فصل: الحكم الثامن: ما هي الأعضاء التي تضرب في الحد؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال القرطبي: والضرب الذي يجب تنفيذه، هو أن يكون مؤلمًا لا يجرح، ولا يبضع، ولا يخرج الضارب يده من تحت إبطه، وقد أتى عمر رضي الله عنه برجل في حد فقال: للضارب اضرب ولا يرى إبطك وأعط كل عضو حقه، وأتي بشارب فقال: لأبعثنك إلى رجلا لا تأخذه فيك هوادة، فبعثه إلى مطيع بن الأسود فقال: إذا أصبحت الغد فاضربه الحد، فجاء عمر رضي الله عنه وهو يضربه ضربًا شديدًا فقال: قتلتَ الرجل كم ضربته؟ فقال: ستين فقال: اقصَّ عنه بعشرين. يريد بذلك أن يجعل شدة الضرب الذي ضربه قصاصًا بالعشرين التي بقيت ولا يضربه العشرين.
فينبغي أن يكون الضرب معتدلًا، لأن الغرض الإيلام لا سلخ الجلود وإزهاق الأرواح، وهذا كما مر في حديث ابن عمر حين جلد جاريته، واعترض عليه ولده فقال أين قول الله: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله} فقال يا بين ورأيتني أخذتني بها رأفة إن الله تعالى لم يأمرني أن اقتلها ولا أن أجعل جَلْدها في رأسها وقد أوجعت حيث ضربت.
هل الضرب في الحدود على السواء؟
وقد اختلف الفقهاء في الحدود أيها أشد؟
فقال الأحناف: ضربُ الزِّنى أشد من ضرب الخمر، وضربُ الشُرْب أشدُ من ضرب القذف، وأشدُّ الضربِ إنما هو في التعزير.
وقال المالكية والشافعية: الضرب في الحدود كلها سواء. ضربٌ غيرُ مبرّح، ضربٌ بين ضربين.
وقال الثوري: ضربُ الزنى أشدُّ من ضرب القذف، وضرب القذف أشد من ضرب الخمر.
احتج أبو حنيفة بفعل عمر، حيث ضرب في التعزير ضربًا أشد منه في الزنى.
واحتج مالك والشافعي بأن الحدود موقوفة على الشاعر وليس فيها مجال للاجتهاد، ولم يرد عن المعصوم صلى الله عليه وسلم شيء في التخفيف أو التثقيل فتكون الحدود سواء.
واحتج الثوري بأن الزنى لمّا كان أكثر في العدد، فلابد أن يكون الجُرم فيه أعظم، والعقوبة أبلغ، بخلاف القذف والخمر.
ومذهب الثوري على ما عرفت قريب من مذهب الأحناف.
وقد انتصر الجصاص رحمه الله للمذهب الأول فقال ما نصه:
قد دلَّ قوله تعالى: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله} على شدة ضرب الزاني، وأنه أشد من ضرب الشارب والقاذف لدلالة الآية على شدة الضرب فيه ولأن ضرب الشارب كان من النبي صلى الله عليه وسلم بالجريد والنعال، وضربُ الزاني إنما يكون بالسوط وهذا يوجب أن يكون ضرب الزاني أشد من ضرب الشارب. وإنما جعلوا ضرب القاذف أخف الضرب لأن القاذف جائزٌ أن يكون صادقًا في قذفه وأنّ له شهودًا على ذلك، والشهودُ مندوبون إلى الستر على الزاني وإنما وجب عليه الحد لقعود الشهود عن الشهادة وذلك يوجب تخفيف الضرب.
ومن جهة أخرى: فإنَّ القاذف قد غلظت عليه العقوبة في إبطال شهادته فغير جائز التغليظ عليه من جهة شدة الضرب.
وينبغي أن نعلم أن الحدود موقوفة على تقدير الشارع، فلا تجوز الزيادة فهيا ولا النقصان إلا إذا كان على وجه التعزير، فللحاكم أن يشدِّد في العقوبة.
قال القرطبي:
نصَّ الله تعالى على عدد الجلد في الزنى والقذف، وثبت التوقيف في الخمر على ثمانين جلدة من فعل عمر رضي الله عنه في جمعٍ من الصحابة فلا يجوز أن يتعدى الحد في ذلك كله، قال ابن العربي: وهذا لم يتتابع الناس في الشرّ، ولا احلَوْلَت لهم المعاصي حتى يتخذوها ضَراوة ويعطف الناس عليهم بالهَوادة فلا يتناهوا عن منكرٍ فعلوه فحيئذ تتعين الشدة ويزيد الحد لأجل زيادة الذنب، وقد أتي عمر بسكران في رمضان، فضربه مائةً، ثمانين حد الخمر، وعشرين لهتك حرمة الشهر، فهكذا يجب أن تتركب العقوبات على تغليظ الجنايات وهتك الحرمات، وقد لعبق رجلٌ بصبيٍّ، فضربه الوالي ثلاثمائة سوط فلم يغيّر ذلك مالك رحمه الله حين بلغه، فكيف لو رأى زماننا هذا بهتك الحرمات، والاستهتار بالمعاصي، والتظاهر بالمناكر، وبيع الحدود واستيفاء العبيد لها في منصب القضاة لمات كمدًا ولم يجالس أحدًا وحسبنا الله ونعم الوكيل.

