فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأن تكون في موطن واحد؛ على قول مالك.
وإن اضطرب واحد منهم جُلد الثلاثة؛ كما فعل عمر في أمر المغيرة بن شعبة؛ وذلك أنه شَهد عليه بالزنى أبو بكرة نُفيع بن الحارث وأخوه نافع؛ وقال الزهراوي: عبد الله بن الحارث، وزياد أخوهما لأم وهو مستلحق معاوية، وشبل بن معبد البَجَلي، فلما جاؤوا لأداء الشهادة وتوقف زياد ولم يؤدها، جلد عمر الثلاثةَ المذكورين.
الموفية عشرين: قوله تعالى: {فاجلدوهم} الجلد الضرب.
والمجالدة المضاربة في الجلود أو بالجلود؛ ثم استعير الجلد لغير ذلك من سيف أو غيره.
ومنه قول قيس بن الخَطِيم:
أجالدهم يوم الحديقة حاسرًا ** كأن يَدِي بالسيف مِحْراق لاعبِ

{ثَمَانِينَ} نصب على المصدر.
{جَلْدَةً} تمييز.
{وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} هذا يقتضي مدة أعمارهم، ثم حكم عليهم بأنهم فاسقون؛ أي خارجون عن طاعة الله عز وجل.
الحادية والعشرون: قوله تعالى: {إِلاَّ الذين تَابُواْ} في موضع نصب على الاستثناء.
ويجوز أن يكون في موضع خفض على البدل.
والمعنى ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا إلا الذين تابوا وأصلحوا من بعد القذف {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
فتضمنت الآية ثلاثة أحكام في القاذف: جلده، وردّ شهادته أبدًا، وفسقه، فالاستثناء غير عامل في جلده بإجماع، إلا ما روي عن الشَّعْبِيّ على ما يأتي.
وعاملٌ في فسقه بإجماع.
واختلف الناس في عمله في ردّ الشهادة؛ فقال شُريح القاضي وإبراهيم النَّخَعِيّ والحسن البصريّ وسفيان الثَّوْريّ وأبو حنيفة: لا يعمل الاستثناء في ردّ شهادته، وإنما يزول فسقه عند الله تعالى.
وأما شهادة القاذف فلا تقبل ألبتة ولو تاب وأكذب نفسه ولا بحال من الأحوال.
وقال الجمهور: الاستثناء عامل في رد الشهادة، فإذا تاب القاذف قُبلت شهادته؛ وإنما كان ردها لعلة الفسق فإذا زال بالتوبة قبلت شهادته مطلقًا قبل الحدّ وبعده، وهو قول عامة الفقهاء.
ثم اختلفوا في صورة توبته؛ فمذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه والشّعبِيّ وغيره، أن توبته لا تكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي حُدّ فيه.
وهكذا فعل عمر؛ فإنه قال للذين شهدوا على المغيرة: من أكذب نفسه أَجَزْت شهادته فيما استقبل، ومن لم يفعل لم أجِز شهادته؛ فأكذب الشّبل بن معبد ونافع بن الحارث بن كَلَدة أنفسهما وتابا، وأبى أبو بكرة أن يفعل؛ فكان لا يقبل شهادته.
وحكى هذا القول النحاس عن أهل المدينة.
وقالت فرقة منها مالك رحمه الله تعالى وغيره: توبته أن يَصْلُح ويَحْسُن حاله وإن لم يرجع عن قوله بتكذيب؛ وحسبه الندم على قذفه والاستغفارُ منه وترك العود إلى مثله؛ وهو قول ابن جرير.
ويروى عن الشّعبِيّ أنه قال: الاستثناء من الأحكام الثلاثة، إذا تاب وظهرت توبته لم يُحدّ وقبلت شهادته وزال عنه التفسيق؛ لأنه قد صار ممن يُرْضَى من الشهداء؛ وقد قال الله عز وجل: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ} [طه: 82] الآية.
الثانية والعشرون: اختلف علماؤنا رحمهم الله تعالى متى تسقط شهادة القاذف؛ فقال ابن الماجِشُون: بنفس قذفه.
وقال ابن القاسم وأشهب وسُحْنون: لا تسقط حتى يجلد، فإن مَنع من جلده مانعُ عفوٍ أو غيره لم تردّ شهادته.
وقال الشيخ أبو الحسن اللَّخْمِيّ: شهادته في مدة الأجل موقوفة؛ ورجّح القول بأن التوبة إنما تكون بالتكذيب في القذف، وإلا فأيّ رجوع لعَدْل إن قَذف وحُدّ وبقي على عدالته.
الثالثة والعشرون: واختلفوا أيضًا على القول بجواز شهادته بعد التوبة في أي شيء تجوز؛ فقال مالك رحمه الله تعالى: تجوز في كل شيء مطلقًا؛ وكذلك كل من حُدّ في شيء من الأشياء؛ رواه نافع وابن عبد الحكم عن مالك، وهو قول ابن كنانة.
وذكر الوَقَار عن مالك أنه لا تقبل شهادته فيما حُدّ فيه خاصة، وتقبل فيما سوى ذلك؛ وهو قول مُطَرِّف وابن الماجِشُون.
وروى العُتْبِيّ عن أَصْبَغ وسُحنون مثله.
قال سُحْنون: من حُدّ في شيء من الأشياء فلا تجوز شهادته في مثل ما حدّ فيه.
وقال مُطَرِّف وابن الماجشون: من حدّ في قذف أو زنًى فلا تجوز شهادته في شيء من وجوه الزنى، ولا في قذف ولا لِعان وإن كان عدلًا؛ وروياه عن مالك.
واتفقوا على ولد الزنى أن شهادته لا تجوز في الزنى.
الرابعة والعشرون: الاستثناء إذا تعقّب جُمَلًا معطوفة عاد إلى جميعها عند مالك والشافعيّ وأصحابهما.
وعند أبي حنيفة وجُلِّ أصحابه يرجع الاستثناء إلى أقرب مذكور وهو الفسق؛ ولهذا لا تقبل شهادته، فإن الاستثناء راجع إلى الفسق خاصة لا إلى قبول الشهادة.
وسبب الخلاف في هذا الأصل سببان:
أحدهما: هل هذه الجمل في حكم الجملة الواحدة للعطف الذي فيها، أو لكل جملة حكم نفسِها في الاستقلال وحرفُ العطف محسّن لا مُشَرِّك، وهو الصحيح في عطف الجمل؛ لجواز عطف الجمل المختلفة بعضها على بعض، على ما يعرف من النحو.
السبب الثاني: يشبِّه الاستثناء بالشرط في عوده إلى الجمل المتقدمة، فإنه يعود إلى جميعها عند الفقهاء، أو لا يُشبَّه به، لأنه من باب القياس في اللغة وهو فاسد على ما يعرف في أصول الفقه.
والأصل أن كل ذلك محتمَل ولا ترجيح، فتعيّن ما قاله القاضي من الوقف.
ويتأيّد الإشكال بأنه قد جاء في كتاب الله عز وجل كِلاَ الأمرين؛ فإن آية المحاربة فيها عود الضمير إلى الجميع باتفاق، وآية قتل المؤمن خطأ فيها ردّ الاستثناء إلى الأخيرة باتفاق، وآية القذف محتملة للوجهين، فتعيّن الوقف من غير مَيْن.
قال علماؤنا: وهذا نظر كليّ أصولي.
ويترجح قول مالك والشافعيّ رحمهما الله من جهة نظر الفقه الجزئي بأن يقال: الاستثناء راجع إلى الفسق والنهي عن قبول الشهادة جميعًا إلا أن يفرق بين ذلك بخبر يجب التسليم له.
وأجمعت الأمة على أن التوبة تمحو الكفر، فيجب أن يكون ما دون ذلك أوْلى؛ والله أعلم.
قال أبو عبيد: الاستثناء يرجع إلى الجمل السابقة؛ قال: وليس مَن نسب إلى الزنى بأعظم جرمًا من مرتكب الزنى، ثم الزاني إذا تاب قبلت شهادته؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا قبل الله التوبة من العبد كان العباد بالقبول أولى؛ مع أن مثل هذا الاستثناء موجود في مواضع من القرآن؛ منها قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ إلى قوله إِلاَّ الذين تَابُواْ} [المائدة: 33].
ولا شك أن هذا الاستثناء إلى الجميع؛ وقال الزجاج: وليس القاذف بأشد جرمًا من الكافر، فحقه إذا تاب وأصلح أن تقبل شهادته.
قال: وقوله: {أَبَدًا} أي ما دام قاذفًا؛ كما يقال: لا تقبل شهادة الكافر أبدًا؛ فإن معناه ما دام كافرًا.
وقال الشَّعْبِي للمخالف في هذه المسألة: يقبل الله توبته ولا تقبلون شهادته! ثم إن كان الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة عند أقوام من الأصوليين فقوله: {وأولئك هم الفاسِقون} تعليل لا جملة مستقلة بنفسها؛ أي لا تقبلوا شهادتهم لفسقهم، فإذا زال الفسق فلمَ لا تقبل شهادتهم.
ثم توبة القاذف إكذابه نفسه، كما قال عمر لقَذَفة المغيرة بحضرة الصحابة من غير نكير، مع إشاعة القضية وشهرتها من البصرة إلى الحجاز وغير ذلك من الأقطار.
ولو كان تأويل الآية ما تأوّله الكوفيون لم يجز أن يذهب علم ذلك عن الصحابة، ولقالوا لعمر: لا يجوز قبول توبة القاذف أبدًا، ولم يسعهم السكوت عن القضاء بتحريف تأويل الكتاب؛ فسقط قولهم، والله المستعان.
الخامسة والعشرون: قال القشيريّ: ولا خلاف أنه إذا لم يجلد القاذف بأن مات المقذوف قبل أن يطالِب القاذفَ بالحدّ، أو لم يرفع إلى السلطان، أو عفا المقذوف، فالشهادة مقبولة؛ لأن عند الخصم في المسألة النهي عن قبول الشهادة معطوف على الجلد؛ قال الله تعالى: {فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا}.
وعند هذا قال الشافعيّ: هو قبل أن يُحَدّ شرّ منه حين حُدّ؛ لأن الحدود كفارات فكيف تردّ شهادته في أحسن حاليه دون أخسهما.
قلت: هكذا قال ولا خلاف.
وقد تقدم عن ابن الماجشون أنه بنفس القذف تردّ شهادته.
وهو قول الليث والأوزاعيّ والشافعيّ: تردّ شهادته وإن لم يحدّ؛ لأنه بالقذف يفسق، لأنه من الكبائر فلا تقبل شهادته حتى تصح براءته بإقرار المقذوف له بالزنى أو بقيام البينة عليه.
السادسة والعشرون: قوله تعالى: {وَأَصْلَحُواْ} يريد إظهار التوبة.
وقيل: وأصلحوا العمل.
{فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} حيث تابوا وقبلت توبتهم. اهـ.

.قال أبو حيان:

والقذف الرمي بالزنا وغيره، والمراد به هنا الزنا لاعتقابه إياه ولاشتراط أربعة شهداء وهو مما يخص القذف بالزنا إذ في غيره يكفي شاهدان.
قال ابن جبير: ونزلت بسبب قصة الإفك.
وقيل: بسبب القذفة عامًا، واستعير الرمي للشتم لأنه إذاية بالقول.
كما قال:
وجرح اللسان كجرح اليد

وقال:
رماني بأمر كنت منه ووالدي ** بريئًا ومن أجل الطويّ رماني

و{المحصنات} الظاهر أن المراد النساء العفائف، وخص النساء بذلك وإن كان الرجال يشركونهن في الحكم لأن القذف فيهن أشنع وأنكر للنفوس، ومن حيث هن هوى الرجال ففيه إيذاء لهن ولأزواجهن وقراباتهن.
وقيل: المعنى الفروج المحصنات كما قال: {والتي أحصنت فرجها} وقيل: الأنفس المحصنات وقاله ابن حزم: وحكاه الزهراوي فعلى هذين القولين يكون اللفظ شاملًا للنساء وللرجال، ويدل على الثاني قوله: {والمحصنات من النساء} وثم محذوف أي بالزنا، وخرج بالمحصنات من ثبت زناها أو زناه، واستلزم الوصف بالإحصان الإسلام والعقل والبلوغ والحرية.
قال أبو بكر الرازي: ولا نعلم خلافًا بين الفقهاء في هذا المعنى، والمراد بالمحصنات غير المتزوجات الرامين أو لمن زوجه حكم يأتي بعد ذلك، والرمي بالزنا الموجب للحد هو التصريح بأن يقول: يا زانية، أو يا زاني، أو يا ابن الزاني وابن الزانية، يا ولد الزنا لست لأبيك لست لهذه وما أشبه ذلك من الصرائح، فلو عرض كأن يقول: ما أنا بزان ولا أمي بزانية لم يحد في مذهب أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد وابن شبرمة والثوري والحسن بن صالح والشافعي، ويحد في مذهب مالك، وثبت الحد فيه عن عمر بعد مشاورته الناس وقال أحمد وإسحاق هو قذف في حال الغضب دون الرضا، فلو قذف كتابيًا إذا كان للمقذوف ولد مسلم.
وقيل: إذا قذف الكتابية تحت المسلم حُدّ وأتفقوا على أن قاذف الصبي لا يُحَد وإن كان مثله يجامع، واختلفوا في قاذف الصبية.
فقال مالك: يحد إذا كان مثلها يجامع.
وقال مالك والليث: يحد إذا كان مثلها يجامع.
وقال مالك والليث: يحد قاذف المجنون.
وقال غيرهما: لا يحد.
{والذين يرمون} ظاهره الذكور وحكم الراميات حكمهم، ولو قذف الصبي أو المجنون زوجته أو أجنبية فلا حدّ عليه أو أخرس وله كناية معروفة أو إشارة مفهومة حد عند الشافعي.