فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وحكاه الخطابيّ عن ابن عباس، وأن معناه الوطء؛ أي لا يكون زِنًى إلا بزانية، ويفيد أنه زنًى في الجهتين؛ فهذا قول.
الثاني: ما رواه أبو داود والتّرمذِيّ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أن مَرْثد بن أبي مرثد كان يحمل الأسارى بمكة، وكان بمكة بَغِيّ يقال لها عَناق وكانت صديقته، قال: فجئت النبيّ صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أنكِح عَناق؟ قال: فسكت عني؛ فنزلت {والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ}؛ فدعاني فقرأها عليّ وقال: «لا تنكحها».
لفظ أبي داود، وحديث الترمذي أكمل.
قال الخطابيّ: هذا خاص بهذه المرأة إذ كانت كافرة، فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها لا يفسخ.
الثالث: أنها مخصوصة في رجل من المسلمين أيضًا استأذن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في نكاح امرأة يقال لها أم مهزول وكانت من بغايا الزانيات، وشرطت أن تنفق عليه؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية؛ قاله عمرو بن العاص ومجاهد.
الرابع: أنها نزلت في أهل الصُّفّة، وكانوا قومًا من المهاجرين، ولم يكن لهم في المدينة مساكن ولا عشائر فنزلوا صُفّة المسجد، وكانوا أربعمائة رجل يلتمسون الرزق بالنهار ويأوون إلى الصّفة بالليل، وكان بالمدينة بغايا متعالنات بالفجور، مخاصيب بالكُسْوة والطعام؛ فهمّ أهل الصفة أن يتزوّجوهنّ فيأووا إلى مساكنهنّ ويأكلوا من طعامهنّ وكسوتهنّ؛ فنزلت هذه الآية صيانةً لهم عن ذلك؛ قاله ابن أبي صالح.
الخامس: ذكره الزجاج وغيره عن الحسن، وذلك أنه قال: المراد الزاني المحدودُ والزانيةُ المحدودة، قال: وهذا حكم من الله، فلا يجوز لزان محدود أن يتزوّج إلا محدودة.
وقال إبراهيم النَّخَعِيّ نحوه.
وفي مصنَّف أبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينكح الزاني المحدودُ إلا مثله» وروي أن محدودًا تزوّج غير محدودة ففرّق عليّ رضي الله عنه بينهما.
قال ابن العربي: وهذا معنًى لا يصح نظرًا كما لم يثبت نقلًا، وهل يصح أن يوقف نكاح من حُدّ من الرجال على نكاح من حُدّ من النساء! فبأيّ أثر يكون ذلك، وعلى أيّ أصل يقاس من الشريعة!
قلت: وحكى هذا القول الكِيَا عن بعض أصحاب الشافعي المتأخرين، وأن الزاني إذا تزوج غير زانية فُرّق بينهما لظاهر الآية.
قال الكِيَا: وإنْ هو عمل بالظاهر فيلزمه عليه أن يجوّز للزاني التزوّج بالمشركة، ويجوّز للزانية أن تزوّج نفسها من مشرك؛ وهذا في غاية البعد، وهو خروج عن الإسلام بالكلية، وربما قال هؤلاء: إن الآية منسوخة في المشرك خاصّةً دون الزانية.
السادس: أنها منسوخة؛ روى مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيّب قال: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} قال: نسخت هذه الآية التي بعدها {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} [النور: 32]؛ وقاله ابن عمرو، قال: دخلت الزانية في أيامَى المسلمين.
قال أبو جعفر النحاس: وهذا القول عليه أكثر العلماء.
وأهل الفُتْيا يقولون: إنّ من زنى بامرأة فله أن يتزوجها ولغيره أن يتزوّجها.
وهو قول ابن عمر وسالم وجابر بن زيد وعطاء وطاوس ومالك بن أنس، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
وقال الشافعيّ: القول فيها كما قال سعيد بن المسيّب، إن شاء الله هي منسوخة.
قال ابن عطية: وذِكْر الإشراك في هذه الآية يضعف هذه المناحي.
