فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والبتة لا تنطق ابتداء أو وصلا إلا بهمزة القطع محققة، على ما استعمله عليها أصحابها.
3- كلمة البتة هذه- فوق أنها غريبة- هي أيضا زائدة لا حاجة إليها في تقرير الحكم أو توكيده.. وقد جاء قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ}. وكان من الطبيعي أن يجىء الحكم المتمم لهذه الآية هكذا: «والشيخ والشيخة فارجموهما.. نكالا من اللّه..» وإذن فهذه التي تسمى آية، أبعد ما تكون عن نظم القرآن، كما أنها أبعد ما تكون عن بلاغة الرسول، وبيانه المعجز.
وثانيا: إلى جانب هذا الذي يقال عنه إنه آية.. يروى هذا الحديث عن النبىّ صلى اللّه عليه وسلم: «خذوا عنى.. خذوا عنّى.. قد جعل اللّه لهن سبيلا.. البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم».
وهذا الحديث- إن صح- وقد صححه رجال الحديث، يكون أشبه بالناسخ لآية {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} ولآية: «الشيخ والشيخة».. صارفا النظر عنهما إلى الأخذ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذ لا معنى للقول: «خذوا عنى خذوا عنى» إلا صرف النظر عن كلّ ما جاء في القرآن عن هذا الأمر، والأخذ بهذا الذي يقال.. وحاش لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن ينطق بهذا، وأن يتحدّى كلام اللّه الذي نزل عليه وبلّغه، فقد أخذ عنه المسلمون من قبل قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ}.
وثالثا: سورة النور كلها محكمة، وقد نوّه اللّه سبحانه وتعالى بها بقوله: {سورة أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فهى نور من نور، وكل ما فيها بيّن جلّى، وكلّ ما فيها مفروض لا نقض فيه.
وإذن فتغريب المجلود، والمجلودة، عاما، هو حكم زائد على ما نصّ عليه الحكم الصريح البين في الآية.. وهذا يناقض ما جاء في مطلع السورة من أنها سورة فرضها اللّه وأنزل فيها آيات بينات، واختصاصها بهذه الأوصاف- مع أن كل القرآن على هذه الصفة- مزيد عناية بها، وتأكيد بأنه لا يدخلها نسخ، إن كان هناك نسخ.
وقد ذهب كثير من الأئمة والفقهاءإلى القول بأن لا تغريب مع الجلد.
ويروى عن الإمام علي كرم اللّه وجهه أنه كان يقول: كفى بالتغريب فتنة.
وإذا كان للتغريب حكمة في أنه يبعد المجلود أو المجلودة عن محيطهما الذي ارتكبا فيه الفاحشة، ويباعد بينهما وبين الأعين التي ترميمهما بالازدراء، والألسنة التي تقذفهما بالسوء- إذا كان للتغريب هذا، فإن فيه ما ينسى الناس العبرة والعظة التي يجدونها كلما طالعوا وجه المجلودين، كما أن المجلودين- إذا بعدا عن موقع الجريمة، وعن شهودها، خف عنهم أثرها، وزال وشيكا وقعها.. ثم إن الغربة- كما يقول الإمام علي- فتنة قائمة بذاتها.
ورابعا: الأحاديث التي تروى عن عمر بن الخطاب فيها اضطراب، وتناقض.
فما ينسب إلى عمر أنه قال: إن ناسا يقولون: ما الرجم في كتاب اللّه وإنما فيه الجلد، هذا غير معقول أن يقول به عمر، وأحداث الرجم التي وقعت بأمر رسول اللّه لا تزال حديث الناس.. والمسلمون يعلمون أن الرسول مبيّن لكتاب اللّه، وأن قوله وعمله- فيما يتعلق بالشريعة- شرع.. فمحال إذن أن يقول إنسان هذا القول، ومحال كذلك أن يكون لعمر تعليق على قول لم يقل.
