فصل: سبب النزول:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.سبب النزول:

رُويَ في سبب نزول الآية الكريمة {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} عدة أسباب ذكرها المفسرون ونحن ننقل أجمعها وأصحها وهي كالآتي:
أولًا- روى أن رجلًا يقال له مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة، وكانت امرأة بغّي بمكة يقال لها عَنَاق وكانت صديقة له، وأنه وعد رجلًا من أسارى مكة أن يحمله، قال: فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة، فجاءت عَنَاق فأبصرتْ سوادَ ظلي تحت الحائط، فلما انتهت إليّ عرفتني فقالت: مرثد؟ فقلت: مرثد، فقالت: مرحبًا وأهلًا هلمّ فبت عندنا الليلة، فقلتُ يا عناق: قد حرَّم الله تعالى الزنى، فنادت يا أهل الخيام: هذا الرجل يحمل أسراكم، قال: فتبعني منهم ثمانية، فانتهيت إلى غار فجاءوا حتى قاموا على رأسي وبالوا، حتى ظلّ بولهم على رأسي، وأعماهم الله تعالى عني، ثم رجعوا ورجعتُ إلى صاحبي فحملته حتى قدمت المدينة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله: أأنكح عناقًا؟ فأمسك فلم يردّ عليَّ شيئًا فأنزل الله {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} الآية فقرأها عليَّ الرسول، ثم قال يا مرثد: لا تَنكحها.
ثانيًا- وروي أن امرأة تُدعى أم مهزول كانت من البغايا، فكانت تسافح الرجل وتشرط أن تنفق عليه، فأراد رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها فأنزل الله تعالى: {الزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ}.
ثالثًا- وروي أنها نزلت في أهل الصفّة وكانوا قومًا من المهاجرين، ولم يكن لهم مساكن ولا عشائر، فنزلوا صفة المسجد وكانوا أربعمأة رجل يلتمسون الرزق بالنهار ويأوون إلى الصفة بالليل وكان بالمدينة بغايا متعالنات بالفجور مخاصيب بالكسوة والطعام، فهمّ بعضهم أن يتزوجوا بهنّ. ليأووا إلى مساكنهنّ، ويأكلوا من طعامهن فنزلت هذه الآية.

.لطائف التفسير:

1- اللطيفة الأولى: التنكير في قوله: {سورة} للتفخيم فكأن الله تعالى يقول: هذه سورة عظيمة الشأن جليلة القدر، لما فيها من الآداب السامية والأحكام الجليلة، قال الألوسي: وهي خبر لمبتدأ محذوف أي هذه سورة، وأشير إليها بهذه تنزيلًا لها منزلة الحاضر المشاهد وقوله تعالى: {أَنزَلْنَاهَا} وما بعده صفات لها مؤكدة، لما أفاد التنكير من الفخامة من حيث الذات، بالفخامة من حيث الصفات.
2- اللطيفة الثانية: تكرير لفظ {أَنزَلْنَا} في قوله: {أَنزَلْنَاهَا} و{أَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ} لإبراز كمال العناية بشأنها، وهو يشبه ذكر الخاص بعد العام للعناية والاهتمام.
3- اللطيفة الثالثة: قال الفخر الرازي: أنه تعالى ذكر في أول السورة أنواعًا من الأحكام والحدود وذكر في آخرها دلائل التوحيد فقوله تعالى: {فَرَضْنَاهَا} إشارة إلى الأحكام، وقوله: {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} إشارة إلى دلائل التوحيد ويؤيده قوله: {لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فإن الأحكام لم تكن معلومة حتى يتذكروا بها. قال الألوسي: وهذا الوجه عندي حسن.
4- اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أصل لعل للترجي والترجي لا يليق من الله تعالى ولذلك تكون لعل هنا بمعنى لام التعليل أي لتتذكروا وتتدبروا بما فيها واستشهدوا بقول الشاعر:
فقلتم لنا كفّوا الحروب لعلّنا ** نكفّ ووثّقثتم لنا كل مَوثِقِ

أي كفوا الحروب لنكف، وذكر القرطبي وجهًا آخر وهو أن تبقى لعل للترجي ولكن يكون الترجي من المخلوق لا من الخالق أي رجاء منكم أن تتذكروا.
5- اللطيفة الخامسة: فإن قيل: ما الحكمة في أن يبدأ الله في الزنى بالمأة وفي السرقة بالرجل؟ فالجواب أنَّ الزنى من المرأة أقبح، وجرمه أشنع، لما يترتب عليه من تلطيخ فراش الرجل وفساد الأنساب وإلحاق العار بالعشيرة ثم الفضيحة بالنسبة للمرأة بالحمل تكون أظهر وأدوم فلهذا كان تقديمها على الرجل.
وأما السرقة فالغالب وقوعها من الرجل لأنه أجرأ عليها وأجلد وأخطر فقدم عليها لذلك. قال القرطبي: قدمت {الزانية} في هذه الآية، من حيث كان في ذلك الزمان زنى النساء فاشٍ وكان لإماء العرب وبغايا الوقت رايات وكن مجاهرات بذلك، وذرك وجوهًا أخرى تؤيد ما سبق.
6- اللطيفة السادسة: عبّر بقوله: {فاجلدوا} ولم يقل فاضربوا للإشارة إلى أن الغرض من الحد الإيلام بحيث يصل ألمه إلى الجِلد، لعظم الجُرم ردعًا له وزجرًا.
قال العلماء: ينزع عن الزاني عند الجلد ثيابه إلا الإزار فإنه لا ينزع لستر عورته به، وأما بقية الحدود فالأمر فيها أخف.
7- اللطيفة السابعة: قال القرطبي: ذكر الله سبحانه وتعالى الذكر والأنثى وكان يكفي منهما لفظ الزاني فقيل: ذكرهما للتأكيد، ويحتمل أن يكون ذكرهما لئلا يظن ظانّ أن الرجل لما كان هو الواطئ والمرأة محل ليست بواطئة فلا يجب عليها حد فذكرها رفعًا لهذا الإشكال الذي أوقع جماعة من العلماء منهم الشافعي- رحمه الله- فقالوا: لا كفارة على المرأة في الوطء في رمضان.
8- اللطيفة الثامنة: قوله تعالى: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله} هذا من باب التهييج والإلهاب كما يقال إن كنت رجلًا فافعل كذا، ولاشك في رجوليته وكذا المخاطبون هنا مقطوع بإيمانهم، ولكن قصد تهييج وتحريك حميتهم ليجتهدوا في نتفيذ الأحكام على الوجه الأكمل.
9- اللطيفة التاسعة: قوله تعالى: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} الآية قال الألوسي: فيه تقبيح لأمر الزاني أشد تقبيح ببيان أنه بعد أن رضي بالزنى لا يليق به أن ينكح العفيفة المؤمنة، والزانية بعتد أن رضيت بالزنى لا يليق أن ينكحها إلاّ مَنْ هو مثلها وهو الزاني، أو هو أشد حالًا منها وهو المشرك وأما المسلم العفيف فأسَدُ غيرته يأبى ورود جَفْرتها:
وتجتنبُ الأسودُ ورودَ ماء ** إذا كان الكلاب ولَغْن فيه

والسر في تقديم {الزانية} في الآية الأولى، و{الزاني} في الآية الثانية، أو الأولى في بيان عقوبة الزنى والأصل فيه المرأة لموافقتها ورضاها، وأما الثانية فهي في حكم نكاح الزناة، والأصلُ في النكاح الذكور. قال في التفسير الواضح: إن الزنى ينشأ غالبًا وللمرأة فيه الضلع الأكبر، فخروجها سافرة متبرجة متزينة داعية لنفسها بشتى الوسائل المغرية من أصباغ وعطور وملابس ضيقة، ونظرات كلها إغراء للشباب وفتنة فهذه كلها حبائل الشيطان.
وليس معنى هذا أن الرجال بريئون بل عليهم قسط كبير في الجرم وقسطُ المرأة أكبر، ولهذا قدمها على الزاني وفي الآية الثانية يعالج النكاح بمعنى العقد وللمرأة فيه الخطوة الثانية، أما الرجل فله الخطوة الأولى ولهذا قدمه على المرأة والله أعلم بأسرار كتابه.
10 اللطيفة العاشرة: قرن الله عز وجل الزاني بالمشرك وذلك ليشير إلى عظيم خطر الزنى وكبير ضرره وذلك جرم من أعظم الجرائم الاجتماعية يهدم بنيان الأسرة ويحطم كيان المجتمع ولهذا قرنه الله تعالى: {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] الآية.
جنبنا الله السوء والفاحشة. بمنّه وكرمه آمين.