قال ابن العربيّ: والذي عندي أن النكاح لا يخلو أن يراد به الوطء كما قال ابن عباس أو العقد؛ فإن أريد به الوطء فإن معناه: لا يكون زنًى إلا بزانية، وذلك عبارة عن أن الوطأين من الرجل والمرأة من الجهتين؛ ويكون تقدير الآية: وطءُ الزانية لا يقع إلا من زان أو مشرك؛ وهذا يؤثر عن ابن عباس، وهو معنى صحيح.
فإن قيل: فإن زنى بالغٌ بصبية، أو عاقلٌ بمجنونة، أو مستيقظٌ بنائمة فإن ذلك من جهة الرجل زنًى؛ فهذا زانٍ نكح غير زانية، فيخرج المراد عن بابه الذي تقدم.
قلنا: هو زنًى من كل جهة، إلا أن أحدهما سقط فيه الحدّ والآخر ثبت فيه.
وإن أريد به العقد كان معناه: أن متزوّج الزانية التي قد زنت ودخل بها ولم يستبرئها يكون بمنزلة الزاني، إلا أنه لا حدّ عليه لاختلاف العلماء في ذلك.
وأما إذا عقد عليها ولم يدخل بها حتى يستبرئها فذلك جائز إجماعًا.
وقيل: ليس المراد في الآية أن الزاني لا ينكح قطّ إلا زانية؛ إذ قد يتصوّر أن يتزوّج غير زانية، ولكن المعنى أن من تزوج بزانية فهو زان؛ فكأنه قال: لا ينكح الزانيةَ إلا زانٍ؛ فقلَب الكلام، وذلك أنه لا ينكح الزانية إلا وهو راض بزناها، وإنما يرضى بذلك إذا كان هو أيضًا يزني.
الثانية: في هذه الآية دليل على أن التزوج بالزانية صحيح.
وإذا زنت زوجة الرجل لم يفسد النكاح، وإذا زنى الزوج لم يفسد نكاحه مع زوجته؛ وهذا على أن الآية منسوخة.
وقيل إنها محكمة.
وسيأتي.
الثالثة: روي أن رجلًا زنى بامرأة في زمن أبي بكر رضي الله عنه فجلدهما مائة جلدة، ثم زوّج أحدَهما من الآخر مكانه، ونفاهما سنة.
وروي مثل ذلك عن معمر وابن مسعود وجابر رضي الله عنهم.
وقال ابن عباس: أوله سفاح وآخره نكاح.
ومَثَلُ ذلك مَثَلُ رجل سَرَق من حائط ثمره ثم أتى صاحب البستان فاشترى منه ثمره؛ فما سَرَق حرام وما اشترى حلال.
وبهذا أخذ الشافعيّ وأبو حنيفة، ورأوا أن الماء لا حرمة له.
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: إذا زنى الرجل بالمرأة ثم نكحها بعد ذلك فهما زانيان أبدًا.
وبهذا أخذ مالك رضي الله عنه؛ فرأى أنه لا ينكحها حتى يستبرئها من مائه الفاسد؛ لأن النكاح له حرمة، ومن حرمته ألا يُصَبّ على ماء السِّفاح؛ فيختلط الحرام بالحلال، ويمتزج ماء المهانة بماء العزّة.
الرابعة: قال ابن خُوَيْزِمَنْداد: من كان معروفًا بالزنى أو بغيره من الفسوق مُعْلِنًا به فتزوّج إلى أهل بيت ستر وغَرّهم من نفسه فلهم الخيار في البقاء معه أو فراقه؛ وذلك كعَيْب من العيوب، واحتج بقوله عليه السلام: «لا ينكح الزاني المجلودُ إلا مثله» قال ابن خُوَيْزمنداد: وإنما ذكر المجلود لاشتهاره بالفسق، وهو الذي يجب أن يفرّق بينه وبين غيره؛ فأما من لم يشتهر بالفسق فلا.
الخامسة: قال قوم من المتقدمين: الآية محكمة غير منسوخة، وعند هؤلاء: من زنى فسد النكاح بينه وبين زوجته، وإذا زنت الزوجة فسد النكاح بينها وبين زوجها.
وقال قوم من هؤلاء: لا ينفسخ النكاح بذلك، ولكن يؤمر الرجل بطلاقها إذا زنت، ولو أمسكها أثِم، ولا يجوز التزوّج بالزانية ولا من الزاني، بل لو ظهرت التوبة فحينئذٍ يجوز النكاح.
السادسة: {وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين} أي نكاح أولئك البغايا؛ فيزعم بعض أهل التأويل أن نكاح أولئك البغايا حرّمه الله تعالى على أمة محمد عليه السلام، ومن أشهرهن عَناق.
السابعة: حرم الله تعالى الزنى في كتابه؛ فحيثما زنى الرجل فعليه الحدّ.
وهذا قول مالك والشافعيّ وأبي ثَوْر.
وقال أصحاب الرأي في الرجل المسلم إذا كان في دار الحرب بأمان وزنى هنالك ثم خرج لم يحدّ.
قال ابن المنذر: دار الحرب ودار الإسلام سواء، ومن زنى فعليه الحد؛ على ظاهر قوله: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ}. اهـ.

.قال أبو حيان:

{الزاني لا ينكح إلاّ زانية أو مشركة}.
الظاهر أنه خبر قصد به تشنيع الزنا وأمره، ومعنى {لا ينكح} لا يطأ وزاد {المشركة} في التقسيم، فالمعنى أن الزاني في وقت زناه لا يجامع إلاّ زانية من المسلمين أو أخس منها وهي المشركة، والنكاح بمعنى الجماع مروي عن ابن عباس هنا.
وقال الزمخشري: وقيل المراد بالنكاح الوطء وليس بقول لأمرين.
أحدهما: أن هذه الكلمة أينما وردت في القرآن لم يرد بها إلاّ معنى العقد.
والثاني: فساد المعنى وأداؤه إلى قولك الزاني لا يزني إلاّ بزانية، والزانية لا تزني إلا بزان انتهى.
وما ذكره من الأمر الأول أخذه من الزجاج قال: لا يعرف النكاح في كتاب الله إلا بمعنى التزويج وليس كما قال، وفي القرآن حتى تنكح زوجًا غيره، وبيِّن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه بمعنى الوطء.
وأما الأمر الثاني فالمقصود به تشنيع الزنا وتشنيع أمره وأنه محرم على المؤمنين.
وقال الزمخشري: وأخذه من الضحاك وحسنه الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا، والخبث لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء اللاتي على خلاف صفته، وإنما يرغب في فاسقه خبيثة من شكله، أو في مشركة.
والفاسقة الخبيثة المسافحة كذلك لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وينفرون عنها، وإنما يرغب فيها من هو من شكلها من الفسقة والمشركين، ونكاح المؤمن الممدوح عند الله الزانية ورغبته فيها وانخراطه بذلك في سلك الفسقة المتسمين بالزنا محرم محظور لما فيه من التشبه بالفساق، وحضور.
موقع التهمة والتسبب لسوء القالة فيه والغيبة وأنواع المفاسد ومجالسة الخطائين، كم فيها من التعرض لاقتراف الآثام فكيف بمزاوجة الزواني والقحاب وإقدامه على ذلك انتهى.
وعن ابن عمر وابن عباس وأصحابه أنها في قوم مخصوصين كانوا يزنون في جاهليتهم ببغايا مشهورات، فلما جاء الإسلام وأسلموا لم يمكنهم الزنا فأرادوا لفقرهم زواج أولئك النسوة إذ كن من عادتهن الإنفاق على من ارتسم بزواجهن، فنزلت الآية بسببهن والإشارة بالزاني إلى أحد أولئك أطلق عليه اسم الزنا الذي كان في الجاهلية وقوله: {لا ينكح} أي لا يتزوج، وعلى هذين التأويلين فيه معنى التفجع عليهم وفيه توبيخ كأنه يقول: الزاني لا يريد أن يتزوج إلا زانية أو مشركة، أي تنزع نفوسهم إلى هذه الخسائس لقلة انضباطهم، ويرد على هذين التأويلين الإجماع على أن الزانية لا يجوز أن يتزوجها مشرك في قومه {وحرم ذلك على المؤمنين} أي نكاح أولئك البغايا، فيزعم أهل هذين التأويلين أن نكاحهن حرمه الله على أمّة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الحسن: المراد الزاني المحدود، والزانية المحدودة، قال: وهذا حكم من الله فلا يجوز لزان محدود أن يتزوج إلاّ زانية.
