فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وللفاضل سرى الدين المصري كلام طويل في ذلك، وما قيل: إنه حينئذ يكون كقوله تعالى: {الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ} [النور: 26] الخ فيحصل التكرار ستعلم إن شاء الله تعالى أنه لا يتم إلا في قول، وقيل: النكاح بمعنى التزوج والنفي بمعنى النهي وعبر به عنه للمبالغة، وأيد بقراءة عمرو بن عبيد {لاَ يَنكِحُ} بالجزم والتحريم على ظاهره.
قال ابن المسيب: وكان الحكم عاما في الزناة أن لا يتزوج أحدهم إلا زانية ثم جاءت الرخصة ونسخ ذلك بقوله تعالى: {وَأَنْكِحُواْ الايامى مِنْكُمْ} [النور: 32] وقوله سبحانه: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء} [النساء: 3] وروي القول بالنسخ عن مجاهد، وإلى ذلك ذهب الإمام الشافعي قالفي الأم: اختلف أهل التفسير في قوله تعالى: {الزانى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} الخ اختلافًا متباينًا، قيل: هي عامة ولكنها نسخت؛ أخبرنا سفيان عن يحيى عن سعيد بن المسيب أنه قال: هي منسوخة نسختها {وَأَنْكِحُواْ الايامى مِنْكُمْ} [النور: 32] فهي أي الزانية من أيامى المسلمين كما قال ابن المسيب إن شاء الله تعالى، ولنا دلائل من اكلتاب والسنة على فساد غير هذا القول وبسط الكلام، وقد نقل هذا عن الإمام الشافعي البقاعي ثم قال: إن الشافعي لم يرد أن هذا الحكم نسخ بآية الأيامي فقط بل مع ما انضم إليها من اجماع وغيره من الآيات والأحاديث بحيث صير ذلك دلالتها على ما تناولته متيقنًا كدلالة الخاص على ما تناوله فلا يقال: إنه خالف أصله في أن الخاص لا ينسخ بالعام بل العام المتأخر محمول على الخاص لأن ما تناوله الخاص متيقن وما تناوله العام مظنون اهـ.
والجبائي يزعم أن النسخ بالإجماع ولعله أراد أنه كاشف عن ناسخ وإلا فالإجماع لا يكون ناسخًا كما بين في علم الأصول، نعم في تحقق الإجماع هنا كلام.
واعترض هذا الوجه بأنه يلزم عليه حل نكاح المشرك للمسلمة، وأقول: إن نكاح الكافر للمسلمة كان حلالًا قبل الهجرة وبعدها إلى سنة الست وفيها بعد الحديبية نزلت آية التحريم كما صرح بذلك العلامة ابن حجر الهيتمي وغيره، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج بنته زينب رضي الله تعالى عنها لأبي العاص بن الربيع قبل البعثة وبعث عليه الصلاة والسلام ثم هاجر وهاجرت معه وهي في نكاح أبي العاص ولم يكن مؤمنًا إذ ذاك واستمر الأمر على ذلك إلى سنة الست فلما نزلت آية التحريم لم يلبث إلا يسيرًا حتى جاء وأظهر إسلامه رضي الله تعالى عنه فردها صلى الله عليه وسلم له بنكاحه الأول.
فيحتمل أن يكون النكاح المذكور حلالًا عند نزول الآية التي من فيها بأن يكون نزولها قبل سنة الست ثم نسخ، وفي هذه السورة آيات نصوا على أن نزولها كان قبل ذلك وهي قوله تعالى: {إِنَّ الذين جَاءوا بالإفك} [النور: 11] الخ قال: إنها نزلت عام غزوة بني المصطلق وكانت سنة خمسة لليلتين خلتا من شعبان فلعل هذه الآية من هذا القبيل بل في أثر رواه ابن أبي شيبة عن ابن جبير وذكره العراقي.
