فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي الصحيح أنه لعن المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء. وكيف يجوز لها أن تتزوج بمخنث قد انتقلت شهوته إلى دبره؟ فهو يؤتى كما تؤتى المرأة. وتضعف داعيته من أمامه كما تضعف داعية الزاني بغير امرأته عنها. فإذا لم يكن له غيرة على نفسه، ضعفت غيرته على امرأته وغيرها. ولهذا يوجد من كان مخنثًا ليس له كبير غيرة على ولده ومملوكه ومن يكفله، والمرأة إذا رضيت بالمخنث واللوطيّ، كانت على دينه، فتكون زانية، وأبلغ. فإن تمكين المرأة من نفسها أسهل من تمكين الرجل من نفسه. فإذا رضيت ذلك من زوجها رضيته من نفسها.
ولفظ الآية: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} يتناول هذا كله بطريق عموم اللفظ، أو بطريق التنبيه. وفحوى الخطاب الذي هو أقوى من مدلول اللفظ. وأدنى من ذلك أن يكون بطريق القياس، كما بيناه في حد اللوطيّ وغيره. انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله. وكله تأييد لما ذهب إليه الإمام أحمد من أنه لا يصح العقد من الرجل العفيف على المرأة البغيّ، ما دامت كذلك، فإن تابت صح العقد عليها، وإلا فلا. وكذلك لا يصح تزويج المرأة الحرة العفيفة بالرجل الفاجر المسافح حتى يتوب توبة صحيحة. لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} كما فضّله تقيّ الدين.
وقد روى هنا الحافظ ابن كثير آثارًا مرفوعة وموقوفة، كلها مؤكدة لهذا. ثم قال بعدها: فأما الحديث الذي رواه النسائي عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن عندي امرأة من أحب الناس إليّ، وهي لا تمنع يد لامس. قال: «طلقها» قال: لا صبر لي عنها. قال: «استمتع بها». فقال النسائي: هذا الحديث غير ثابت. وعبد الكريم أحد رواته ضعيف الحديث ليس بالقويّ. وقال الإمام أحمد: هو حديث منكر. وقال ابن قتيبة: إنما أراد أنها سخية لا تمنع سائلًا. وحكاه النسائي في سننه عن بعضهم. فقال: وقيل: سخية تعطي. وردّ هذا بأنه لو كان المراد لقال: لا ترد يد ملتمس. وقيل: المراد أن سجيتها لا ترد يد لامس، لا أن المراد أن هذا واقع منها، وأنها تفعل الفاحشة. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأذن في مصاحبة من هذه صفتها، فإن زوجها والحالة هذه يكون ديوثًا، وقد تقدم الوعيد على ذلك. ولكن لما كانت سجيتها هكذا ليس فيها ممانعة ولا مخالفة لمن أرادها لو خلا بها أحد، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقها. فلما ذكر أنه يحبها أباح البقاء معها. لأن محبته لها محققة. ووقوع الفاحشة منها متوهم، فلا يصار إلى الضرر العاجل للتوهم الآجل. والله أعلم. انتهى.
لطيفة:
سر تقديم الزانية في الآية الأولى والزاني في الثانية: أن الأولى في حكم الزنى والأصل فيه المرأة لما يبدو منها من الإيماض والإطماع. والثانية في نكاح الزناة إذا وقع ذلك على الصحة. والأصل في النكاح الذكور، وهم المبتدئون بالخطبة، فلم يسند إلا لهم، لهذا وإن كان الغرض من الآية تنفير الأعفّاء من الذكور والإناث، من مناكحة الزناة ذكورًا وإناثًا، زجرًا لهم عن الفاحشة، ولذَلك قرن الزنى والشرك. ومن ثم كره مالك رحمه الله مناكحة المشهورين بالفاحشة، وقد نقل أصحابه الإجماع في المذهب على أن للمرأة أو لمن قام من أوليائها فسخ نكاح الفاسق. ومالكٌ أبعد الناس من اعتبار الكفاءة إلا في الدين. وأما في النسب فقد بلغه أنهم فرقوا بين عربية ومولى، فاستعظمه وتلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، انتهى كلام الناصر في الانتصاف ومراد السلف بالكراهة، ما تعرف بالكراهة التحريمية. فيقرب بذلك مذهب المالكية. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}.
اختلف المفسّرون في معنى النكاح هنا، فذهب بعضهم إلى أو المراد به التزوج، على اعتبار أن هذا هو المعنى الغالب على هذه الكلمة.. وذهب آخرون إلى أن معنى النكاح هنا، الوطء، والتقاء الرجل بالمرأة.
