إن التقييد للنص القرآنى، وصرفه إلى غير المحصنين، إنما هو من عمل الرسول، صلوات اللّه وسلامه عليه.. فقد رجم الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه- محصنا هو ماعز بن مالك كما رجم محصنة هى: الغامدية وذلك كما هو ثابت في السنة المطهرة.