فصل: قال ابن العربي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قِيلَ لَهُ: إنَّ شَهَادَتَهُ لَمْ تَبْطُلْ بِالْقَذْفِ قَبْلَ وُقُوعِ الْحَدِّ بِهِ وَلَا وَجَبَ الْحُكْمُ بِتَفْسِيقِهِ لِمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَوْ لَمْ يَتُبْ وَأَقَامَ عَلَى قَذْفِهِ كَانَتْ شَهَادَتُهُ مَقْبُولَةً، وَإِنَّمَا بُطْلَانُ الشَّهَادَةِ وَلُزُومُهُ سِمَةَ الْفِسْقِ مُرَتَّبٌ عَلَى وُقُوعِ الْحَدِّ بِهِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ إنَّمَا رَفَعَ عَنْهُ سِمَةَ الْفِسْقِ الَّتِي لَزِمَتْهُ بَعْدَ وُقُوعِ الْحَدِّ فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَغَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي الشَّهَادَةِ وَلَا فِي الْحُكْمِ بِالتَّفْسِيقِ.
وَدَلِيلٌ آخَرُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا، وَهُوَ أَنَّا قَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تُسْقِطُ الْحَدَّ، وَلَمْ يَرْجِعْ الِاسْتِثْنَاءُ إلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بُطْلَانُ الشَّهَادَةِ مِثْلَهُ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا أَمْرَانِ قَدْ تَعَلَّقَا بِالْقَذْفِ، فَمِنْ حَيْثُ لَمْ يَرْجِعْ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْحَدِّ وَجَبَ أَنْ لَا يَرْجِعَ إلَى الشَّهَادَةِ، وَأَمَّا التَّفْسِيقُ فَهُوَ خَبَرٌ لَيْسَ بِأَمْرٍ فَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا وَصَفْنَا.
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالْحَدِّ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ فَكَذَلِكَ بُطْلَانُ الشَّهَادَةِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّهَادَاتِ إنَّمَا هِيَ حَقٌّ لِلْمَشْهُودِ لَهُ وَبِمُطَالَبَتِهِ يَصِحُّ أَدَاؤُهَا وَإِقَامَتُهَا كَمَا تَصِحُّ إقَامَةُ حَدِّ الْقَذْفِ بِمُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ؟ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَا سَوَاءً فِي أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَرْفَعُهُمَا، وَأَمَّا لُزُومُ سِمَةِ الْفِسْقِ فَلَا حَقَّ فِيهِ لِأَحَدٍ فَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعًا إلَيْهِ وَمَقْصُورًا عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ التَّائِبُ مِنْ الْكُفْرِ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ فَالتَّائِبُ مِنْ الْقَذْفِ أَحْرَى قِيلَ لَهُ: التَّائِبُ مِنْ الْكُفْرِ يَزُولُ عَنْهُ الْقَتْلُ وَلَا يَزُولُ عَنْ التَّائِبِ مِنْ الْقَذْفِ حَدُّ الْقَذْفِ، فَكَمَا جَازَ أَنْ تُزِيلَ التَّوْبَةُ مِنْ الْكُفْرِ الْقَتْلَ عَنْ الْكَافِرِ جَازَ أَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ التَّائِبُ مِنْ الْقَذْفِ لِأَنَّ تَوْبَتَهُ لَا تُزِيلُ الْجَلْدَ عَنْهُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ عَلَى مَقَادِيرِ الْأَجْرَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاذِفَ بِالْكُفْرِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَالْقَاذِفُ بِالزِّنَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؟ فَغُلِّظَ أَمْرُ الْقَذْفِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِمَا لَمْ يُغَلَّظْ بِهِ أَمْرُ الْقَذْفِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَتْ عُقُوبَةُ الْكُفْرِ فِي الْآخِرَةِ أَعْظَمَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا تَابَ وَأَصْلَحَ فَهُوَ عَدْلٌ وَلِيٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ كَانَ بُطْلَانُ شَهَادَتِهِ بَدِيًّا عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ وَالتَّوْبَةُ تُزِيلُ الْعُقُوبَةَ وَتُوجِبُ الْعَدَالَةَ وَالْوِلَايَةَ، فَغَيْرُ جَائِزٍ بُطْلَانُ شَهَادَتِهِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ.