وقد روي أن محدودًا تزوج غير محدودة فردّ عليّ بن أبي طالب نكاحها.
{وحرم ذلك على المؤمنين} يريد الزنا.
وروى الزهراني في هذا حديثًا من طريق أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينكح الزاني المحدود إلاّ مثله» قال ابن عطية: وهذا حديث لا يصح، وقول فيه نظر، وإدخال المشرك في الآية يرده وألفاظ الآية تأباه وإن قدرت المشركة بمعنى الكتابية فلا حيلة في لفظ المشرك انتهى.
وقال ابن المسيب: هذا حكم كان في الزناة عام أن لا يتزوج زان إلاّ زانية، ثم جاءت الرخصة ونسخ ذلك بقوله.
{وأنكحوا الأيامى منكم} وقوله: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} وروي ترتيب هذا النسخ عن مجاهد إلاّ أنه قال: حرم نكاح أولئك البغايا على أولئك النفر.
قال ابن عطية: وذكر الإشراك في الآية يضعف هذه المناحي انتهى.
وعن الجبائي إنها منسوخة بالإجماع، وضعف بأنه ثبت في أصول الفقه أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به، وتلخص من هذه الأقوال أن النكاح إن أريد به الوطء فالآية وردت مبالغة في تشنيع الزنا، وإن أريد به التزويج فإما أن يراد به عموم في الزناة ثم نسخ، أو عموم في الفساق الخبيثين لا يرغبون إلاّ فيمن هو شكل لهم، والفواسق الخبائث لا يرغبن إلاّ فيمن هو شكل لهن، ولا يجوز التزويج على ما قرره الزمخشري، أو يراد به خصوص في قوم كانوا في الجاهلية زناة ببغايا فأرادوا تزويجهن لفقرهم وإيسارهن مع بقائهن على البغاء فلا يتزوج عفيفة، ولو زنا رجل بامرأة ثم أراد تزويجها فأجاز ذلك أبو بكر الصديق وابن عمر وابن عباس وجابر وطاوس وابن المسيب وجابر بن زيد وعطاء والحسن وعكرمة ومالك والثوري والشافعي، ومنعه ابن مسعود والبراء ابن عازب وعائشة وقالا: لا يزالان زانيين ما اجتمعا، ومن غريب النقل أنه لو تزوج معروف بالزنا أو بغيره من الفسوق ثبت الخيار في البقاء معه أو فراقه وهو عيب من العيوب التي يترتب الخيار عليها، وذهب قوم إلى أن الآية محكمة، وعندهم أن من زنى من الزوجين فسد النكاح بينهما.
وقال قوم منهم: لا ينفسخ ويؤمر بطلاقها إذا زنت، فإن أمسكها أثم.
قالوا: ولا يجوز التزويج بالزانية ولا من الزاني فإن ظهرت التوبة جاز.
وقال الزمخشري: فإن قلت: أي فرق بين معنى الجملة الأولى ومعنى الثانية؟ قلت: معنى الأولى صفة الزاني بكونه غير راغب في العفائف ولكن في الفواجر، ومعنى الثانية صفتها بكونها غير مرغوب فيها للأعّفاء ولكن للزناة، وهما معنيان مختلفان.
وعن عمرو بن عبيد {لا ينكح} بالجزم على النهي والمرفوع فيه معنى النهي ولكن هو أبلغ وآكد كما أن رحمك الله ويرحمك الله أبلغ من ليرحمك، ويجوز أن يكون خبرًا محضًا على معنى إن عادتهم جارية على ذلك، وعلى المؤمن أن لا يدخل نفسه تحت هذه العادة ويتصون عنها انتهى.
وقرأ أبو البر هثيم {وحرم} مبنيًا للفاعل أي الله، وزيد بن عليّ {وحَرُم} بضم الراء وفتح الحاء والجمهور {وحرّم} مشددًا مبنيًا للمفعول. اهـ.