فصل: الحكم الثالث عشر: هل يصح الزواج بالزانية؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الحكم الثالث عشر: هل يصح الزواج بالزانية؟

اختلف علماء السَّلف في هذه المسألة على قولين:
الأول: حرمة الزواج بالزانية، وهو منقول عن علي والبراء وعائشة وابن مسعود.
الثاني: جواز الزواج بالزانية وهو منقول عن أبي بكر وعمر وابن عباس وهو مذهب الجمهور. وبه قال الفقهاء الأربعة من الأئمة المجتهدين.
دليل القول الأول:
وقد استدل القائلون بتحريم الزواج من الزانية بظاهر الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} الآية فقالوا: إن هذه الآية ظاهرها الخبر وحقيقتها النهي والتحريم بدليل آخر الآية {وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين} وقد قال علي كرَّم الله وجهه: إذا زنى الرجل فرّق بينه وبين امرأته، وكذلك إذا زنت المرأة فُرِّق بينها وبين بعلها.
واستدلوا بما ورد أن مرثد بن أبي مرثد جاء يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الزواج من عناق وكانت من بغايا الجاهلية، فلم يرد عليه حتى نزلت الآية الكريمة فقال: «يا مرثد لا تنكحها» وقد تقدمت قصته في بيان سبب النزول.
أدلة الجمهور:
واستدل الجمهور على جواز النكاح بغير العفيفة من النساء بما يلي:
أ- حديث عائشة أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل زنى بامرأة وأراد أن يتزوجها فقال «أولُه سفاح وآخره نكاح، والحرامُ لا يحرِّم الحلال».
ب- ما روي عن ابن عمر أنه قال بينما أبو بكر الصديق في المسجد إذ جاء رجل فلاث عليه لوثًا من كلام وهو دَهِشٌ فقال لعمر: قم فانظر في شأنه فإنّ له شأنًا، فقام إليه عمر فقال: إنّ ضيفًا ضافه فزنى بابنته، فضرب عمر في صدره وقال قبَّحك الله ألا سترت على ابنتك؟ فأمر بهما أبو بكر فضربا الحد، ثم زوَّج أحدهَما الآخر وغرّبهما حولا.
ج- وروى عن ابن عباس أنه سئل عن ذلك فقال: أوله سفاح وآخره نكاح، ومَثَلُ ذلك كمثل رجل سرق من حائطٍ ثمره، ثم أتى صاحب البستان فاشترى منه ثمرهُ، فما سرق حرام، وما اشترى حلالا.
د- وتأولوا الآية الكريمة {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} بأنها محمولةٌ على الأعم والأغلب ومعناها أن الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنى والفسق لا يرغب في نكاح المؤمنة الصالحة من النساء إنما يرغب في فاسقة خبيثة مثله أو مشركة، والفاسقة الخبيثة لا يرغب في نكاحها الصالح المؤمن من الرجال وإنما يرغب فيها الذي هو من جنسها من الفسقة والمشركين فهذا على الأعم الأغلب.
وقال بعضهم إن الآية منسوخة نسختها الآية في سورة النور {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} [النور: 32] والزانية من الأيامى وسيأتي معنى الأيامى مفصلًا إن شاء الله فارجع إليه هناك والله يتولاك.

.ما ترشد إليه الآيات الكريمة:

أولًا- القرآن دستور الأمة الإسلامية وعلى المسلمين أن يتمسكوا بتعاليمه الرشيدة.
ثانيًا- التشريع لله وحده الذي شرع الأحكام لمصالح عبادة المؤمنين.
ثالثًا- الأحكام الشرعية يجب تنفيذها بدقة، وتطبيقها على الوجه الأكمل.
رابعًا- الحدودُ شرعت لحفظ الأعراض، وصيانة الأنساب، والحِفاظ على الكرامة الإنسانية.
خامسًا- يجب أن تنفَّذ الحدودُ بمشهد من الناس ليرتدع أهل الفسق والفجور.
سادسًا- استيفاء الحدود من واجب الحاكم المسلم لتطهير المجتمع من أدران الفاحشة.
سابعًا- الرجل والمرأة في اقتراف الفاحشة سواء فيجب أن تسوّى بينهما العقوبة.
ثامنًا- الزنى جريمة دينية، وخلقية، واجتماعية، ولذلك حرَّمه الله تعالى.
تاسعًا- لايجوز تعطيل الحدود، ولا الشفاعة فيها لئلا تكثر الجرائم في المجتمع، ويختلَّ الأمن.
عاشرًا- لا يليق بالمؤمن العفيف أن يتزوج بالفاسقة أو الفاجرة، كما لا يليقُ بالعفيفة أن تتزَّوج بالفاسق أو الفاجر من الرجال.

.خاتمة البحث:

حكمة التشريع:
يعتبر الزنى في نظر الإسلام جريمة من أشنع الجرائم، ومنكرًا من أخبث المنكرات، ولذلك كانت عقوبته شديدة صارمة، لأن في هذه الجريمة هدرًا للكرامة الإنسانية، وتصديعًا لبنيان المجتمع، وفيه أيضًا تعريض النسل للخطر، حيث يكثر اللقطاء وأولاد البغاء، ولا يكون هناك من يتعهدهم ويربيهم وينشِّئُهم النشأة الصالحة!!
ومن أهداف الشريعة الإسلامية الغراء، وأغراضها الأساسية، حفظُ الضروريات الخمس وهي العقل- والنسل- والنفس- والدين- والمال وسميت بالضروريات: أو الكليات الخمس لأن جميع الأديان والشرائع قررت حفظها، وشرعت ما يكفل حمايتها لأنها ضرورية لحياة الإنسان. ولما كان النسل هو أحد هذه الضروريات لذلك شرع الإسلام من العقوبات الصارمة الزاجرة ما يقطع دابر هذه الجريمة ويحقق الأمن والاستقرار للمجتمع.
ولعل بعض الذين تأثروا بالثقافة الغربية، يرون في هذه الحدود والعقوبات شيئًا من الشدة والقسوة لا تتفق مع روح العصر، وتعارض الحرية الشخصية وخاصة حرية المرأة التي أطلقها لها الغرب باسم التحرر والمساواة، وتحت شعار الديمقراطية التي قررها لها القانون.
والواقع أن العقوبة التي شرعها الإسلام صارمة، ولكنها في الوقت نفسه عادلة فمن الذي يعاقب بهذا العقاب؟ أليس هو الشخص المستهتر الذي يسعى في طريق شهوته كالحيوان لا يبالي بأي طريق نال الشهوة ولا ما يترتب عليها من أخطار وأضرار؟
إن الذي يرتكب هذه الجريمة لمجرد الاستمتاع والشهوة ليس إنسانًا بل هو حيوان، وذلك لأن الحيوان تسيطر عليه شهوته فهو يسير تبعًا لها، والإنسانُ يحكمه عقله ولهذا يسير مع منطق العقل، وليست هذه الغريزة التي أودعها الله في الإنسان لمجرد نيل الشهوة أو قضاء الوطر، بل هي من أجل غاية نبيلة سامية هي بقاء النسل.
والله- جل وعلا- بحكمته العلية، جعل هذا الارتباط بين الذكر والأنثى، ولكنه لم يسمح به بطريق الفوضى كما تفعل الحيوانات، حيث ينزو بعضها على بعض، وإنما سمح به في دائرة الطهر والعفة وبطريق الزواج الشرعي، الذي يحقِّق الهدف النبيل والغاية الإنسانية المُثْلى في بقاء النوع الإنساني كما قال تعالى: {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72].
والإسلام يعتبر الزنى لوثه أخلاقية وجريمة اجتماعية خطيرة، ينبغي أن تكافح بدون هوادة، ولكنه لا يفرض هذه العقوبة الصارمة الجلد أو الرجم لمجرد التهمة أو الظن بل على العكس يودب التحقق والتثبت، ويدرأ الحد بالشبهات ويشرط شروطًا شديدة تكاد لا تتوفر هي شهادة أربعة رجال مؤمنين عدول يشهدون بوقوعها، ويشهدون على مثل ضوء الشمس، أو اعترافًا صريحًا لا شبهة فيه من الشخص الذي قارف الجريمة.
والغربيون لا يعتبرون الزنى جريمة يعاقب عليها القانون إلا إذا كان بالإكراه أو كان اعتداء على حرية الغير، أما إذا كان بالرضى فليس فيه ما يدعو إلى العقوبة لأنه يخلو حينئذ عن فكرة العدوان.
فالزنى- في نظرهم- وإن كان عيبًا إلا أنه ليس بجريمة على كل حال، فإذا زنى الرجل البكر بامرأة بكر فإن فعلهما ليس بفاحشة مستلزمة للعقوبة إلا إذا كان ذلك بالإكراه فإنه يعاقب للإكراه بعقوبة خفيفة، وأما إذا زنى بامرأة متزوجة فللزوج أن يطالبه بتعويضٍ غرامة مالية من الرجل الذي أفسد زوجته فنظرتهم إذن هي نظرة مادية، ومن أجل ذلك تهدَّم المجتمع وتخربت الأسر، وانتشرت تلك الأوباء والجرائم الخلقية فيهم.
فأين هذا من تشريع العليم الحكيم الذي صان الأعراض، وحفظ الأنساب، وطهَّر المجتمع من لوثه تلك الجريمة الشنيعة؟

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)}.
أخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو داود في ناسخه والبيهقي في سننه والضياء المقدسي في المختارة من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {الزاني لا ينكح إلا زانية} قال: ليس هذا بالنكاح ولكن الجماع، لا يزني بها حين يزني إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين، يعني الزنا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: لما قدم المهاجرون المدينة قدموها وهم بجهد إلا قليل منهم، والمدينة غالية السعر، شديدة الجهد، وفي السوق زوان متعالنات من أهل الكتاب، وأما الأنصار منهن أمية وليدة عبد الله بن أبي، ونسيكة بنت أمية لرجل من الأنصار، في بغايا من ولائد الأنصار قد رفعت كل إمرأة منهن علامة على بابها ليعرف أنها زانية، وكن من أخصب أهل المدينة وأكثره خيرًا، فرغب أناس من مهاجري المسلمين فيما يكتسبن للذي هم فيه من الجهد، فاشار بعضهم على بعض لو تزوّجنا بعض هؤلاء الزواني فنصيب من فضول أطعامهنَّ فقال بعضهم: نستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوه فقالوا: يا رسول الله قد شق علينا الجهد ولا نجد ما نأكل، وفي السوق بغايا نساء أهل الكتاب وولائدهن وولائد الأنصار يكتسبن لأنفسهن فيصلح لنا أن نتزوّج منهن، فنصيب من فضول ما يكتسبن، فإذا وجدنا عنهن غنى تركناهن؟ فأنزل الله {الزاني لا ينكح} فحرم على المؤمنين أن يتزوّجوا الزواني المسافحات العالنات زناهن.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: {الزاني لا ينكح إلا زانية او مشركة} قال: كن نساء في الجاهلية بغيات، فكانت منهن امرأة جميلة تدعى أم مهزول، فكان الرجل من فقراء المسلمين يتزوّج إحداهن فتنفق عليه من كسبها، فنهى الله أن يتزوّجهن أحد من المسلمين.
وأخرج عبد بن حميد عن سليمان بن يسار في قوله: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة} قال: كن نساء في الجاهلية بغيات، فنهى الله المسلمين عن نكاحهن.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عطاء قال: كانت بغايا في الجاهلية بغايا آل فلان وبغايا آل فلان فقال الله {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك} فأحكم الله ذلك من أمر الجاهلية بالإسلام. قيل له: أعن ابن عباس؟ قال: نعم.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وعبد بن حميد عن مجاهد في قوله: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة} قال: رجال كانوا يريدون الزنا بنساء زَوانٍ بغايا متعالنات كن كذلك في الجاهلية. قيل لهم هذا حرام، فأرادوا نكاحهن، فحرم الله عليهم نكاحهن.
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال: كان في بدء الإِسلام قوم يزنون قالوا: أفلا نتزوّج النساء التي كنا نفجر بهن؟ فأنزل الله {الزاني لا ينكح إلا زانية}.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن الضحاك {الزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك} قال: إنما عني بذلك الزنا ولم يعن به التزويج.