قِيلَ لَهُ: لَا يَكُونُ بُطْلَانُ شَهَادَتِهِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ بَلْ عَلَى جِهَةِ الْمِحْنَةِ، كَمَا لَا تَكُونُ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ عَلَى جِهَةِ الْعُقُوبَةِ بَلْ عَلَى جِهَةِ الْمِحْنَةِ، وَلِلَّهِ أَنْ يَمْتَحِنَ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا مَرْضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ وَلِيًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولِ الشَّهَادَةِ وَكَذَلِكَ الْأَعْمَى وَشَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُ؟ فَلَيْسَ بُطْلَانُ الشَّهَادَةِ فِي الْأُصُولِ مَوْقُوفًا عَلَى الْفِسْقِ وَعَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ حَتَّى يُعَارَضَ فِيهِ بِمَا ذَكَرْت.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَوْبَةَ الْقَاذِفِ لَا تُوجِبُ جَوَازَ شَهَادَتِهِ أَنَّ شَهَادَتَهُ إنَّمَا بَطَلَتْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ عَلَيْهِ بِالْجَلْدِ وَجَلْدِهِ إيَّاهُ وَلَمْ تَبْطُلْ بِقَذْفِهِ لِمَا قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ، فَلَمَّا تَعَلَّقَ بُطْلَانُ شَهَادَتِهِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ لَمْ يَجْرِ إجَازَتُهَا إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بِجَوَازِهَا؛ لِأَنَّ فِي الْأُصُولِ أَنَّ كُلَّ مَا تَعَلَّقَ ثُبُوتُهُ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ لَمْ يَزُلْ ذَلِكَ الْحُكْمُ عَنْهُ إلَّا بِمَا يَجُوزُ ثُبُوتُهُ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ كَالْإِمْلَاكِ وَالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ، فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ تَوْبَتُهُ مِمَّا تَصِحُّ الْخُصُومَةُ فِيهِ وَلَا يَحْكُمُ بِهَا الْحَاكِمُ لَمْ يَجُزْ لَنَا إبْطَالُ مَا قَدْ ثَبَتَ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ.
فَإِنْ قِيلَ: فُرْقَةُ اللِّعَانِ وَالْعِنِّينِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَيَعُودَ النِّكَاحُ، فَكَذَلِكَ بُطْلَانُ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ وَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ إطْلَاقَ شَهَادَتِهِ عِنْدَ تَوْبَتِهِ وَيَكُونُ حُكْمُ الْحَاكِمِ بَدِيًّا بِبُطْلَانِهَا مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ الَّتِي لَمْ تَحْدُثْ فِيهَا تَوْبَةٌ، كَمَا أَنَّ الْفُرْقَةَ الْوَاقِعَةَ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ إنَّمَا هِيَ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ مِنْهُمَا فِيهَا عَقْدٌ مُسْتَقْبَلٌ.
قِيلَ لَهُ: لِأَنَّ النِّكَاحَ الثَّانِيَ مِمَّا يَجُوزُ وُقُوعُ الْحُكْمِ بِهِ فَجَازَ أَنْ تَبْطُلَ بِهِ الْفُرْقَةُ الْوَاقِعَةُ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، وَالتَّوْبَةُ لَيْسَتْ مِمَّا يَحْكُمُ بِهِ الْحَاكِمُ فَلَا تَثْبُتُ فِيهِ الْخُصُومَاتُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْطُلَ بِهِ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِبُطْلَانِ شَهَادَتِهِ، وَلَكِنَّهُ لَوْ شَهِدَ الْقَاذِفُ بِشَهَادَةٍ عِنْدَ حَاكِمٍ يَرَى قَبُولَ شَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ فَحَكَمَ بِجَوَازِ شَهَادَتِهِ بَعْدَ حُكْمِهِ جَازَتْ شَهَادَتُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا زَنَى فَحَدَّهُ الْحَاكِمُ ثُمَّ تَابَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَلَمْ يَكُنْ حُكْمُ الْحَاكِمِ مَانِعًا مِنْ قَبُولِهَا بَعْدَ التَّوْبَةِ قِيلَ لَهُ: الزَّانِي لَمْ يَتَعَلَّقْ بُطْلَانُ شَهَادَتِهِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَإِنَّمَا بَطَلَتْ بِزِنَاهُ قَبْلَ أَنْ يَحُدَّهُ الْحَاكِمُ لِظُهُورِ فِسْقِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ بُطْلَانُ شَهَادَتِهِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بَلْ بِفِعْلِهِ جَازَتْ عِنْدَ ظُهُورِ تَوْبَتِهِ وَشَهَادَةُ الْقَاذِفِ لَمْ تَبْطُلْ بِقَذْفِهِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا، وَإِنَّمَا يُحْكَمُ بِكَذِبِهِ وَفِسْقِهِ عِنْدَ جَلْدِ الْحَاكِمِ إيَّاهُ فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ فِي حُكْمِ مَنْ لَمْ يَقْذِفْ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُجْلَدُ هِلَالٌ وَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ».