.الحكم الثامن: ما هي الأعضاء التي تضرب في الحد؟

اتفق العلماء على أن الضرب في الحدود ينبغي أن يتقي به الوجه، والعورة، والمقاتل حتى حكى ابن عطية الإجماع على ذلك ولكن اختلفوا فيما عداها من الأعضاء.
قال ابن الجوزي في زاد المسير: فأما ما يضرب من الأعضاء فنقل عن الإمام أحمد في حد الزاني أنه قال يجرّد من الثياب ويعطي كل عضو حقه، ولا يضرب وجهه ورأسه وروي عنه أيضًا: لا يضرب الرأس ولا الوجه ولا المذاكير وهو قول أبي حنيفة وقال مالك: لا يضرب إلا في الظهر. وقال الشافعي: يتقي الفرج والوجه.
قال القرطبي: واختلفوا في ضرب الرأس، فقال الجمهور: يتقي الرأس وقال أبو يوسف يضرب الرأس وضرب عمر رضي الله عنه صبيغًا في رأسه وكان تعزيزًا لا حدًا.
أما الوجه والعورة فمتفق على حرمة الضرب فيهما لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه».
وروي عن علي رضي الله عنه أنه أتى برجل سكران أو في حد، فقال: اضرب وأعط كل عضو حقه واتق الوجه والمذاكير... وإنما يتقي الفرج لأنه مقتل- وجاء في بعض الروايات- أنه قال: إجْتَنِبْ رأسه ومذكيره وأعطِ كل عضو حقه. وقد استدل الجمهور على حرمة ضرب الرأس بما روي عن علي في الحديث السابق، وفيه النص على اجتناب الرأس، وقالوا: إن الرأس بما روي عن علي في الحديث السابق، وفيه النص على اجتناب الرأس، وقالوا: إن الرأس كالوجه سمنع من ضربه وربما أثر الضربُ فيه على السمع والبصر وربما حدث بسبب الضرب خلل في العقل، واستدل الشافعي وأبو يوسف على جواز ضرب الرأس بما روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه أتي برجدل انتفى من ابنه، فقال أبو بكر: اضرب الرأس فإن الشيطان في الرأس. وبما روي عن عمر رضي الله عنه أنه ضرب صبيغ بن عسيل على رأسه حين سأل عن الذاريات ذروا على وجه التعنت.
وأما مالك رحمه الله فمذهبه أن الحدود كلها يجب أن تكون في الظهر وحجته في ذلك عمل السلف الصالح وقوله عليه السلام: لهلال بن أمية حين قذف امرأته «البينة أو حدّ في ظهرك».
وينبغي أن يجرّد المجلود من الثياب ويضرب قائمًا غير ممدود، إلا حد القذف فإنه يضرب وعليه ثيابه وينزع عنه الحشو والفرو، وأما المرأة فتترك عليها ثيابها وتضرب قاعدة سترًا عليها، والدلي ما روي في حديث رجم النبي صلى الله عليه وسلم لليهوديين، وفيه يقول الراوي ورأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة.
وهذا يدل على أن الرجل كان قائمًا والمرأة قاعدة والله أعلم.

.الحكم التاسع: تحريم الشفاعة في الحدود:

لا تجوز الشفاعة في الحدود لقوله صلى الله عليه وسلم: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعالى فقد ضادّ الله عز وجل» ولأن الحدود إنما شرعت للزجر والتأنيب، والشفاعةُ تدفع هذا المعنى ولا تحققه وقد دلت الآية الكريمة على تحريم الشفاعة وهي قوله تعالى: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله} وقد تأولها السلف على أحد وجهين:
1- المراد منها تخفيف الحد، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن البصري.
2- المراد إسقاطُ الحد، وهو قول مجاهد والشعبي.
قال ابن العربي: وهو عندي محمول عليهما جميعًا، فلا يجوز أن يحمل أحدًا رأفة على زان بأن يُسْقط الحد أو يخفَّفه عنه.
ولما كانت الشفاعة تحول دون تنفيذ الحد كانت محرمة.
ومما يدل على تحريم الشفاعة في الحدود ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن قريشًا أهمَّهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: مَنْ يكلِّم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشفع في حد من حدود الله تعالى ثم قام فاختطب ثم قال: «إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».
وكما تحرم الشفاعة في الحدود يحرم على الإمام قبولها فقد روي أن الزبير بن العوام لقي رجلًا قد أخذ سارقًا يريد أن يهب به إلى السلطان فشفع له الزبير ليرسله فقال: ل، حتى أبلغ به إلى السلطان فقال الزبير: إنما الشفاعة قبل أن تبلغ إلى السلطان فإذا بلغ السلطان لُعِنَ الشافعُ والمشفَّع رواه البخاري.