وعلى المعنى الأول، يكون معنى الآية: أن الزاني لا يجوز له أن يتزوج إلا من زانية أو مشركة، وأن الزانية، لا يجوز لها أن تتزوج إلا من زان أو مشرك.
وهذا يعنى بدوره أن الزاني والزانية ليسا مسلمين، وأن لهما أحكاما تخالف أحكام المسلمين، إذا لا يجوز لهما أن يتزوجا من المسلمين، وأن لهما أن يتزوجا من المشركين.. وهذا مما لا يحلّ لمسلم أو مسلمة.
والثابت شرعا وعملا، أن الزانية والزاني، لم يخرجا من الإسلام بجريمتهما، وأن إقامة الحدّ عليهما تطهير لهما من الرجس الذي وقعا فيه.. ولهذا كانت كلمة من جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم معترفين بذنبهم، هي قولهم: طهرنى يا رسول اللّه!.
ولهذا، فإن المعنى الذي تستقيم عليه الآية هو أن يكون النكاح بمعنى الوطء، والتقاء الرجل بالمرأة.. ويكون معنى الآية حينئذ: أن الزاني لا يطأ إلا زانية، أي لا يتهيأ له الحصول على من يشاركه هذا الإثم إلا امرأة فاسدة فاسقة مثله. فهو فاسد فاسق، لا يستجيب له إلا فاسدة فاسقة، أو {مشركة} لا تؤمن باللّه، ولا تخشى حسابا أو جزاء، فهى لهذا مستخفّة بكل معنى من معانى الخلق والفضيلة، إذ لا ترجو بعثا، ولا تطمع في ثواب ولا تخشى من عقاب.
وكذلك الشأن في الزانية.. إنها لا تدعو إليها إلا فاسدا فاسقا، يستجيب لها، ويواقع المنكر معها، أو مشركا.. لا يؤمن باللّه ولا باليوم الآخر.
وفى هذا تغليظ لهذا الجرم. واستخفاف بأهله.. وأنهم أهل سوء، يجتمع بعضهم إلى بعض.. فليس فيهما صالح وفاسد.. وإنما هما كائنان فاسدان، ينجذب بعضهما إلى بعض، كما ينجذب الذباب إلى القذر والعفن.
وفى قوله تعالى: {وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} إشارة إلى أن هذا الفحش، أو هذا المنكر، قد حرّم على المؤمنين، لا يأتونه أبدا.. كما حرم عليهم شرب الخمر وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وما أهلّ لغير اللّه به.. ومع هذا فإن بعض المؤمنين يأتى هذه المحرّمات، ولا تنزع عنه صفة الإيمان إلا في حال تلبّسه بالمنكر.
وهذا ما يشير إليه قوله صلى اللّه عليه وسلم: «لا يقتل القاتل حين يقتل وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يختلس خلسة وهو مؤمن.. يخلع منه الإيمان كما يخلع سرباله، فإذا رجع رجع إليه الإيمان». أي أنه في الحال التي يتلبس فيها يفعل هذا المنكر أو ذاك لا يكون الإيمان في صحبته، إذ لو كان الإيمان معه، لكان له منه وازع يزعه عن مخالفة اللّه، والاعتداء على حدوده.. ففى تلك الحال يجلى الإيمان من قلبه، وينزع الثوب الذي يلبسه منه.. فإذا صدر عن هذا المنكر، وتاب إلى اللّه، ورجع إليه، عاد إليه الإيمان، وكان في المؤمنين، العاصين.. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً}.
هذه الآية نزلت مستقلة بأولها ونهايتها كما يأتي قريبًا في ذكر سبب نزولها، سواء كان نزولها قبل الآيات التي افتتحت بها السورة أم كان نزولها بعد تلك الآيات.
فهذه الجملة ابتدائية.
ومناسبة موقعها بعد الجملة التي قبلها واضحة.
وقد أعضل معناها فتطلب المفسرون وجوها من التأويل وبعض الوجوه ينحل إلى متعدد.
وسبب نزول هذه الآية ما رواه أبو داود وما رواه الترمذي وصححه وحسنه: أنه كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد الغنوي من المسلمين كان يخرج من المدينة إلى مكة يحمل الأسرى فيأتي بهم إلى المدينة.
وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها: عناق.
وكانت خليلة له، وأنه كان وعد رجلًا من أسارى مكة ليحمله.
قال: فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة.
قال: فجاءت عناق فقالت: مرثد؟ قلت: مرثد.
قالت: مرحبًا وأهلًا هلم فبت عندنا الليلة.