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ وُقُوعَ الْجَلْدِ بِهِ يُبْطِلُ شَهَادَتَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّوْبَةِ فِي قَبُولِهَا.
وَقَدْ رَوَى الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَمْ يَسْتَثْنِ فِيهِ وُجُودَ التَّوْبَةِ مِنْهُ.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُرَيْحٌ قَالَ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَجُوزُ فِي الْإِسْلَامِ شَهَادَةُ مُجَرَّبٍ عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورِ وَلَا خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ وَلَا مَجْلُودٍ حَدًّا وَلَا ذِي غَمْرٍ لِأَخِيهِ وَلَا الصَّانِعِ لِأَهْلِ الْبَيْتِ وَلَا ظَنِينٍ وَلَا قَرَابَةٍ»؛ فَأَبْطَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْقَوْلَ بِإِبْطَالِ شَهَادَةِ الْمَحْدُودِ، فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي بُطْلَانَ شَهَادَةِ سَائِرِ الْمَحْدُودِينَ فِي حَدِّ قَذْفٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ إلَّا أَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ قَامَتْ عَلَى جَوَازِ قَبُولِ شَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي غَيْرِ الْقَذْفِ إذَا تَابَ مِمَّا حُدَّ فِيهِ، وَلَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ فِي الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ، فَهُوَ عَلَى عُمُومِ لَفْظِهِ تَابَ أَوْ لَمْ يَتُبْ؛ وَإِنَّمَا قَبِلْنَا شَهَادَةَ الْمَحْدُودِ فِي غَيْرِ الْقَذْفِ إذَا تَابَ لِأَنَّ بُطْلَانَ شَهَادَتِهِ مُتَعَلِّقٌ بِالْفِسْقِ فَمَتَى زَالَتْ عَنْهُ سِمَةُ الْفِسْقِ كَانَتْ شَهَادَتُهُ مَقْبُولَةً، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي اسْتَحَقَّ بِهِ الْحَدَّ مِنْ زِنًا أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ قَدْ أَوْجَبَ تَفْسِيقَهُ قَبْلَ وُقُوعِ الْحَدِّ بِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ بُطْلَانُ شَهَادَتِهِ بِالْحَدِّ كَانَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْفُسَّاقِ إذَا تَابُوا فَتُقْبَلُ شَهَادَاتُهُمْ، وَأَمَّا الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ فَلَمْ يُوجِبْ الْقَذْفُ بُطْلَانَ شَهَادَتِهِ قَبْلَ وُقُوعِ الْحَدِّ بِهِ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي قَذْفِهِ، وَإِنَّمَا بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ بِوُقُوعِ الْحَدِّ بِهِ فَلَمْ تُزِلْ ذَلِكَ عَنْهُ بِتَوْبَتِهِ. اهـ.

.قال ابن العربي:

قوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}.
فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ} يُرِيدُ يَشْتُمُونَ.
وَاسْتُعِيرَ لَهُ اسْمُ الرَّمْيِ، لِأَنَّهُ إذَايَةٌ بِالْقَوْلِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لَهُ الْقَذْفُ.
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ السَّحْمَاءِ، وَقَالَ أَبُو كَبْشَةَ: وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ الْيَدِ وَقَالَ: رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْت مِنْهُ وَوَالِدِي بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوَى رَمَانِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ} مُخْتَلَفٌ فِي كَوْنِهِ مَوْضِعَ رَفْعٍ أَوْ نَصْبٍ، كَاخْتِلَافِهِمْ فِي السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ وَالزَّانِيَةِ وَالزَّانِي سَوَاءٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {الْمُحْصَنَاتِ} قَدْ بَيَّنَّا الْإِحْصَانَ وَأَقْسَامَهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَقُلْنَا: إنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْعِفَّةِ؛ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْعِفَّةُ هَاهُنَا.
وَشُرُوطُ الْقَذْفِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ تِسْعَةٌ: شَرْطَانِ فِي الْقَاذِفِ، وَشَرْطَانِ فِي الْمَقْذُوفِ بِهِ، وَخَمْسَةٌ فِي الْمَقْذُوفِ.