.وجوه القراءات:

1- قوله تعالى: {وَفَرَضْنَاهَا} قرئ بالتخفيف والتشديد، فقراء التخفيف {فَرَضْناها} بمعنى أوجبنا وألزمنا العمل بما فيها من الأحكام إيجابًا قطعيًا وقراءة التشديد {فرّضْناها} لتأكيد الايجاب أو المبالغة في لزومه وقيل: هو على التكثير، أي لكثرة ما فيها من الفرائض كأحكام الزنى، والقذف، واللعان، والأمر بالحجاب، والاستئذان وغضّ البصر، وغير ذلك.
2- قوله تعالى: {الزانية والزاني} قرأ الجمهور بالرفع وقرئ بالنصب {الزانية} واختار الخليل وسيبوية الرفع اختيار الأكثرين. قال الزجاج: والرفع أقوى في العربية لأن معناه: من زنى فاجلدوه فتأويله الابتداء ويجوز النصب على معنى: اجلدوا الزانية.
3- قوله تعالى: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ} قرأ الضحاك والأعمش {ولا يأخذكم} بالياء بدل التاء وقوله تعالى: {رَأْفَةٌ} بإسكان الهمزة هي القراءة المشهور وقرئ {رَأَفة} بفتح الهمزة قال القرطبي: وفيه ثلاث لغات: رَأَفة، ورأْفة، ورآفة بالمد وهي كلها مصادر أشهرها الأولى.
4- قوله تعالى: {الزاني لاَ يَنكِحُ} بضم الحاء وقرئ بإسكانها {لا ينكحْ} فالأولى نفيٌ، والثانية نهيٌ، وقوله تعالى: {وَحُرِّمَ ذلك} قرئ بالتشديد أي بضم الحاء وتشديد الراء، وقرئ بالتخفيف {وحَرُم} بفتح الحاء وضم الراء- قال ابن الجوزي: وقرأ أُبيَّ بن كعب {وحَرَم اللَّهُ} بزيادة اسم الله عز وجل مع فتح حروف {حَرّم}.

.وجوه الإعراب:

1- قوله تعالى: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا} سورة خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذه سورة، وإنما قدرنا ذلك لأنها نكرة، والمشهورُ عند علماء النحو أنه لا يجوز الابتداء بالنكرة كما قال ابن مالك:
ولا يجوز الابتدا بالنكرة ** ما لم تفد كعند زيد نمرة

وجوَّز بعضهم أن تكون مبتدأ لأنها موصوفة بجملة {أنزلناها} وهو رأي الأخفش قال القرطبي: ويحتمل أن يكون قوله: {سورة} ابتداء وما بعدها صفة لها أخرجتها عن حد النكرة المحضة فحسن الابتداء لذلك.
ويرى الزمخشري أنه يجوز أن تكون مبتدأ موصوفًا والخبر محذوف تقديره فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها، وقد رد العلامة أبو السعود هذا الرأي وقال: وأما كونها متبدأ محذوف الخبر على أن يكون التقدير: فيما أوحينا إليك سورةٌ أنزلناها الخ فيأباه أنّ مقتضى المقام بيان شأن هذه السورة الكريمة لا أن في جملة ما أوحي إلى النبي عليه الصلاة والسلام سورة شأنها كذا وكذا. وحملها على السورة الكريمة بمعونة المقام يوهم أن غيرها من السور الكريمة ليست على تلك الصفات.
2- قوله: {أَنزَلْنَاهَا} الجملة من الفعل والفاعل في محل رفع صفة لأن الجمل من بعد النكرات صفات. كما يقول علماء النحو.
3- قوله: {لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} لعل للترجي وهي من أخوات إنَّ والكاف في محل نصب اسم لعل، وجملة {تَذكَّرون} من الفعل والفاعل في محل رفع خبرها.
4- قوله: {الزانية والزاني} الزانية مبتدأ والزاني معطوف عليها والخبر هو جملة {فاجلدوا} والتقدير الزانية والزاني مجدلودان في حكم الله أو ينبغي أن يُجْلدا، وإنما دخلت الفاء على الخبر لأن في الجملة معنى الشرط أي من زنى أو من زنت فاجلدوهما مائة جلدة، وأما قراءة النصب {الزَّانيةَ والزاني} فهو منصوب بفعل محذوف يفسِّره المذكور أي اجلدوا الزانيةَ واجلدوا الزاني.
5- قوله: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ} أن الشرطية جازمة و{كنتم} فعل الشرط متصرفة من كان الناقصة والضمير اسمها وجملة {تؤمنون} من الفعل والفاعل خبرها وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله أي إن كنتم مؤمنين حقًا فلا تأخذكم بهما رأفة والله أعلم.