وابن حجر ما ظاهره أن هذه الآية مكية فإذا انضم هذا إلى ما روي عن ابن المسيب وقال به السافعي يكون فيها نسخان لكن لم أر من نبه على ذلك، وإذا صح كان هذا الوجه أقل من الأوجه السابقة مؤنة وكأني بك لا تفضل عليه غيره.
وذهب قوم إلى أن حرمة التزوج بالزانية أو من الزاني إن لم تظهر التوبة من الزنا باقية إلى الآن، وعندهم أنه إن زنى أحد الزوجين يفسد النكاح بينهما، وقال بعضهم: لا ينفسخ إلا أن الرجل يؤمر بطلاق زوجته إذا زنت فإن أمسكها أثم، وعند بعض من العلماء أن ازلنا عيب من العيوب التي يثبت بها الخبار فلو تزوجت برجل فبان لها أنه ممن يعرف بالزنا ثبت لها الخيار في البقاء معه أو فراقه، وعن الحسن أن حرمة نكاح الزاني للعفيفة إنما هي فيما إذا كان مجلودًا وكذا حرمة نكاح العفيف للزانية إنما هي إذا كانت مجلودة فالمجلود عنده لا يتزوج إلا مجلودة والمجلودة لا يتزوجها إلا مجلود وهو موافق لما في بعض الأخبار.
فقد أخرج أبو داود وابن المنذر وجماعة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله» وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر أن رجلًا تزوج امرأة ثم إنه زنى فأقيم عليه الحد فجاؤوا به إلى علي كرم الله تعالى وجهه ففرق بينه وبين امرأته وقال له: لا تتزوج إلا مجلودة مثلك، وعن ابن مسعود والبراء بن عازب أن من زنى يامرأة لا يجوز له أن يتزوجها أصلًا، وأبو بكر الصديق وابن عمر وابن عباس وجابر وجماعة من التابعين والأئمة على خلافه واستدل على ذلك بما أخرجه الطبراني والدارقطني من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل زنى بامرأة وأراد أن يتزوجها فقال: «الحرام لا يحرم الحلال» هذا ومن أضعف ما قيل في الآية: إنه يجوز أن يكون معناها ما في الحديث من أن من زنى تزني امرأته ومن زنت يزنى زوجها فتأمل جميع ذاك والله عز وجل يتولى هداك.
وقرى أبو البرهسم {وَحَرَّمَ} بالبناء للفاعل وهو الله تعالى، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما {وَحَرَّمَ} بفتح الحرم وضم الراء. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)}.
السورة في اللغة اسم للمنزلة الشريفة، ولذلك سميت السورة من القرآن سورة، ومنه قول النابغة:
ألم تر أن الله أعطاك سورة ** ترى كل ملك دونها يتذبذب

أي منزلة.
قرأ الجمهور {سورة} بالرفع وفيه وجهان:
أحدهما: أن تكون خبرًا لمبتدأ محذوف أي هذه سورة، ورجحه الزجاج، والفراء، والمبرد، قالوا: لأنها نكرة، ولا يبتدأ بالنكرة في كل موضع.
والوجه الثاني أن يكون مبتدأ وجاز الابتداء بالنكرة لكونها موصوفة بقوله: {أنزلناها} والخبر {الزانية والزاني} ويكون المعنى: السورة المنزلة المفروضة كذا وكذا، إذ السورة عبارة عن آيات مسرودة لها مبدأ ومختم، وهذا معنى صحيح، ولا وجه لما قاله الأولون من تعليل المنع من الابتداء بها كونها نكرة فهي نكرة مخصصة بالصفة، وهو مجمع على جواز الابتداء بها.
وقيل: هي مبتدأ محذوف الخبر على تقدير: فيما أوحينا إليك سورة، وردّ بأن مقتضى المقام ببيان شأن هذه السورة الكريمة، لابيان أن في جملة ما أوحي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم سورة شأنها كذا وكذا.
وقرأ الحسن بن عبد العزيز، وعيسى الثقفي، وعيسى الكوفي، ومجاهد، وأبو حيوة، وطلحة بن مصرف بالنصب، وفيه أوجه: الأوّل أنها منصوبة بفعل مقدّر غير مفسر بما بعده، تقديره اتل سورة، أو اقرأ سورة.
والثاني أنها منصوبة بفعل مضمر يفسره ما بعده على ما قيل في باب اشتغال الفعل عن الفاعل بضميره أي أنزلنا سورة أنزلناها، فلا محل ل {أنزلناها} هاهنا؛ لأنها جملة مفسرة، بخلاف الوجه الذي قبله، فإنها في محل نصب على أنها صفة لسورة.
الوجه الثالث: أنها منصوبة على الإغراء أي: دونك سورة، قاله صاحب الكشّاف.
ورده أبو حيان بأنه لا يجوز حذف أداة الإغراء.
الرابع: أنها منصوبة على الحال من ضمير {أنزلناها} قال الفراء: هي حال من الهاء، والألف، والحال من المكنى يجوز أن تتقدّم عليه، وعلى هذا فالضمير في {أنزلناها} ليس عائدًا على {سورة} بل على الأحكام، كأنه قيل: أنزلنا الأحكام حال كونها سورة من سور القرآن.
قرأ ابن كثير، وأبو عمرو {وفرّضناها} بالتشديد، وقرأ الباقون بالتخفيف.
قال أبو عمرو: {فرّضناها} بالتشديد أي: قطعناها في الإنزال نجمًا نجمًا، والفرض القطع، ويجوز أن يكون التشديد للتكثير، أو للمبالغة، ومعنى التخفيف: أوجبناها، وجعلناها مقطوعًا بها، وقيل: ألزمناكم العمل بها، وقيل: قدّرنا ما فيها من الحدود، والفرض: التقدير، ومنه {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرءان} [القصص: 85].
{وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَات} أي: أنزلنا في غضونها وتضاعيفها، ومعنى كونها بينات: أنها واضحة الدلالة على مدلولها، وتكرير {أنزلنا} لكمال العناية بإنزال هذه السورة، لما اشتملت عليه من الأحكام.
{الزانية والزاني}: هذا شروع في تفصيل ما أجمل من الآيات البينات، والارتفاع على الابتداء، والخبر: {فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا} أو على الخبرية لسورة كما تقدّم، والزنا هو: وطء الرجل للمرأة في فرجها من غير نكاح، ولا شبهة نكاح.
وقيل: هو إيلاج فرج في فرج مشتهىً طبعًا محرّم شرعًا، والزانية هي: المرأة المطاوعة للزنا الممكنة منه كما تنبىء عنه الصيغة لا المكرهة، وكذلك الزاني، ودخول الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط على مذهب الأخفش، وأما على مذهب سيبويه فالخبر محذوف، والتقدير: فيما يتلى عليكم حكم الزانية، ثم بين ذلك بقوله: {فاجلدوا} والجلد الضرب، يقال: جلده إذا ضرب جلده، مثل بطنه إذا ضرب بطنه، ورأسه إذا ضرب رأسه، وقوله: {مِاْئَةَ جَلْدَةٍ} هو حدّ الزاني الحر البالغ البكر، وكذلك الزانية، وثبت بالسنة زيادة على هذا الجلد، وهي: تغريب عام، وأما المملوك، والمملوكة، فجلد كلّ واحد منهما خمسون جلدة لقوله سبحانه: {فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} [النساء: 25] وهذا نص في الإماء، وألحق بهنّ العبيد لعدم الفارق، وأما من كان محصنًا من الأحرار، فعليه الرجم بالسنة الصحيحة المتواترة، وبإجماع أهل العلم، بل وبالقرآن المنسوخ لفظه الباقي حكمه وهو «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة».
وزاد جماعة من أهل العلم مع الرجم جلد مائة، وقد أوضحنا ما هو الحق في ذلك في شرحنا للمنتقى، وقد مضى الكلام في حدّ الزنا مستوفى، وهذه الآية ناسخة لآية الحبس وآية الأذى اللتين في سورة النساء.
وقرأ عيسى بن عمر الثقفي، ويحيى بن يعمر، وأبو جعفر، وأبو شيبة {الزانية والزاني} بالنصب.
وقيل: وهو القياس عند سيبويه؛ لأنه عنده كقولك: زيدًا اضرب.
وأما الفرّاء، والمبرّد، والزجاج، فالرفع عندهم أوجه وبه قرأ الجمهور.
ووجه تقديم الزانية على الزاني هاهنا أن الزنا في ذلك الزمان كان في النساء أكثر حتى كان لهنّ رايات تنصب على أبوابهنّ ليعرفهنّ من أراد الفاحشة منهنّ.
وقيل: وجه التقديم أن المرأة هي الأصل في الفعل، وقيل: لأن الشهوة فيها أكثر، وعليها أغلب، وقيل: لأن العار فيهنّ أكثر إذ موضوعهنّ الحجبة، والصيانة، فقدّم ذكر الزانية تغليظًا، واهتمامًا.
والخطاب في هذه الآية للأئمة ومن قام مقامهم، وقيل: للمسلمين أجمعين، لأن إقامة الحدود واجبة عليهم جميعًا، والإمام ينوب عنهم، إذ لا يمكنهم الاجتماع على إقامة الحدود.
{وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله} يقال: رأف رأفة على وزن فعلة، ورآفة على وزن فعالة، مثل النشأة، والنشاءة وكلاهما بمعنى: الرقة، والرحمة، وقيل: هي أرق الرحمة.
وقرأ الجمهور {رأفة} بسكون الهمزة، وقرأ ابن كثير بفتحها، وقرأ ابن جريج {رآفة} بالمد كفعالة، ومعنى: {في دين الله}: في طاعته، وحكمه، كما في قوله: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك}.
[يوسف: 76]، ثم قال: مثبتًا للمأمورين ومهيجًا لهم: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} كما تقول للرجل تحضه على أمر: إن كنت رجلًا فافعل كذا أي: إن كنتم تصدّقون بالتوحيد، والبعث الذي فيه جزاء الأعمال فلا تعطلوا الحدود {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ المؤمنين} أي: ليحضره زيادة في التنكيل بهما، وشيوع العار عليهما، وإشهار فضيحتهما، والطائفة الفرقة التي تكون حافة حول الشيء، من الطوف، وأقلّ الطائفة ثلاثة، وقيل: اثنان، وقيل: واحد، وقيل: أربعة، وقيل: عشرة.
ثم ذكر سبحانه شيئًا يختص بالزاني، والزانية، فقال {الزانى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً}.
قد اختلف أهل العلم في معنى هذه الآية على أقوال: الأوّل: أن المقصود منها تشنيع الزنا، وتشنيع أهله، وأنه محرّم على المؤمنين، ويكون معنى الزاني لا ينكح: الوطء لا العقد أي: الزاني لا يزني إلاّ بزانية، والزانية لا تزني إلاّ بزانٍ، وزاد ذكر المشركة والمشرك لكون الشرك أعمّ في المعاصي من الزنا.
وردّ هذا الزجاج وقال: لا يعرف النكاح في كتاب الله إلاّ بمعنى التزويج، ويردّ هذا الردّ بأن النكاح بمعنى الوطء ثابت في كتاب الله سبحانه، ومنه قوله: {حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] فقد بينه النبيّ صلى الله عليه وسلم، بأن المراد به: الوطء، ومن جملة القائلين بأن معنى الزاني لا ينكح إلاّ زانية: الزاني لا يزني إلا بزانية سعيد بن جبير، وابن عباس، وعكرمة، كما حكاه ابن جرير عنهم، وحكاه الخطابي عن ابن عباس.