فَأَمَّا الشَّرْطَانِ اللَّذَانِ فِي الْقَاذِفِ: فَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ.
وَأَمَّا الشَّرْطَانِ فِي الشَّيْءِ الْمَقْذُوفِ مِنْهُ: فَهُوَ أَنْ يَقْذِفَهُ بِوَطْءٍ يَلْزَمُهُ فِيهِ الْحَدُّ، وَهُوَ الزِّنَا أَوْ اللِّوَاطُ، أَوْ يَنْفِيهِ مِنْ أَبِيهِ، دُونَ سَائِرِ الْمَعَاصِي.
وَأَمَّا الْخَمْسُ الَّتِي فِي الْمَقْذُوفِ فَهِيَ: الْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْإِسْلَامُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْعِفَّةُ عَنْ الْفَاحِشَةِ الَّتِي رُمِيَ بِهَا كَانَ عَفِيفًا عَنْ غَيْرِهَا أَوْ لَا.
فَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ فِي الْقَاذِفِ؛ فَلِأَنَّهُمَا أَصْلَا التَّكْلِيفِ؛ إذْ التَّكْلِيفُ سَاقِطٌ دُونَهُمَا، وَإِنَّمَا شَرَطْنَاهُمَا فِي الْمَقْذُوفِ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا فِي مَعَانِي الْإِحْصَانِ لِأَجْلِ أَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا وُضِعَ لِلزَّجْرِ عَنْ الْإِذَايَةِ بِالْمَعَرَّةِ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْمَقْذُوفِ، وَلَا مَعَرَّةَ عَلَى مَنْ عَدِمَ الْعَقْلَ وَالْبُلُوغَ؛ إذْ لَا يُوصَفُ الْوَطْءُ فِيهِمَا وَلَا مِنْهُمَا بِأَنَّهُ زِنًا.
وَأَمَّا شُرُوطُ الْإِسْلَامِ فِيهِ؛ فَلِأَنَّهُ مِنْ مَعَانِي الْإِحْصَانِ وَأَشْرَفِهَا، كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَلِأَنَّ عِرْضَ الْكَافِرَ لَا حُرْمَةَ لَهُ يَهْتِكُهَا الْقَذْفُ، كَالْفَاسِقِ الْمُعْلِنِ لَا حُرْمَةَ لِعِرْضِهِ؛ بَلْ هُوَ أَوْلَى لِزِيَادَةِ الْكُفْرِ عَلَى الْمُعْلِنِ بِالْفِسْقِ.
وَأَمَّا شَرَفُ الْعِفَّةِ؛ فَلِأَنَّ الْمَعَرَّةَ لَاحِقَةٌ بِهِ، وَالْحُرْمَةُ ذَاهِبَةٌ، وَهِيَ مُرَادَةٌ هَاهُنَا إجْمَاعًا.
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَإِنَّمَا شَرَطْنَاهَا لِأَجْلِ نُقْصَانِ عِرْضِ الْعَبْدِ عَنْ عِرْضِ الْحُرِّ، بِدَلِيلِ نُقْصَانِ حُرْمَةِ دَمِهِ عَنْ دَمِهِ؛ وَلِذَلِكَ لَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ، وَلَا يُحَدُّ بِقَذْفِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمُرَادُ بِالرَّمْيِ هَاهُنَا التَّعْبِيرُ بِالزِّنَا خَاصَّةً؛ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ زَوْجَهُ بِشَرِيكِ بْنِ السَّحْمَاءِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبَيِّنَةَ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِك» وَالنُّكْتَةُ الْبَدِيعَةُ فِيهِ أَنَّهُ قَالَ: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} وَاَلَّذِي يَفْتَقِرُ إلَى أَرْبَعَةِ شُهَدَاءِ هُوَ الزِّنَا؛ وَهَذَا قَاطِعٌ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {يَرْمُونَ} اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا صَرَّحَ بِالزِّنَا كَانَ قَذْفًا وَذَنْبًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ؛ فَإِنَّ عَرَّضَ وَلَمْ يُصَرِّحْ، فَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ قَذْفٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ بِقَذْفٍ.
وَمَالِكٌ أَسَدُّ طَرِيقَةٍ فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيضَ قَوْلٌ يَفْهَمُ مِنْهُ سَامِعُهُ الْحَدَّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا، كَالتَّصْرِيحِ.