.الحكم العاشر: حضور الحد وشهوده:

ظاهر الأمر في قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} يقتضي وجوب حضور جمع من المؤمنين عند إقامة الحد والمقصود من حضورهم حدَّ الزانيين التنكيلُ، والعبرةُ، والعظة. وقد أختلف العلماء في هذه الطائفة على أقوال:
أ- الطائفة: رجل واحد فما فوقه وهو قول مجاهد.
ب- الطائفة: اثنان فأكثر وهو قول عكرمة وعطاء وبه أخذ المالكية.
ج- الطائفة: ثلاثة فأكثر لأنه أقل الجمع وهو قول الزهري.
د- الطائفة: أربعة فأكثر بعدد شهود الزنى وهو قول ابن عباس رضي الله عنه وبه أخذ الشافعية وهو الصحيح.
قال الزمخشري في الكشاف بعد سرده الأقوال:
والصحيح أن هذه الكبيرة من أمهات الكبائر ولهذا قرنها الله بالشرك وقتل النفس في قوله تعالى: {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] وفي قوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32] ولذلك وفّى الله في عقد المائة بكماله، وشرع فيه القَتْلَة الهُوْلة وهي الرجم ونهى المؤمنين عن الرأفة بالمجلود وأمر بشهادة الطائفة للتشهير فوجب أن يكون طائفة يحصل بها التشهير، والواحد والاثنان ليسوا بتلك المثابة، واختصاصه المؤمنين لأن ذلك أفضح والفاسق بين صلحاء قومه أخجل ويسهد له قول ابن عباس رضي الله عنهما: أربعة إلى أربعين رجلًا من المصدِّقين بالله.

.الحكم الحادي عشر: ما هو حكم اللواط، والسحاق، وإتيان البهائم؟!

جريمة اللواط من أشنع الجرائم وأقبحها، وهي تدل على انحراف في الفطرة، وفساد في العقل، وشذوذ في النفس ومعنى اللواط أن ينكح الرجلُ الرجلَ، ويأتيَ الذكرُ الذكرَ، كما قال تعالى عن قوم لوط: {أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 165- 166]؟- وسميت باللواط نسبة إلى قوم لوط الذين ظهرت فيهم هذه الفعلة الشنيعة، وقد عاقبهم الله تعالى عليها بأقسى عقوبة، فخسب الأرض بهم، وأمطر عليهم حجار من سجيل جزاء فَعْلتهم القذرة... وجعل ذلك قرآنًا يتلى، ليقي عبرةً للأمم والأجيال {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ} [هود: 82- 83].
قال الشوكاني رحمه الله: وما أحق مرتكب هذه الجريمة، ومقارف هذه الرذيلة الذميمة، بأن يعاقب عقوبة يصير بها عبرة للمعتبرين ويعذب تعذيبًا يكسِرُ شهوة الفسقة المتمردين، فحقيق بمن أتى بفاحشة قوم ما سبقهم بها من أحد من العالمين أن يَصْلى من العقوبة بما يكون في الشدة والشناعة مشبهًا لعقوبتهم وقد خسف الله تعالى بهم واستأصل بذلك العذاب بِكْرَهُم وثيبّهم.
رأي الفقهاء في حكم اللواط:
وهذه الجريمة النكراء غاية في القبح والشناعة، تعافها حتى الحيوانات فلا نكاد نجد حيوانًا من الذكور ينزو على ذكر، وإنما يظهر هذا الشذوذ بين البشر، ومن أجل ذلك نستطيع أن نقول إنَّ هذا النوع من الشذوذ لوثة أخلاقية، ومرض نفسي خطير وهو انحراف بالفطرة تستوجب أخذ مقترفها بالشدة، وقد اختلف الفقهاء في تقدير العقوبة اللازمة لها على ثلاثة مذاهب:
أولًا: مذهب القائلين بالقتل مطلقًا.
ثانيًا: مذهب القائلين بأن حده كحد الزنى.
ثالثًا: مذهب القائلين بالتعزير.
المذهب الأول:
أما المذهب الأول فهو مذهب مالك وأحمد وقول للشافعي وقد ذهبوا إلى أنّ حدّه القتل، سواء كان بكرًا أم ثيبًا، فاعلًا أو مفعولًا به، وهذا القول مروي عن أبي بكر وعمر وابن عباس رضوان الله عليهم أجمعين وإليه ذهبت طائفة من العلماء، ونقل بعض الحنابلة إجماع الصحابة على أن الحد في اللواط القتل.