قال فقلت: حرم الله الزنى.
فقالت عناق: يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم، فتبعني ثمانية من المشركين.
إلى أن قال: ثم رجعوا ورجعت إلى صاحبي فحملته ففككت عنه كبله حتى قدمت المدينة فأتيت رسول الله فقلت: يا رسول الله أنكح عناق؟ فأمسك رسول الله فلم يرد عليَّ شيئًا حتى نزلت {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} فقال رسول الله: «يا مرثد لا تنكحها».
فتبيّن أن هذه الآية نزلت جوابًا عن سؤال مرثد بن أبي مرثد هل يتزوج عناق.
ومثار ما يشكل ويعضل من معناها: أن النكاح هنا عقد التزوج كما جزم به المحققون من المفسرين مثل الزجاج والزمخشري وغيرهما.
وأنا أرى لفظ النكاح لم يوضع ولم يستعمل إلا في عقد الزواج وما انبثق زعم أنه يطلق على الوطء إلا من تفسير بعض المفسرين قوله تعالى: {فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره} [البقرة: 230] بناء على اتفاق الفقهاء على أن مجرد العقد على المرأة بزوج لا يحلها لمن بَتَّها إلا إذا دخل بها الزوج الثاني.
وفيه بحث طويل، ليس هذا محله.
وأنه لا تردد في أن هذه الآية نزلت بعد تحريم الزنى إذ كان تحريم الزنى من أول ما شرع من الأحكام في الإسلام كما في الآيات الكثيرة النازلة بمكة، وحسبك أن الأعشى عدّ تحريم الزنى في عداد ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من التشريع إذ قال في قصيدته لما جاء مكة بنية الإسلام ومدح النبي صلى الله عليه وسلم فصده أبو جهل فانصرف إلى اليمامة ومات هناك قال:
أجدَّك لم تسمع وصاة محمد ** نبيءِ الإله حين أوصى وأشهدا

إلى أن قال:
ولا تقربنّ جارة إنّ سرها ** عليك حرام فانكحن أو تأبدا

وقد ذكرنا ذلك في تفسير سورة الإسراء.
وأنه يلوح في بادىء النظر من ظاهر الآية أن صدرها إلى قوله أو {مشرك} إخبارٌ عن حال تزوج امرأة زانية وأنه ليس لتشريع حكم النكاح بين الزناة المسلمين، ولا نكاح بين المشركين.
فإذا كان إخبارًا لم يستقم معنى الآية إذ الزاني قد ينكح الحصينة والمشرك قد ينكح الحصينة وهو الأكثر فلا يستقيم لقوله تعالى: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة} معنى، وأيضًا الزانية قد ينكحها المسلم العفيف لرغبة في جمالها أو لينقذها من عهر الزنى وما هو بزان ولا مشرك فلا يستقيم معنى لقوله: {والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك} وإننا لو تنازلنا وقبلنا أن تكون لتشريع حكم فالإشكال أقوى إذ لا معنى لتشريع حكم نكاح الزاني والزانية والمشرك والمشركة فتعين تأويل الآية بما يفيد معنى معتبرًا.
والوجه في تأويلها: أن مجموع الآية مقصود منه التشريع دون الإخبار لأن الله تعالى قال في آخرها {وحرم ذلك على المؤمنين}.
ولأنها نزلت جوابًا عن سؤال مرثد تزويجه عناق وهي زانية ومشركة ومرثد مسلم تقي.
غير أن صدر الآية ليس هو المقصود بالتشريع بل هو تمهيد لآخرها مشير إلى تعليل ما شُرع في آخرها، وفيه ما يفسر مرجع اسم الإشارة الواقع في قوله: {وحرم ذلك}.
وأن حكمها عام لمرثد وغيره من المسلمين بحق عموم لفظ {المؤمنين}.
وينبني على هذا التأصيل أن قوله: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة} تمهيد للحكم المقصود الذي في قوله: {وحرم ذلك على المؤمنين} وأنه مسوق مساق الإخبار دون التشريع فيتعين أن المراد من لفظ {الزاني} المعنى الإسمي لاسم الفاعل وهو معنى التلبس بمصدره دون معنى الحدوث؛ إذ يجب أن لا يُغفل عن كون اسم الفاعل له شائبتان: شائبة كونه مشتقًا من المصدر فهو بذلك بمنزلة الفعل المضارع، فضارب يشبه يضرب في إفادة حصول الحدث من فاعل، وشائبةُ دلالته على ذات متلبسة بحدث فهو بتلك الشائبة يقْوى فيه جانب الأسماء الدالة على الذوات.