فصل: فصل: وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَا بِامْرَأَةٍ فَجَحَدَتِ الْمَرْأَةُ الزِّنَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ دُونَهَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل: وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَا بِامْرَأَةٍ فَجَحَدَتِ الْمَرْأَةُ الزِّنَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ دُونَهَا:

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِعْلَ الرَّجُلِ مَعَ فِعْلِ الْمَرْأَةِ وَطْءٌ وَاحِدٌ، فَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ فِي جَنَبَتِهَا بِالْجُحُودِ سَقَطَ فِي جَنَبَتِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ لِعَدَمِ الْكَمَالِ: لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ إِلَّا فِي زِنًا كَامِلٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الزِّنَا بِجُحُودِهَا وَإِقْرَارِهِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ وُجُودٍ وَعَدَمٍ، فَصَارَ شُبْهَةٌ فِيهِ، فَوَجَبَ إِسْقَاطُ الْحَدِّ بِهِ. وَدَلِيلُنَا: أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا أَقَرَّ بِالزِّنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، قَالَ: الْآنَ أَقْرَرْتُ أَرْبَعًا. فَبِمَنْ قَالَ: بِفُلَانَةٍ. فَلَمْ يَبْعَثْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا وَلَمْ يَسْأَلْهَا. وَلَوْ كَانَ إِقْرَارُهَا شَرْطًا فِي وُجُوبِ حَدِّهِ وَإِنْكَارُهَا مُوجِبًا لِسُقُوطِهِ، لَكَفَّ عَنْ رَجْمِهِ إِلَّا بَعْدَ سُؤَالِهَا. وَرَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ أَنَّ رَجُلًا أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَا بِامْرَأَةٍ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا فَجَحَدَتْ، فَحُدَّ الرَّجُلُ. وَهَذَا نَصٌّ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا حَدَّهُ لِلْقَذْفِ. قِيلَ: حَدُّ الْقَذْفِ لَهَا لَا يَسْتَحِقُّ إِلَّا بِمُطَالَبَتِهَا، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهَا طَالَبَتْ، فَصَارَ مَحْمُولًا عَلَى حَدِّ الزِّنَا دُونَ الْقَذْفِ. وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي جُحُودِهَا أَكْثَرُ مِنْ عَدَمِ إِقْرَارِهَا بِالزِّنَا، وَهَذَا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَدِّ عَنْهُ، كَالسُّكُوتِ إِذَا لَمْ يَجْحَدْ وَلَمْ تُقِرَّ. وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَمْنَعْ سُكُوتُهُ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى غَيْرِهِ، لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ جُحُودُهُ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِهَا. وَلِأَنَّ جُحُودَهَا لَوْ كَانَ مُسْقِطًا لِلْحَدِّ عَنْهُ، لَوَجَبَ إِذَا كَانَتْ غَائِبَةً أَلَّا يَحُدَّ حَتَّى تَحْضُرَ: لِجَوَازِ أَنْ تَجْحَدَ فَيَسْقُطَ الْحَدُّ عَنْهُ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَعْجِيلِ حَدِّهِ قَبْلَ قُدُومِهَا وَسُؤَالِهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِقْرَارَهَا وَجُحُودَهَا سَوَاءٌ فِي حَقِّهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ: بِأَنَّهُ وَطْءٌ وَاحِدٌ: فَهُوَ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ وَطْئًا وَاحِدًا فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمُهُ فِي جَنَبَةِ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ سَقَطَ فِي جَنَبَةِ الْآخَرِ، كَمَا لَوْ كَانَ عَاقِلًا، وَهِيَ مَجْنُونَةٌ أَوْ كَبِيرًا وَهِيَ صَغِيرَةٌ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ أَنَّ سُقُوطَهُ فِي جَنَبَةِ أَحَدِهِمَا شُبْهَةٌ فَهُوَ: أَنَّهَا شُبْهَةٌ فِي حَقِّهَا دُونَ حَقِّهِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَدِّ عَنْهُ، كَمَا لَوْ أَكْرَهَهَا عَلَى الزِّنَا لَمْ يَكُنْ سُقُوطُ الْحَدِّ عَنْهَا مُوجِبًا لِسُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهُ. وَبَنَى أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: إِذَا زَنَا النَّاطِقُ بِخَرْسَاءَ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهَا: لِأَنَّهُ لَا يَجْعَلُ إِشَارَتَهَا بِالزِّنَا إِقْرَارًا، فَتَصِيرُ كَالْجَاحِدَةِ. وَعِنْدَنَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا إِنْ أَشَارَتْ بِالْإِقْرَارِ، وَكَذَلِكَ الْأَخْرَسُ إِذَا أَشَارَ بِالْإِقْرَارِ بِالزِّنَا حُدَّ. وَقَدْ مَضَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ، ثُمَّ يُقَالُ لِأَبِي حَنِيفَةَ: لَيْسَ فِي خَرَسِهَا أَكْثَرُ مِنْ سُكُوتِهَا، وَسُكُوتُهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، كَذَلِكَ خَرَسُهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمَتَى رَجَعَ تُرِكَ، وَقَعَ بِهِ بَعْضُ الْحَدِّ أَوْ لَمْ يَقَعْ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا رَجَعَ الْمُقِرُّ بِالزِّنَا عَنْ إِقْرَارِهِ، قُبِلَ رُجُوعُهُ وَسَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ، سَوَاءٌ وَقَعَ بِهِ بَعْضُ الْحَدِّ أَوْ لَمْ يَقَعْ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمَالِكٌ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: لَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ، سَوَاءً وَقَعَ بِهِ الْحَدُّ أَوْ لَمْ يَقَعْ. وَقَالَ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ: يُقْبَلُ رُجُوعُهُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي حَدِّهِ، وَلَا يُقْبَلُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ، فَإِنَهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِ فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا تَأْثِيرَ لِلرُّجُوعِ بَعْدَ إِبْدَاءِ الصَّفْحَةِ. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِرُجُوعِهِ قِيَاسًا عَلَى حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبَهَاتِ وَرُجُوعُهُ شُبْهَةٌ: لِاحْتِمَالِ صِدْقِهِ. وَلِأَنَّ مَاعِزًا لَمَّا هَرَبَ مِنْ حَرِّ الْأَحْجَارِ وَتَبَعُوهُ حَتَّى قَتَلُوهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ لَعَلَّهُ أَنْ يَتُوبَ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ». فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِرُجُوعِهِ تَأْثِيرٌ لَمْ يُنْدَبْ إِلَى تَرْكِهِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِرَجْمِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَقَرَّ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالزِّنَا ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، فَتَرَكَهُ وَقَالَ: لَأَنْ أَتْرُكُ حَدًّا بِالشُّبْهَةِ أَوْلَى مِنْ أَنْ أُقِيمَ حَدًّا بِالشُّبْهَةِ. وَوَافَقَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مِثْلِ هَذَا، وَلَيْسَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، فَكَانَ إِجْمَاعًا. وَلِأَنَّهُ حَدٌّ لِلَّهِ تَعَالَى ثَبَتَ بِقَوْلِهِ، فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ بِرُجُوعِهِ كَالرِّدَّةِ، وَلِأَنَّ مَا ثَبَتَ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْقَوْلِ يَجِبُ أَنْ يَسْقُطَ بِالْقَوْلِ قِيَاسًا عَلَى رُجُوعِ الشُّهُودِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فِي إِبْدَاءِ الصَّفْحَةِ: فَالرَّاجِعُ غَيْرُ مُبْدٍ لِصَفْحَتِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُبْدِئًا إِذَا قَامَ عَلَى إِقْرَارِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ: فَمِنْ وَجْهَيْنِ: هُمَا فَرْقٌ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْجَمْعِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى تُدْرَأُ بِالشُّبَهَاتِ وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ لَا تُدْرَأُ بِهَا.
وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ عَلَيْهِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ أَنْ يُقِرَّ بِهَا، وَكَذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ فِيهَا، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا التَّوْبَةُ مِنْهَا، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إِلَى أَنْ لَا يُقِرَّ بِهَا، فَلِذَلِكَ قُبِلَ رُجُوعُهُ فِيهَا. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنِ ابْنِ هَزَّالٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: وَيْحَكَ يَا هَزَّالُ، لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ كَانَ خَيْرًا لَكَ.

.فصل بيان أقسام الحدود:

فصل: فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَالْحُدُودُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةِ.
وَالثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمَحْضَةِ.
وَالثَّالِثُ: مَا كَانَ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ. فَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةُ: فَحَدُّ الزِّنَا، وَقَتْلُ الرِّدَّةِ، وَحَدُّ شُرْبِ الْخَمْرِ، فَإِذَا وَجَبَتْ بِالْإِقْرَارِ، سَقَطَتْ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ. وَلَوْ وَجَبَتْ بِالشَّهَادَةِ، لَمْ تَسْقُطْ بِرُجُوعِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَسَقَطَتْ بِرُجُوعِ الشُّهُودِ. فَإِنِ اجْتَمَعَ فِيهَا الْإِقْرَارُ بِهَا وَالشَّهَادَةُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ تَخْتَصُّ إِقَامَتُهَا بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالشَّهَادَةِ؟ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَخْتَصُّ إِقَامَةُ الْحَدِّ فِيهَا بِالشَّهَادَةِ دُونَ الْإِقْرَارِ: لِأَنَّهَا أَغْلَظُ. فَعَلَى هَذَا: إِنْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَخْتَصُّ إِقَامَتُهَا بِالْإِقْرَارِ دُونَ الشَّهَادَةِ: لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مَعَ الِاعْتِرَافِ مُطَّرَحَةٌ. فَعَلَى هَذَا: لَوْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ، وَالْأَصَحُّ مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ عِنْدِي أَنْ يُنْظَرَ فِي اجْتِمَاعِهِمَا، فَإِنْ تَقَدَّمَ الْإِقْرَارُ عَلَى الشَّهَادَةِ كَانَ وُجُوبُ الْحَدِّ بِالْإِقْرَارِ وَسَقَطَ بِالرُّجُوعِ، وَإِنْ تَقَدَّمَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى الْإِقْرَارِ كَانَ وُجُوبُ الْحَدِّ بِالشَّهَادَةِ وَلَمْ يَسْقُطْ بِالرُّجُوعِ: لِأَنَّ وُجُوبَهُ مَا سَبَقَهَا فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ مَا تُعْقِبُهُ، وَعَلَى الْوُجُوهِ كُلِّهَا لَا يُسْقِطُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَذَّبَ الشُّهُودَ حُدَّ بِشَهَادَتِهِمْ، وَإِنْ صَدَّقَهُمْ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ، فَلَمْ يُحَدُّ بِشَهَادَتِهِمْ وَلَا بِإِقْرَارِهِ، قَالَ: لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى مُقِرٍّ فَسَقَطَتْ، وَالْإِقْرَارُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ حَتَّى يَتَكَرَّرَ أَرْبَعًا. وَهَذَا مِمَّا يَدْفَعُهُ الْمَعْقُولُ أَنْ يَجِبَ الْحَدُّ عَلَى مُنْكَرٍ وَيَسْقُطَ عَنْ مُقِرٍّ، وَإِنْ بَنَاهُ عَلَى أَصْلٍ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ أَصْلِهِ. وَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ الْمَحْضَةُ: فَالْقِصَاصُ، وَحَدُّ الْقَذْفِ، فَإِذَا وَجَبَ بِالْإِقْرَارِ لَمْ يَسْقُطْ بِالرُّجُوعِ- لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ بَيْنَهُمَا- إِلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ فَيَسْقُطَ بِالتَّصْدِيقِ، دُونَ الرُّجُوعِ. وَأَمَّا الْحُقُوقُ الْمُشْتَرَكَةُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ اللَّهِ وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ: فَهِيَ السَّرِقَةُ، يَجِبُ فِيهَا الْقَطْعُ وَهُوَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الْمَحْضَةِ، وَغُرْمُ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ وَهُوَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمَحْضَةِ. فَإِذَا أَوْجَبَ بِالْإِقْرَارِ لَمْ يَسْقُطِ الْغُرْمُ بِالرُّجُوعِ: لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. وَفِي سُقُوطِ الْقَطْعِ بِالرُّجُوعِ وَجْهَان:
أحدهما: يَسْقُطُ: لِاخْتِصَاصِهِ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالثَّانِي: لَا يَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ: لِاقْتِرَانِهِ بِمَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الرُّجُوعُ.
