فصل: الحكم الثاني عشر: كيف تثبت جريمة الزنى؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واستدلوا بما يأتي:
أ- حديث «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به».
ب- ما روي عن علي كرم الله وجهه أنه رجم من عمل هذا العمل- أي ارتكب اللواطة- قال الشافعي: وبهذا نأخذ برجم من يعمل هذا العمل محصنًا كان أو غير محصن.
ج- واستدلوا أيضًا بما روي عن أبي بكر أنه جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم عن رجل يُنْكح كما تنكح النساء فكان أشدهم يومئذ قولًا علي بن أبي طالب قال: هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم، إلا أمة واحدة صنع الله بها ما قد علمتم، نرى أن تحرقه بالنار فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد يأمره أن يحرقه بالنار.
كيفية القتل:
ثم إن هؤلاء القائلين بالقتل قد اختلفوا في كيفية القتل على أقوال:
أحدها: تحزّ رقبته كالمرتد، وهو مروي عن أبي بكر وعلي.
ثانيها: يرجم بالحجارة، وهو مروي عن ابن عباس وبه قال مالك وأحمد.
ثالثها: يلقى من أعلى شاهق، وهو مشهور مذهب مالك.
رابعها: يهدم عليه جدار، وهو مروي عن أبي بكر الصديق. وإنما ذكروا هذه الوجوه لأن الله تعالى عذَّب قوم لوط بكل ذلك فقال تعالى: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} [هود: 82] وكل العقاب إنما استحقوه بسبب عظم الجريمة.
المذهب الثاني:
وذهب الشافعية إلى أن اللواط حده كحد الزنى، يجلد البكر، ويرجم المحصن، وهذا المذهب مروي عن بعض التابعين كعطاء، وقتادة والنخعي وسعيد بن المسيب وغيرهم.
وقد استدلوا على مذهبهم بالنص، والمعقول، والقياس.
أ- أما النص فما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا أتى الرجلُ الرجلَ فهما زانيان.
فقد دل الحديث على أن حكمه كحكم الزنى.
ب- وأما المعقول فقد قالوا: إن الزنى عبارة عن إيلاج فرج في فرج، مشتهى طبعًا محرم شرعًا. والدبر أيضًا فرج لأن القبل إنما سمي فرجًا لما فيه من الانفراج وهذا المعنى حاصل في الدّبر فيكون مثله في الحكم.
ج- وأما القياس فقد قالوا: إن الأدلة الواردة في الزانيْين وإن لم تشملهما أيضًا لكنهما لاحقان بالزنى بطريق القياس، فقضاءُ الشهوة كما يكون في القبل يكون في الدبر بجامع الاشتهاء فيهما، وهو قبيح فيناسبه الزجر والحد يصلح زاجرًا له.
المذهب الثالث:
وذهب الأئمة الأحناف إلى أن اللواط جريمة عظيمة وشنيعة ولكنه ليس كالزنى، فلا يكون حدُّه حدّ الزنى، وإنما فيه التعزير، واستدلوا بما يأتي:
أ- قالوا: الزنى غير اللواط من حيث اللغة فإن الزنى اسم لوطء الرجل المرأة في القبل، واللواطُ: اسم لوطء الرجل الرجل، ألا ترى أن القرآن فرَّق بينهما حيث قال عن قوم لوط.
{أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً مِّن دُونِ النساء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 55] وقال تعالى: {أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 165- 166] فنسبهم إلى الجهل والعدوان ولم ينسبهم إلى الزنى.
ب- قالوا والعرف أيضًا يعارض هذا وينقضه فالذي يأتي الفاحشة بالنساء يسمى زانيًا والذي يأتي الفاحشة بالذكور يسمى لوطيًا وقد تعارف الناس هذا منذ القديم، ألا ترى لو حلف لا يزني فلاط وبالعكس لم يحنث.
ج- وقالوا أيضًا- كيف يكون اللواط زنى وقد اختلف الصحابة في حكمه وهم أعلم باللغة وموارد اللسان ولو كان زنى لأغناهم نص الكتاب عن الاختلاف والاجتهاد.
د- وقالوا أيضًا: إن قياسه على الزنى ليس بسديد، لأن الزنى يدعو إليه الطبع وتشتهيه النفس، بخلاف اللواط فإنه تأباه الطباع حتى الحيوانات تعافه فكيف يكون مشتهى مع أنه تقذره النفوس ولا تميل إليه الطباع السليمة. ولو سلمنا أن الطبع يدعو إلى اللواط، فإن الزنى أعظم ضررًا وأسوء خطرًا لما يترتب عليه من فساد الأنساب فكان الاحتياج فيه إلى الزاجر أشد وأقوى.
ه- واستدلوا بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زنى بعد إحصان، وكفر بعد إيمان، وقتل نفس بغير نفس» وقالوا: لقد حظر صلى الله عليه وسلم قتل المسلم إلا بإحدى هذه الثلاث وفاعل ذلك خارج عنها لنه لا يسمى زنى ثم لو كان بمنزلة الزنى لفرّق عليه الصلاة والسلام في حكمه بين المحصن، وغير المحصن: عندما قال: فاقتلوا الفاعل والمفعول به فلما لم يفرّق دلّ على أنه لم يوجبه على وجه الحد وإنما أوجبه على وجه التعزير وللحاكم في باب التعزير سعة في الأمر.
هذه هي خلاصة أدلة الأحناف وأدلة الآخرين.
وقد رجَّح العلامة الشوكاني المذهب الأول القاضي بالقتل وضعّف ما سواه من مذهب الشافعية والأحناف ولعله في صواب فيما رجح، فإن عظم هذه الجريمة جريمة اللواط تستدعي عقابًا شديدًا صارمًا يستأصل الجريمة من جذورها، ويكسر شهوة الفسقة المتمردين ويقضي على الفساد والمفسدين، وليس هناك من طريق أجدى ولا أنفع من تنفيذ الإعدام حرقًا أو هدمًا أو رجمًا أو إلقاء من شاهق جبل ليكون عبرة للمعتبرين وفي ذلك تطبيق لهدي النبوة: «من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به».
حكم السحاق وإيتان البهائم:
وأما السحاق وهو ما يكون بين المرأة والمرأة فقد اتفق الفقهاء على أنه ليس فيه إلا التعزير وأما إتيان البهائم فالجمهور على أنَّ حده التعزير إلاّ ما ورد في بعض الروايات عن الإمام أحمد رحمه الله أن عقوبته كاللواط يقتل الفاعل وتقتل الدابة.
ولا شك في أن من يأتي مثل هذه القبيحة النكراء يكون أخس من الحيوان ولكن الرأي الراجح هو ما ذهب إليه الجمهور والله تعالى أعلم.

.الحكم الثاني عشر: كيف تثبت جريمة الزنى؟

لما كان الزنى جريمة منكرة وكانت عقوبته عقوبة صارمة وهي الجلد أو الرجم لذلك فقد شرطت الشريعة الإسلامية شروطًا شديدة من أجل إقامة الحد، فلم تقبل شهادة النساء أبدًا، وفرضت أن يكون الشهود من الرجال العدول الذين هم أهل لأداء الشهادة، وأن يكونوا قد رأوا بأم عينهم هذه الفاحشة كالميل في المكحلة وهذا بلا شك لا يمكن أن يتحقق بسهولة ولا يتصور إلا إذا كان- والعياذ بالله- يرتكبها الفرد على قارعة الطريق كما يفعل الحيوان.
شروط الشهادة في الزنى:
وكان غرض الشارع من هذا التشديد أن يسد السبيل على الذين يتهمون الأبرياء ظلمًا أو لأدنى حزازة بعار الدهر وفضيحة الأبد، فاشترط في الشهادة على الزنى الشروط الآتية:
أولًا: أن يكون الشهود أربعة لقوله تعالى: {فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ} [النساء: 15] الآية بخلاف سائر الحقوق فإنه يقبل فيها شهادة اثنين فقط.
ثانيًا: أن يكون الشهود ذكورًا، فلا تقبل شهادة النساء في هذا الباب لقوله تعالى: {أَرْبَعةً مِّنْكُمْ} [النساء: 15] أي من الرجال وقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] الآية. والمراد بالشهداء الرجال بدليل تأنيث العدد.
ثالثًا: أن يكون الشهود من اهل العدالة لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق: 2] الآية وقوله: {إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا} [الحجرات: 6] الآية.
رابعًا: أن يكون الشهود مسلمين عاقلين بالغين وهذه شروط التكليف.
خامسًا: أن يعاينوا الجريمة برؤية فرجه في فرجها كالميل في المكحلة، والرشاء في البئر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ادرءوا الحدود بالشبهات» فربما كان في فراش واحد ولم تحصل منهما جريمة الزنى.
سادسًا: اتحاد المجلس بأن يشهدوا مجتمعين، فإن جاؤوا متفرقين لا تقبل شهادتهم وهو مذهب الجمهور.
هذه هي الشروط التي تشترط لإثبات الزنى، وهي الطريقة الأولى.
وهناك طريقة ثانية لإثبات الزنى وهي طريقة الإقرار بأن يشهد الشخص على نفسه ويعترف صريحًا بالزنى. والإقرار- كما يقولون- سيّدُ الأدلة {بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 14] وقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم باعتراف ماعز والغامدية، وأقام عليهما الحد بمجرد الاعتراف ولم يكلفهما البينة، ولكن يطلب التثبت في أمر الإقرار. واعتبر بعض الفقهاء الحبل كقرينة على اقتراف فاحشة الزنى. ولم يحصل في عصره صلى الله عليه وسلم إقامة حد الزنى إلا عن طريق الإقرار وذلك في حادثتين اثنتثن هما: حادثة ماعز، وحادثة الغامدية وإليك بيانهما.
1- قصة ماعز الأسلمي:
وري أن ماعز بن مالك الأسلمي كان غلامًا يتيمًا في حجر هزال بن نعيم فزنى بجارية من الحي فأمره هزال أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويخبره بما صنع لعله يستغفر له، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فناداه: يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه، فتنحّى لشق وجهه الذي أعرض قبله فقال إني زنيت فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم فتنحّى لشق وجهه الذي أعرض قبله فقال طهرني يا رسول الله فقد زنيت فقال له أبو بكر الصديق: لو أقررت الرابعة لرجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه أبى فقال يا رسول الله زنيت فطهرني فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعلك قبّلتَ أو غمزتَ أو نظرتَ» قال لا، فسأله رسول الله باللفظ الصريح الذي معناه الجماع فقال نعم، قال: حتى غاب ذلك منك في ذلك منها؟ قال: نعم، قال كما يغيب الميل في المكحلة والرشاة في البئر؟ قال: نعم فسأله النبي هل تدري ما الزنى؟ قال: نعم أتيت منها حرامًا ما يأتي الرجل أهله حلالًا، قال: فما تريد بهذا القول: قال إني أريد أن تطهرني فأمر صلى الله عليه وسلم به فرجم، فلما أحسّ مسّ الحجارة صرخ بالناس: يا قوم ردوني إلى رسول الله فإن قومي قتلوني وغرُّوني من نفسي وأخبروني أن رسول الله غير قاتلي، ولكن ضربوه حتى مات فذكروا فراره لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه وسمع الرسول بعض الصحابة يتكلم عنه ويقول: لقد رجم رجم الكلاب فغضب وقال «لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم» وفي رواية أخرى: «والذي نفسي بيده أنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها».
2- قصة الغامدية:
وروى مسلم في صحيحه أن امرأة تسمى الغامدية جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني زنيت فطهرني فردها صلى الله عليه وسلم فلما كان من الغد قالت: يا رسول الله لم تردني؟ لعلك تردني كما رددت ماعزًا؟ فوالله إني حبلى، فقال: أما الآن فاذهبي حتى تلدي، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت هذا قد ولدته، قال: فاذهبي فارضعيه حتى تفطيمه، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت هذا يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام فدفع الصبيّ إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها، فنضح الدم على وجه خالد بن الوليد فسبها، فسمعه صلى الله عليه وسلم فقال: «مهلا يا خالد فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغُفِر له، ثم أمر بها فصلي عليها ودفنت».
أقول: إن مثل هذه الحوادث قد وقعت في عصر النبوة أفضل العصور وحصلت مع بعض الأفاضل من أصحاب الرسول، وذلك لحكمة سامية حتى يكتمل التشريع ويتم الدين بتنفيذ الحدود من الرسول صلى الله عليه وسلم في عصره وزمانه وليظل تشريعًا عامًا خالدًا مدى الأزمان وعبر الأجيال، فلو لم تحصل أمثال هذه الحوادث لأصبحت هذه الحدود الشرعية التي فرضها الله وأوجبها على عبادة أخبارًا تروى، وحكايات تذكر، ولما أمكن أن تنفذ في عصر من العصور بعد، وقد أراد الله عز وجل أن تبقى شريعة خاتم المرسلين شريعة كاملة خالدة مطبقة في جميع العصور، وقانونًا نافذًا على جميع الأمم، فحصل ما حصل من وقوع بعض الصحابة في بعض المخالفات- مع أنهم أكمل الناس- ليتم التشريع ويكمل الدين بتنفيذ الرسول الحدود عليهم. فانظر إلى هذه النفوس الكريمة التي لم تتحمل عِظَم هذا الذنب فجاءت تريد الطهارة منه إني زنيت فطهرني لأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فيا لها من نفوس كريمة ربَّاها الإسلام ودرّبها على الطهر والعفة والاستقامة؟