ثم من جهة أخرى، يرى في الحديث أن عمر يقول: «لولا أن يقول قائل أو يتكلم متكلم أن عمر زاد في كتاب اللّه لأثبتّها كما نزلت..» وهذا كلام لا يلتقى أوله مع آخره.. فعمر رجل قوىّ، لا يأبه أبدا لقول قائل أو كلام متكلم، في أي أمر متعلق بأحكام اللّه.. ثم كيف يخشى عمر قول الناس وكلامهم، ولا يخشى أن يزيد في كلام اللّه.. ثم كيف يخشى عمر قول الناس وكلامهم، ولا يخشى أن يزيد في كلام اللّه، ويثبت ما لم يأمر الرسول بإثباته؟ وكيف تظل هذه الآية غير مقروءة زمن النبىّ، وزمن أبى بكر، وزمن عمر، ثم يبدو لعمر أن يثبتها، لولا أنه يخشى قول القائلين؟
وأكثر من هذا، فإن الحديث الثالث الذي رويناه آنفا عن عمر، يدل دلالة قاطعة على أن الرجم كان سنّة عملية، ولو لم يكن عن آية قرآنية نسخت تلاوتها.. يقول عمر: لا نجد من الرجم بدا وصدق فإن الرجم للزانية والزاني المحصنين، مما فعله الرسول، وأمر به.. ثم يقول: فإنه من حدود اللّه.. وصدق رضي الله عنه فإن الرجم كالجلد، كلاهما من حدود اللّه.. ثم يقول: ألا وإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجم رجمنا بعده وهذا إجماع لا خلاف فيه.. ثم يقول: ولولا أن يقول قائلون: إن عمر زاد في كتاب اللّه ما ليس فيه- لكتبت في ناحية من المصحف وهذا يعنى أن الذي كان يهتم به عمر ولا يفعله مخافة الفتنة- هو أن يكتب في جانب من المصحف، بعيدا عن الآيات القرآنية- هذا الذي همّ أن يكتبه.
وماذا همّ عمر بكتابته ولم يكتبه للاعتبارات التي رآها؟
هذا هو نص ما أراد عمر أن يكتبه، وأمسك عن كتابته: وشهد عمر بن الخطاب وابن عوف وفلان وفلان أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجم، ورجمنا معه.. هذا ما همّ عمر بكتابته ولم يكتبه، هو شهادة تلحق بالمصحف، في ناحية منه.. ومضمون هذه الشهادة، هو: أن رسول اللّه رجم، ورجم المسلمون بعده ويشهد على هذا عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف، وآخرون.
وهذا يعنى أنه لو كانت هناك آية الرجم هذه التي يقولون عنها: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من اللّه واللّه عزيز حكيم»- لو كان لهذه الآية وجود- ظاهر أو خفى- لكانت شهادة عمر عليها أولى من شهادته على الرجم، ولأثبتها في ناحية من المصحف، وشهد هو ومن معه على أنها قرآن، نسخت تلاوته وبقي حكمه.
وهذا قليل من كثير مما يمكن أن يقال في هذه الأحاديث، وفى آية الرجم هذه، وأنه كلما نظر الإنسان فيها وجد خللا واضطرابا برىء منهما القرآن الكريم، وتنزه عنهما كلام اللّه.
فمثلا: الشيخ والشيخة إذا كانا غير محصنين فهل يرجمان؟ والشاب والشابة إذا كانا محصنين فهل لا يرجمان؟ هذا ما يتسع له منطوق آية: «الشيخ والشيخة» ومفهومها! وفى حديث يروى عن علي بن أبى طالب كرم اللّه وجهه، أنه قد ثبت لديه حكم الزنا على امرأة محصنة اسمها سراحة فجلدها يوم الخميس، ثم رجمها يوم الجمعة، وقال جلدتها بكتاب اللّه، ورجمتها بسنة رسول اللّه.. وهذا دليل على أن الأصل هو الجلد، وهو عام يشمل المحصن وغير المحصن حيث جاء الحكم مطلقا في قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ} وأما الرجم فهو استثناء، من الأصل، وهو مما جاءت به السنّة، في حق المحصنين في الحكم العام، وأن يجرى عليهما حكم الآية المحكمة، ثم يأخذهما بالاستثناء الذي جاءت به السنة.. وهو الرجم.. واللّه أعلم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)}.
يجوز أن يكون {سورة} خبرًا عن مبتدأ مقدر دل عليه ابتداء السورة، فيقدر: هذه سورة.
واسم الإشارة المقدر يشير إلى حاضر في السمع وهو الكلام المتتالي، فكل ما ينزل من هذه السورة وألحق بها من الآيات فهو من المشار إليه باسم الإشارة المقدر.
وهذه الإشارة مستعملة في الكلام كثيرًا.
ويجوز أن تكون {سورة} مبتدأ ويكون قوله: {الزانية والزاني} [النور: 2] إلى آخر السورة خبرًا عن {سورة} ويكون الابتداء بكلمة {سورة} ثم أجري عليه من الصفات تشويقًا إلى ما يأتي بعده مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كلمتان حبيبتان إلى الرحمان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم».
وأحسن وجوه التقدير ما كان منساقًا إليه ذهن السامع دون كلفة، فدع عنك التقادير الأخرى التي جوزوها هنا.
ومعنى {سورة} جزء من القرآن معين بمبدأ ونهاية وعدد آيات.
وتقدم بيانه في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير.
وجملة: {أنزلناها} وما عطف عليها في موضع الصفة ل {سورة}.
والمقصود من تلك الأوصاف التنويه بهذه السورة ليقبل المسلمون بشراشرهم على تلقي ما فيها.
وفي ذلك امتنان على الأمة بتحديد أحكام سيرتها في أحوالها.
ففي قوله: {أنزلناها} تنويه بالسورة بما يدل عليه أنزلنا من الإسناد إلى ضمير الجلالة الدال على العناية بها وتشريفها.
وعبر بأنزلنا عن ابتداء إنزال آياتها بعد أن قدرها الله بعلمه بكلامه النفسي.
فالمقصود من إسناد إنزالها إلى الله تعالى تنويه بها.
وعبر عن إنزالها بصيغة المضي وإنما هو واقع في الحال باعتبار إرادة إنزالها، فكأنه قيل: أردنا إنزالها وإبلاغها، فجعل ذلك الاعتناء كالماضي حرصًا عليه.
وهذا من استعمال الفعل في معنى إرادة وقوعه كقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6] الآية.
والقرينة قوله: {وفرضناها} ومعنى {فرضناها} عند المفسرين: أوجبنا العمل بما فيها.
وإنما يليق هذا التفسير بالنظر إلى معظم هذه السورة لا إلى جميعها فإن منها ما لا يتعلق به عمل كقوله: {الله نور السماوات والأرض} [النور: 35] الآيات وقوله: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة} [النور: 39].
فالذي أختاره أن يكون الفرض هنا بمعنى التعيين والتقدير كقوله تعالى: {نصيبًا مفروضًا} [النساء: 7] وقوله: {ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له} [الأحزاب: 38].
وتعدية فعل فرضنا إلى ضمير السورة من قبيل ما يعبر عنه في مسائل أصول الفقه من إضافة الأحكام إلى الأعيان بإرادة أحوالها، مثل {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3]، أي أكلها.
فالمعنى: وفرضنا آياتها.
وسنذكر قريبًا ما يزيد هذا بيانًا عند قوله تعالى: {ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات} [النور: 34] وكيف قوبلت الصفات الثلاث المذكورة هنا بالصفات الثلاث المذكورة هنالك.
وقرأ الجمهور: {وفرضناها} بتخفيف الراء بصيغة الفعل المجرد.
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو {وفرّضناها} بتشديد الراء للمبالغة مثل نزّل المشدّد.
ونقل في حواشي الكشاف عن الزمخشري قوله:
كأنه عامل في دين سؤدده ** بسورة أنزلت فيه وفُرّضَتِ

وهذان الحكمان وهما الإنزال والفرض ثبتا لجميع السورة.
وأما قوله: {أنزلنا فيها آيات بينات} فهو تنويه آخر بهذه السورة تنويه بكل آية اشتملت عليها السورة: من الهدى إلى التوحيد، وحقية الإسلام، ومن حجج وتمثيل، وما في دلائل صنع الله على سعة قدرته وعلمه وحكمته، وهي ما أشار إليه قوله: {ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلًا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين} [النور: 34] وقوله: {ألم تر أن الله يزجي سحابًا} إلى قوله: {صراط مستقيم} [النور: 43 46].
ومن الآيات البينات التي أنزلت فيها إطلاع الله رسوله على دخائل المنافقين مما كتموه في نفوسهم من قوله: {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون} إلى قوله: {إن الله خبير بما تعلمون} [النور: 48 53] فحصل التنويه بمجموع السورة ابتداء والتنويه بكل جزء منها ثانيًا.
فالآيات جمع آية وهي قطعة من الكلام القرآني دالة على معنى مستقل وتقدم بيانها في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير.
فالمراد من الآيات المنزلة في هذه السورة جميع ما اشتملت عليه من الآيات لا آيات مخصوصة من بينها.
والمقصود التنويه بآياتها بإجراء وصف {بينات} عليها.
وإذا كانت الآيات التي اشتملت السورة على جميعها هي عين السورة لا بعضًا منها إذ ليس ثم شيء غير تلك الآيات حاوٍ لتلك الآيات حقيقة ولا مشبه بما يحوي، فكان حرف في الموضوع للظرفية مستعملًا في غير ما وضع له لا حقيقة ولا استعارة مصرحة.
فتعين أن كلمة {فيها} تؤذن باستعارة مكنية بتشبيه آيات هذه السورة بأعلاق نفسية تكتنز ويحرص على حفظها من الإضاعة والتلاشي كأنها مما يجعل في خزانة ونحوها.