وَالْمُعَوَّلُ عَلَى الْفَهْمِ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ مُخْبِرًا عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ: {إنَّك لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} وَقَالَ فِي أَبِي جَهْلٍ: {ذُقْ إنَّك أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} وَهَذَا ظَاهِرٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فَإِنْ قَالَ لَهُ: يَا مَنْ وَطِئَ بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فِيهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ تَعْرِيضٌ.
وَقَالَ أَشْهَبُ: لَا حَدَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَهُ إلَى فِعْلٍ لَا يُعَدُّ زِنًا إجْمَاعًا.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: أَصْوَبُ مِنْ جِهَةِ التَّعْرِيضِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: إذَا رَمَى صَبِيَّةً يُمْكِنُ وَطْؤُهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ بِالزِّنَا كَانَ قَذْفًا عِنْدَ مَالِكٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَيْسَ بِقَذْفٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًا؛ إذْ لَا حَدَّ عَلَيْهَا.
وَعَوَّلَ مَالِكٌ عَلَى أَنَّهُ تَعْيِيرٌ تَامٌّ بِوَطْءٍ كَامِلٍ، فَكَانَ قَذْفًا.
وَالْمَسْأَلَةُ مُحْتَمِلَةٌ مُشْكِلَةٌ، لَكِنْ مَالِكٌ غَلَّبَ حِمَايَةَ عِرْضِ الْمَقْذُوفِ، وَغَيْرُهُ رَاعَى حِمَايَةَ طُهْرِ الْقَاذِفِ.
وَحِمَايَةُ عِرْضِ الْمَقْذُوفِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْقَاذِفَ كَشَفَ سِتْرَهُ بِطَرْفِ لِسَانِهِ فَلَزِمَهُ الْحَدُّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} كَثَّرَ اللَّهُ عَدَدَ الشُّهُودِ فِي الزِّنَا عَلَى سَائِرِ الْحُقُوقِ رَغْبَةً فِي السَّتْرِ عَلَى الْخَلْقِ، وَحَقَّقَ كَيْفِيَّةَ الشَّهَادَةِ حَتَّى رَبَطَ أَنْ يَقُولَ: رَأَيْت ذَلِكَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ مِنْهَا؛ أَيْ الْمِرْوَدَ فِي الْمُكْحُلَةِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ قَبْلُ.
فَلَوْ قَالُوا: رَأَيْنَاهُ يَزْنِي بِهَا الزِّنَا الْمُوجِبَ لِلْحَدِّ؟ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَكُونُونَ قَذَفَةً.
وَقَالَ غَيْرُهُ: إذَا كَانُوا فُقَهَاءَ وَالْقَاضِي فَقِيهًا كَانَتْ شَهَادَةً.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ عَدَدَ الشُّهُودِ تَعَبُّدٌ، وَلَفْظُ الشَّهَادَةِ تَعَبُّدٌ، وَصِفَتُهَا تَعَبُّدٌ، فَلَا يُبَدَّلَ شَيْءٌ مِنْهَا بِغَيْرِهِ، حَتَّى قَالَ عُلَمَاؤُنَا وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إنَّ مِنْ شَرْطِ أَدَاءِ الشُّهُودِ لِلشَّهَادَةِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ افْتَرَقُوا لَمْ تَكُنْ شَهَادَةً.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ مُجْتَمَعِينَ وَمُفْتَرِقِينَ، فَرَأَى مَالِكٌ أَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ تَعَبُّدٌ، وَرَأَى عَبْدُ الْمَلِكِ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ وَاجْتِمَاعِهَا؛ وَهُوَ أَقْوَى.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ: {الْمُحْصَنَاتِ} قِيلَ: هُوَ وَصْفٌ لِلنِّسَاءِ، وَلَحِقَ بِهِنَّ الرِّجَالُ، وَاخْتُلِفَ فِي وَجْهِ إلْحَاقِ الرِّجَالِ بِهِنَّ؛ فَقِيلَ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِنَّ؛ كَمَا أُلْحِقَ ذُكُورُ الْعَبِيدِ بِإِمَائِهِمْ فِي تَشْطِيرِ الْحَدِّ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ شَيْخِ السُّنَّةِ، وَمَذْهَبُ لِسَانِ الْأُمَّةِ.
وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَيْسَ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ؛ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ كَوْنِ الشَّيْءِ فِي مَعْنَى الشَّيْءِ قَبْلَ النَّظَرِ إلَى عِلَّتِهِ، وَجُعِلَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ إلْحَاقُ الْأَمَةِ بِالْعَبْدِ فِي قَوْلِهِ: مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ قَدْرُ مَا يَبْلُغُ قِيمَتَهُ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ.