فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، تحقيقًا في بحث قبول الشهادة بعد التوبة، جديرًا بأن يؤثر. قال رحمه الله: وقوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} نصُّ في أن هؤلاء القذفة لا تقبل شهادتهم أبدًا. واحدًا كانوا أو عددًا. بل لفظ الآية ينتظم العدد على سبيل الجمع والبدل، لأنها نزلت في أهل الإفك باتفاق أهل العلم والحديث والفقه والتفسير. وكان الذين قذفوا عائشة عددًا، ولم يكونوا واحدًا لما رأوها قدمت صحبة صفوان بن المعطل، بعد قفول العسكر، وكانت قد ذهبت تطلب قلادة لها فُقدت، فرفعوا هودجها معتقدين أنها فيه لخفتها، ولم تكن فيه. فلما رجعت لم تجد أحدًا فمكثت مكانها. وكان صفوان قد تخلف وراء الجيش. فلما رآها أعرض بوجهه عنها وأناخ راحلته حتى ركبتها. ثم ذهب إلى العسكر فكانت خلوته بها للضرورة. كما يجوز للمرأة أن تسافر بلا محرم للضرورة كسفر الهجرة مثل ما قدمت أم كلثوم بنت عقبة مهاجرة وقصة عائشة.
ودلت الآية على أن القاذفين لا تقبل شهادتهم مجتمعين ولا متفرقين. ودلت الآية على أن شهادتهم بعد التوبة مقبولة كما هو مذهب الجمهور. فإنه كان من جملتهم مسطح وحسان وحمنة. ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يردّ شهادة أحد منهم، ولا المسلمون بعده لأنه كلهم تابوا لما نزل القرآن ببراءتها. ومن لم يتب حينئذ، فإنه كافر مكذب بالقرآن. وهؤلاء مازالوا مسلمين وقد نهى الله عن قطع صلتهم. ولو ردت شهادتهم بعد التوبة لاستفاض ذلك كما استفاض رد عمر شهادة أبي بكرة. وقصة عائشة أعظم من قصة المغيرة. لكن من رد شهادة القاذف بعد التوبة يقول: أرد شهادة من حُدّ في القذف. وهؤلاء لم يحدوا. والأولون يجيبون بأجوبة: أحدها: أنه قد روي في السنن أنهم حدوا. الثاني: أن هذا الشرط غير معتبر في ظاهر القرآن، وهم لا يقولون به. الثالث: أن الذين اعتبروا الحد واعتبروه وقالوا: قد يكون القاذف صادقًا وقد يكون كاذبًا. فإعراض المقذوف عن طلب الحد قد يكون لصدق القاذف. فإذا طلبه ولم يأت القاذف بأربعة شهداء ظهر كذبه. ومعلوم أن الذين قذفوا عائشة ظهر كذبهم أعظم من ظهور كذب كل أحد. فإن الله عز وجل هو الذي برأها بكلامه الذي أنزله من فوق سبع سموات يتلى، فإذا كانت شهادتهم مقبولة، فغيرهم أولى. وقصة عمر التي حكم فيها بين المهاجرين والأنصار، في شأن المغيرة، دليل على الفصلين جميعًا. لما توقف الرابع فجلد الثلاثة دونه ورد شهادتهم لأن اثنين من الثلاثة تابا فقبل شهادتهما. والثالث، هو أبو بكرة، مع كونه من أفضلهم، لم يتب فلم يقبل المسلمون شهادته. وقد قال عمر: تب أقبل شهادتك. لكن إذا كان القرآن قد بين أنهم إن لم يأتوا بأربعة شهداء لم تقبل شهادتهم أبدًا، ثم قال بعد ذلك: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} فمعلوم أن قوله: {هُمُ الْفَاسِقُونَ} وصف ذم لهم زائد على رد الشهادة.
وأما تفسير العدالة فإنها الصلاح في الدين والمروءة. وإذا وجد هذا في شخص كان عدلًا في شهادته وكان من الصالحين، وأما أنه لا يستشهد أحد في وصية ولا رجعة في جميع الأمكنة والأزمنة حتى يكون بهذه الصفة، فليس في كتاب الله وسنة رسوله ما يدل على ذلك، بل هذا صفة المؤمن الذي أكمل إيمانه بأداء الواجبات وإن كان المستحبات لم يكملها. ومن كان كذلك كان من أولياء الله المتقين.
ثم إن القائلين بهذا قد يفسرون الواجبات بالصلوات الخمس ونحوها، بل قد يجب على الإنسان من حقوق الله وحقوق عباده ما لا يحصيه إلا الله، مما يكون تركه أعظم إثما من شرب الخمر والزنى ومع ذلك لم يجعلوه قادحا في عدالته، إما لعدم استشعار كثرة الواجبات، وإما لالتفافهم إلى ترك السيئات دون فعل الواجبات، وليس الأمر كذلك في الشريعة. وبالجملة، فهذا معتبر في باب الثواب والعقاب والمدح والذم والموالاة والمعاداة، وهذا أمر عظيم. وباب الشهادة مداره على أن يكون الشهيد مرضيًّا، أو يكون ذا عدل بتحري القسط والعدل في أقواله وأفعاله. والصدق في شهادته وخبره. وكثيرًا ما يوجد هذا مع الإخلال بكثير من تلك الصفات. كما أن الصفات التي اعتبروها كثيرا ما توجد بدون هذا كما قد رأينا كل واحد من الصنفين كثيرًا. لكن يقال: إن ذلك مظنة الصدق والعدل والمقصود من الشهادة ودليل عليها وعلامة لها. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث المتفق على صحته: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة..» الحديث. فالصدق مستلزم للبر، كما أن الكذب مستلزم للفجور. فإذا وجد الملزوم، وهو تحري الصدق، وجد اللازم وهو البر. وإذا انتفى اللازم وهو البر انتفى الملزوم وهو الصدق. وإذا وجد الكذب وهو الملزوم وجد الفجور وهو اللازم. وإذا انتفى اللازم وهو الفجور انتفى الملزوم وهو الكذب، ولهذا يستدل بعدم بر الرجل على كذبه. وبعدم فجوره على صدقه. فالعدل الذي ذكروه؛ من انتفى فجوره. وهو إتيان الكبيرة والإصرار على الصغيرة. وإذا انتفى ذلك فيه، انتفى كذبه الذي يدعوه إلى الفجور. والفاسق هو من عدم بره، وإذا عدم بره عدم صدقه. ودلالة هذا الحديث مبنية على أن الداعي إلى البر يستلزم البر، والداعي إلى الفجور يستلزم الفجور. فالخطأ كالنسيان والعمد كالكذب. انتهى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}.
كان فاشيًا في الجاهلية رمي بعضهم بعضًا بالزنى إذا رأوا بين النساء والرجال تعارفًا أو محادثة.
وكان فاشيًا فيهم الطعن في الأنساب بهتانًا إذا رأوا قلة شبه بين الأب والابن، فكان مما يقترن بحكم حد الزنى أن يذيل بحكم الذين يرمون المحصنات بالزنى إذا كانوا غير أزواجهن وهو حد القذف.
وقد تقدم وجه الاقتران بالفاء في قوله: {الزانية والزاني فاجلدوا} [النور: 2] الآية.
والرمي حقيقته: قذف شيء من اليد.
وشاع استعماله في نسبة فعل أو وصف إلى شخص.
وتقدم في قوله تعالى: {ثم يرم به بريئًا} في سورة النساء (112).
وحذف المرمي به في هذه الآية لظهور المقصود بقرينة السياق وذكر المحصنات.
والمحصنات: هن المتزوجات من الحرائر.
والإحصان: الدخول بزوج بعقد نكاح.
والمحصن: اسم مفعول من أحصن الشيء إذا منعه من الإضاعة واستيلاء الغير عليه، فالزوج يحصن امرأته، أي يمنعها من الإهمال واعتداء الرجال.
وهذا كتسمية الأبكار مخدّرات ومقصورات، وتقدم في سورة النساء.
ولا يطلق وصف {المحصنات} إلا على الحرائر المتزوجات دون الإماء لعدم صيانتهن في عرف الناس قبل الإسلام.
وحذف متعلق الشهادة لظهور أنهم شهداء على إثبات ما رمى به القاذف، أي إثبات وقوع الزنى بحقيقته المعتد بها شرعًا، ومن البيِّن أن الشهداء الأربعة هم غير القاذف لأن معنى {يأتوا بأربعة شهداء} لا يتحقق فيما إذا كان القاذف من جملة الشهداء.
والجلد تقدم آنفًا.
وشرع هذا الجلد عقابًا للرامي بالكذب أو بدون تثبت ولسد ذريعة ذلك.
وأسند فعل {يرمون} إلى اسم موصول المذكر وضمائر {تابوا وأصلحوا} وكذلك وصف {الفاسقون} بصيغ التذكير، وعدي فعل الرمي إلى مفعول بصيغة الإناث كل ذلك بناء على الغالب أو على مراعاة قصة كانت سب نزول الآية ولكن هذا الحكم في الجميع يشمل ضد أهل هذه الصيغة في مواقعها كلها بطريق القياس.
ولا اعتداد بما يتوهم من فارق إلصاق المعرة بالمرأة إذا رميت بالزنى دون الرجل يرمى بالزنى لأن جعل العار على المرأة تزني دون الرجل يزني إنما هو عادة جاهلية لا التفات إليها في الإسلام فقد سوى الإسلام التحريم والحد والعقاب الآجل والذم العاجل بين المرأة والرجل.
وقد يعد اعتداء الرجل بزناه أشد من اعتداء المرأة بزناها لأن الرجل الزاني يضيع نسب نسله فهو جان على نفسه، وأما المرأة فولدها لاحق بها لا محالة فلا جناية على نفسها في شأنه، وهما مستويان في الجناية على الولد بإضاعة نسبه فهذا الفارق الموهوم ملغى في القياس.
أما عدم قبول شهادة القاذف في المستقبل فلأنه لما قذف بدون إثبات قد دل على تساهله في الشهادة فكان حقيقًا بأن لا يؤخذ بشهادته.
والأبد: الزّمن المستقبل كله.
واسم الإشارة للإعلان بفسقهم ليتميزوا في هذه الصفة الذميمة.
والحصر في قوله: {وأولئك هم الفاسقون} للمبالغة في شناعة فسقهم حتى كأن ما عداه من الفسوق لا يعد فسقًا.
والاستثناء في قوله: {إلا الذين تابوا} حقه أن يعود إلى جميع ما تقدم قبله كما هو شأن الاستثناء عند الجمهور إلا أنه هنا راجع إلى خصوص عدم قبول شهادتهم وإثبات فسقهم وغير راجع إلى إقامة الحد، بقرينة قوله: {من بعد ذلك} أي بعد أن تحققت الأحكام الثلاثة فالحد قد فات على أنه قد علم من استقراء الشريعة أن الحدود الشرعية لا تسقطها توبة مقترف موجبها وقال أبو حنيفة وجماعة: الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة جريًا على أصله في عود الاستثناء الوارد بعد جمل متعاطفة.
والتوبة: الإقلاع والندم وظهور عزمه على أن لا يعود لمثل ذلك.
وقد تقدم ذكر التوبة في سورة النساء (17) عند قوله تعالى: {إنما التوبة على الله} الآيات.
وليس من شرط التوبة أن يكذب نفسه فيما قذف به عند الجمهور، وهو قول مالك، لأنه قد يكون صادقًا ولكنه عجز عن إثبات ذلك بأربعة شهداء على الصفة المعلومة، فتوبته أن يصلح ويحسن حاله ويتثبت في أمره.
وقال قوم: لا تعتبر توبته حتى يكذب نفسه.
وهذا قول عمر بن الخطاب والشعبي، ولم يقبل عمر شهادة أبي بكرة لأنه أبى أن يكذب نفسه فيما رمى به المغيرة بن شعبة.
وقبل من بعد شهادة شبل بن معبد ونافع بن كلدة لأنهما أكذبا أنفسهما في تلك القضية وكان عمر قد حد ثلاثتهم حد القذف.
ومعنى {أصلحوا} فعلوا الصلاح، أي صاروا صالحين.
فمفعول الفعل محذوف دل عليه السياق، أي أصلحوا أنفسهم باجتناب ما نهوا عنه، وقد تقدم عند قوله تعالى: {قالوا إنما نحن مصلحون} [البقرة: 11]، وقوله: {إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا} في سورة البقرة (160).
وفرع {فإن الله غفور رحيم} على ما يقتضيه الاستثناء من معنى: فاقبلوا شهادتهم واغفروا لهم ما سلف فإن الله غفور رحيم، أي فإن الله أمر بالمغفرة لهم لأنه غفور رحيم، كما قال في آية البقرة (160): {إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم}.
وإنما صرح في آية البقرة بما قدر نظيره هنا لأن المقام هنالك مقام إطناب لشدة الاهتمام بأمرهم إذ ثابوا إلى الإيمان والإصلاح وبيان ما أنزل إليهم من الهدى بعدما كتموه وكتمه سلفهم.
وظاهر الآية يقتضي أن حد القذف حق لله تعالى، وهو قول أبي حنيفة.
وقال مالك والشافعي: حق للمقذوف.
ويترتب على الخلاف سقوطه بالعفو من المقذوف.
وهذه الآية أصل في حد الفرية والقذف الذي كان أول ظهوره في رمي المحصنات بالزنى.
فكل رمي بما فيه معرة موجب للحد بالإجماع المستند للقياس. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}.
قوله تعالى في هذه الآية: يرمون معناه: يقذفون المحصنات بالزنا صريحًا أو ما يستلزم الزنا كنفي نسب ولد المحصنة عن أبيه، لأنه إن كان من زنى، وهذا القذف هو الذي أوجب الله تعالى يه ثلاثة أحكام:
الأول: جلد القاذف ثمانين جلدة.
والثاني: عدم قبول شهادته.
والثالث: الحكم عليه بالفسق.
فإن قيل: اين الدليل من القرآن على أن معنى يرمون المحصنات في هذه الآية: هو القذف بصريح الزنى، أو بما يستلزمه كنفي النسب.