فصل الْأَلْفَاظُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي رُجُوعِ الْمُقِرِّ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا:
فَأَمَّا مَا يَكُونُ بِهِ رَاجِعًا فِي إِقْرَارِهِ فَهُوَ الْقَوْلُ، وَذَلِكَ بِإِحْدَى ثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ: إِمَّا أَنْ يَقُولَ: كَذَبْتُ فِي إِقْرَارِي. أَوْ يَقُولُ: لَمْ أَزْنِ. أَوْ يَقُولُ: قَدْ رَجَعْتُ عَنْ إِقْرَارِي. فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ يَكُونُ رُجُوعًا صَرِيحًا، فَإِنْ قَالَ: لَا تَحُدُّونِي. لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا صَرِيحًا: لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْعَفْوَ أَوِ الْإِنْظَارَ، وَلَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ وَلَا الْإِنْظَارُ لَهُ، إِلَّا لِعُذْرٍ يُنْظَرُ لِأَجَلِهِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ جِنَّةٍ أَوْ قَضَاءِ دَيْنٍ، فَيُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ الْكَفِّ عَنْهُ، فَإِذَا بَيَّنَ عَنْ مُرَادِهِ عُمِلَ عَلَيْهِ وَحُكِمَ بِمُوجِبِهِ. وَلَوْ قَالَ: لَا حَدَّ عَلَيَّ. كَانَ أَقْرَبَ إِلَى صَرِيحِ الرُّجُوعِ مَعَ احْتِمَالٍ فِيهِ، فَيُسْأَلُ عَنْهُ. فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِالرُّجُوعِ وَلَكِنَّ هَرَبَ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَقُومُ هَرَبُهُ مَقَامَ رُجُوعِهِ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَقُومُ مَقَامَهُ وَيَكُونُ رُجُوعًا: لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي مَاعِزٍ حِينَ هَرَبَ مِنَ الْأَحْجَارِ: «هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ، لَعَلَّهُ أَنْ يَتُوبَ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ».
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ رُجُوعًا لِاحْتِمَالِهِ، وَلَكِنْ يُسْأَلُ عَنْ هَرَبِهِ بَعْدَ الْإِمْسَاكِ عَنْهُ لِاحْتِمَالِهِ: لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَرَّمَ قَاتِلَ مَاعِزٍ بَعْدَ هَرَبِهِ دِيَتِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ مَا جَعَلْنَاهُ رُجُوعًا صَرِيحًا بَعْدَ الْإِقْرَارِ أَوْجَبْنَا بِهِ ضَمَانَ النَّفْسِ إِنْ قُتِلَ بَعْدَهُ، وَكُلُّ مَا لَمْ نَجْعَلْهُ رُجُوعًا صَرِيحًا لَمْ نُوجِبْ لَهُ بِهِ الضَّمَانَ.

.مسألة لَا يُقَامُ حَدُّ الْجَلْدِ عَلَى حُبْلَى وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ الْمُدْنَفِ وَلَا فِي يَوْمٍ حَرُّهُ أَوْ بَرْدُهُ مُفْرِطٌ:

مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا يُقَامُ حَدُّ الْجَلْدِ عَلَى حُبْلَى، وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ الْمُدْنَفِ، وَلَا فِي يَوْمٍ حَرُّهُ أَوْ بَرْدُهُ مُفْرِطٌ، وَلَا فِي أَسْبَابِ التَّلَفِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا أُخِّرَ مَعَ وُجُودِ الْأَسْبَابِ الْقَاتِلَةِ، وَهِيَ ضَرْبَان:
أحدهما: حَبَلٌ يَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ، وَمَرَضٌ يَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ. فَأَمَّا الْحَبَلُ: فَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْمَحْدُودَةُ حُبْلَى حَامِلًا بِوَلَدٍ، فَهُوَ مَانِعٌ مِنْ جَلْدِهَا كَمَا هُوَ مَانِعٌ مِنْ رَجْمِهَا، سَوَاءٌ كَانَ حَمْلُهَا مِنْ زِنًا أَوْ حَلَالٍ: لِأَنَّ جَلْدَ الْحَامِلِ مُفْضٍ إِلَى تَلَفِهَا، وَتَلَفِ حَمْلِهَا، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مَحْظُورٌ. وَلِأَنَّ عَلِيًّا قَالَ لِعُمَرَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَقَدْ أَمَرَ بِحَدِّ زَانِيَةٍ حَامِلٍ: إِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا. فَرَدَّهَا وَقَالَ: لَوْلَا عَلِيٌّ لَهَلَكَ عُمَرُ. فَإِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا وَهِيَ فِي نِفَاسِهَا، فَإِنْ أَمِنَ مِنْ تَلَفِهَا فِيهِ جُلِدَتْ، وَإِنْ خِيفَ مِنْ تَلَفِهَا فِيهِ أُمْهِلَتْ. وَرَوَى أَبُو جَمِيلَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: فَجَرَتْ جَارِيَةٌ لِآلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ لِي: يَا عَلِيُّ انْطَلِقْ فَأَقِمِ الْحَدَّ عَلَيْهَا. فَأَتَيْتُهَا فَوَجَدْتُهَا يَسِيلُ دَمُهَا لَا يَنْقَطِعُ، فَعُدْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي وَجَدْتُ دَمَهَا يَسِيلُ لَا يَنْقَطِعُ، فَقَالَ: دَعْهَا حَتَّى يَنْقَطِعَ دَمُهَا، ثُمَّ اجْلِدْهَا، وَأَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. وَأَمَّا الْمَرَضُ فَضَرْبَان:
أحدهما: مَا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ كَالسُّلِّ وَالْفَالِجِ، فَيَكُونُ فِي النِّضْوِ عَلَى مَا سَيَأْتِي.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَرْجُوَّ الزَّوَالِ كَالْحُمَّى وَالصُّدَاعِ، فَيُؤَخَّرَ الْمَحْدُودُ فِيهِ حَتَّى يَبْرَأَ مِنْ مَرَضِهِ: لِأَنَّ جَلْدَهُ فِي الْمَرَضِ الزاني غير المحصن مُفْضٍ إِلَى تَلَفِهِ. وَلَيْسَ يَخْلُو حَدُّهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ. إِمَّا أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّ الْأَصِحَّاءِ، أَوْ حَدُّ الْمَرْضَى، أَوْ يُؤَخَّرُ حَتَّى يَبْرَأَ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّ الْأَصِحَّاءِ: لِإِفْضَائِهِ إِلَى تَلَفِهِ.
وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّ الْمَرْضَى: لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّ الْأَصِحَّاءِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُؤَخَّرَ إِلَى صِحَّتِهِ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمُخْتَصُّ بِالزَّمَانِ فَهُوَ شَأْنُ إِفْرَاطِ الْحَرِّ وَإِفْرَاطِ الْبَرْدِ: لِأَنَّ الْجَلْدَ فِيهِمَا مُفْضٍ إِلَى التَّلَفِ. وَالْمَقْصُودُ بِالْجَلْدِ في الحدود الرَّدْعُ وَالزَّجْرُ دُونَ التَّلَفِ. فَيُؤَخَّرُ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ إِلَى اعْتِدَالِ الْهَوَاءِ، وَفِي شِدَّةِ الْبَرْدِ إِلَى اعْتِدَالِهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمَحْدُودُ فِي بِلَادِ الْحَرِّ الَّتِي لَا يَسْكُنُ حَرُّهَا، أَوْ فِي بِلَادِ الْبَرْدِ الَّتِي لَا يَقِلُّ بَرْدُهَا، لَمْ يُؤَخَّرْ حَدُّهُ وَلَمْ يُنْقَلْ إِلَى الْبِلَادِ الْمُعْتَدِلَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَأْخِيرِ الْحَدِّ وَلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ. وَقُوبِلَ إِفْرَاطُ الْحَرِّ وَإِفْرَاطُ الْبَرْدِ بِتَخْفِيفِ الضَّرْبِ حَتَّى يَسْلَمَ فِيهِ مِنَ الْقَتْلِ، كَمَا نَقُولُهُ فِي الْمَرَضِ الْمُلَازِمِ.
فصل: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا يُوجِبُ تَأْخِيرَ جَلْدِهِ فَلَمْ يُؤَخَّرْ وَجَلْدُهُ فِيهِ، فَإِنْ سَلِمَ مِنَ التَّلَفِ فَقَدْ أَسَاءَ فِيمَا فَعَلَ وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ صَدَرَ عَنْهُ تَلَفٌ فِيهِ ضَرْبَان:
أحدهما: أَنْ يَتْلَفَ غَيْرُ الْمَحْدُودِ كَالْحَامِلِ إِذَا جُلِدَتْ، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى مَنْ جَلَدَهَا، كَمَا قَدْ ضَمِنَ عُمَرُ جَنِينَ الْمَرْأَةِ حِينَ أَجْهَضَتْهُ مِنْ رَهْبَةِ رِسَالَتِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتْلَفَ الْمَحْدُودُ، فَفِي وُجُوبِ ضَمَانِهِ وَجْهَان:
أحدهما: يَضْمَنُ دِيَتَهُ: لِتَعَدِّيهِ بِالْوَقْتِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَضْمَنُ دِيَتَهُ: لِحُدُوثِهِ عَنْ جَلْدٍ مُسْتَحَقٍّ.
مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيُرْجَمُ الْمُحْصَنُ فِي كُلِّ ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً حُبْلَى فَتُتْرَكَ حَتَّى تَضَعَ وَيُكْفَلَ وَلَدُهَا. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُرْجَمَ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ: لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ غَامِدٍ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنِّي زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي. فَقَالَ: ارْجِعِي. فَرَجَعَتْ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَتْهُ، فَقَالَتْ: لَعَلَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزًا، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَحُبْلَى. فَقَالَ لَهَا: ارْجِعِي حَتَّى تَلِدِي. فَرَجَعَتْ، فَلَمَّا وَلَدَتْهُ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ. فَقَالَتْ: قَدْ وَلَدْتُهُ. فَقَالَ: «ارْجِعِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ»... وَفِي يَدِهِ شَيْءٌ يَأْكُلُ، فَأَمَرَ بِالصَّبِيِّ فَدُفِعَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ وَلِأَنَّ عَلِيًّا قَالَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ أَمَرَ بِرَجْمِ حَامِلٍ: إِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا فَرَدَّهَا، وَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ مِثْلَ ذَلِكَ، فَإِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا أَمْسَكَ عَنْهَا حَتَّى تُرْضِعَ وَلَدَهَا اللِّبَنَ الَّذِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ فِي حِفْظِ حَيَاتِهِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي مُرْضِعِ الْوَلَدِ بَعْدَ اللِّبَنِ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ ولد الزنا:
أَحَدُهَا: أَنْ يُوجَدَ وَيَتَعَيَّنَ، فَيُسَلَّمَ الْوَلَدُ إِلَى مُرْضِعَتِهِ وَتُرْجَمُ الْأُمُّ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُوجَدَ لِرِضَاعِهِ غَيْرُ الْأُمِّ، فَيُؤَخَّرُ رَجْمُهَا حَتَّى تُرْضِعَهُ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ثُمَّ تُرْجَمَ: لِأَنَّنَا لَمَّا حَفِظْنَا حَيَاتَهُ حَمْلًا، فَأَوْلَى أَنْ نَحْفَظَهَا وَلِيدًا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَعْلَمَ وُجُودَ الْمُرْضِعِ وَلَكِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ، فَفِي جَوَازِ رَجْمِهَا قَبْلَ تَعْيِينِهِ وَدَفْعِهِ إِلَى الْمُرْضِعِ وَجْهَان:
أحدهما: يَجُوزُ رَجْمُهَا: لِأَنَّ الْمُرْضِعَ مَوْجُودٌ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ حَتَّى يُسَلَّمَ إِلَى الْمُرْضِعِ ثُمَّ تُرْجَمَ. فَأَمَّا غَيْرُ الْحَامِلِ مِنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ إِذَا كَانُوا مَرْضَى، أَوْ فِي حَرٍّ مُفْرِطٍ، أَوْ بَرْدٍ مُفْرِطٍ، فَفِي تَعْجِيلِ رَجْمِهِمْ مَعَ بَقَاءِ الْمَرَضِ غَيْرُ الْحَامِلِ مِنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ وَفَرْطِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ. أَحَدُهَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنْ يُعَجَّلَ الرَّجْمُ وَلَا يُؤَخَّرَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْقَتْلُ بِخِلَافِ الْمَجْلُودِ، وَسَوَاءٌ رُجِمَ بِإِقْرَارٍ أَوْ شَهَادَةٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُؤَخِّرُ رَجْمُهُ، وَلَا يُعَجَّلُ حَتَّى يَبْرَأَ مِنْ مَرَضِهِ وَيَعْتَدِلَ الْحَرُّ وَالْبَرْدُ، سَوَاءٌ رُجِمَ بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ: لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ إِقْرَارِهِ، وَيَرْجِعَ الشُّهُودُ فِي الشَّهَادَةِ، فَلَا تَعْجِيلَ فِي زَمَانِ التَّوَجُّهِ حَتَّى يُمْكِنَ اسْتِدْرَاكُ مَا يَمْنَعُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُؤَخَّرَ إِنْ رُجِمَ بِالْإِقْرَارِ وَلَا يُؤَخَّرَ إِنْ رُجِمَ بِالشَّهَادَةِ: لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الْمُقِرِّ رُجُوعُهُ: لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَى الرُّجُوعِ، وَالظَّاهِرُ مِنَ الشُّهُودِ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ: لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَنْدُوبِينَ إِلَى الرُّجُوعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.