فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)}.
لئلا يستبيحوا أعراضَ المسلمين، ولئلا يهتكوا أستارَ الناس أمَرَ بتأديبِهم، وإقامةِ الحدِّ عليهم إذا لم يأتوا بالشهداء.
ثم بالَغَ في عدد الشهود، وألاَّ تُقْبَلَ تلك الشهادةُ إلاَّ بالتضرع التام، ثم أكمله بقوله: {وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا}. وفي الخبر المسند قوله عليه السلام: «مَنْ أتى منكم بشيءٍ من هذه القاذورات فليستتر بستر الله، فإنَّ مَنْ أبدى لنا صفحته، أقمنا عليه حدَّ الله».
{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}.
جَعَلَ من شرطِ قبولِ شهادِتِهِ صِحَّةَ توبته، وجعل علامةَ صحةِ توبته إصلاحَه، فقال {وَأَصْلَحُوا} وهو أن تأتي على توبته مدةٌ تنتشر فيها بالصلاح صفتُه، كما اشتَهَرَتْ بِهَتْكِ أعراضِ المسلمين قالتهُ.... كلُّ هذا تشديدًا لمن يحفظ على المسلمين ظاهر صلاحه. اهـ.

.كلام جامع للماوردي في باب القذف:

قال عليه الرحمة ما نصه:

.باب حَدِّ الْقَذْفِ:

مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذَا قَذَفَ الْبَالِغُ حُرًّا بَالِغًا مُسْلِمًا، أَوْ حُرَّةً بَالِغَةً مُسْلِمَةً حُدَّ ثَمَانِينَ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْأَصْلُ فِي تَحْرِيمِ الْقَذْفِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النُّورِ: 23] وَرَوَى حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَذْفُ مُحْصَنَةٍ يُحْبِطُ عَمَلَ مِائَةِ سَنَةٍ». وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَقَامَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَاجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ السَّبْعَ، نُودِيَ فِي الْقِيَامَةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَةَ مِنْ أَيِّ بَابٍ شَاءَ» قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عُمَرَ الْكَبَائِرُ السَّبْعُ سَمِعْتَهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ، وَالْقَتْلُ، وَالْفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالزِّنَا»، وَقَدْ كَانَ مِنْ شَأْنِ عَائِشَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا فِي الْإِفْكِ عَلَيْهَا مَا بَرَّأَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ. وَسَبَبُهُ: أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ، وَهِيَ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلَقِ سَنَةَ سِتٍّ، فَضَاعَ عِقْدٌ لَهَا مِنْ جِزْعِ أَظْفَارٍ وَقَدْ تَوَجَّهَتْ لِحَاجَتِهَا، فَعَادَتْ فِي طَلَبِهِ وَرَحَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَنْزِلِهِ، وَرَفَعَ هَوْدَجَهَا وَلَمْ يَشْعُرْ بِهَا أَنَّهَا لَيْسَتْ فِيهِ لِخِفَّتِهَا، وَعَادَتْ فَلَمْ تَرَ فِي الْمَنْزِلِ أَحَدًا، فَأَدْرَكَهَا صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ فَحَمَلَهَا عَلَى رَاحِلَتِهِ وَأَلْحَقَهَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَكَلَّمَ فِيهَا وَفِي صَفْوَانَ مَنْ تَكَلَّمَ، وَقَدِمَتِ الْمَدِينَةَ وَانْتَشَرَ الْإِفْكُ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ، ثُمَّ عَلِمَتْ فَأَخَذَهَا مِنْهُ كُلُّ عَظِيمٍ إِلَى أَنْ أَنْزَلَ تَعَالَى بَرَاءَتَهَا بَعْدَ شَهْرٍ مِنْ قُدُومِ الْمَدِينَةِ مَا أَنْزَلَ، فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النُّورِ: 11]، وَفِي الْمُرَادِ بِالْإِفْكِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْإِثْمُ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْكَذِبُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَزُعَمَاءُ الْإِفْكِ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، وَزَيْدُ بْنُ رِفَاعَةَ، وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النُّورِ: 11]، أَيْ: لَا تَحْسَبُوا مَا ذُكِرَ مِنَ الْإِفْكِ شَرًّا لَكُمْ، أَيْ: أَذًى، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ بَرَّأَ مِنْهُ وَأَثَابَ عَلَيْهِ، وَفِي الْمَقْصُودِ بِهَذَا الْقَوْلِ وَجْهَان:
أحدهما: عَائِشَةُ وَصَفْوَانُ: لِأَنَّهُمَا قُصِدَا بِالْإِفْكِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} [النُّورِ: 11]، أَيْ: لَهُ عِقَابُ مَا اكْتَسَبَ بِقَدْرِ إِثْمِهِ {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} [النُّورِ: 11]، فِيهِ قِرَاءَتَانِ: {كِبْرَهُ} بِكَسْرِ الْكَافِ وَمَعْنَاهُ إِثْمَهُ. وَقُرِئَ بِضَمِّ الْكَافِ وَمَعْنَاهُ بِعِظَمِهِ. وَمُتَوَلِّي كِبْرِهِ مِنْهُمْ: حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ، {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النُّورِ: 11]، فِيهِ وَجْهَان:
أحدهما: أَنَّهُ حَدُّ الْقَذْفِ الَّذِي أَقَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، قَالَهُ عُرْوَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، حَتَّى قَالَ فِيهِ بَعْضُ شُعَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ: لَقَدْ ذَاقَ حَسَّانُ الَذِي كَانَ أَهْلُهُ وَحَمْنَةُ إِذْ قَالَا فُجُورًا وَمِسْطَحُ تَعَاطَوْا بِرَجْمِ الْغَيْبِ زَوْجَ نَبِيِّهِمْ وَسُخْطَةَ ذِي الْعَرْشِ الْعَظِيمِ فَأَبْرَحُوا فَصُبَّتْ عَلَيْهِمْ مُحْصَدَاتٌ كَأَنَّهَا شَآبِيبُ قَطْرٍ مِنْ ذُرَى الْمُزْنِ تُسْفَحُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَجْلِدْهُمْ: لِأَنَّ الْحُدُودَ إِنَّمَا تُقَامُ بِإِقْرَارٍ أَوْ بِبَيِّنَةٍ، وَلَا تُقَامُ بِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهَا، كَمَا لَمْ يَتَعَبَّدْنَا بِقَتْلِ الْمُنَافِقِينَ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ كُفْرِهِمْ، وَالْعَذَابُ الْعَظِيمُ هُوَ أَنَّ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ، وَمِسْطَحَ بْنَ أَثَاثَةَ عَمِيَا، وَحَمْنَةَ بِنْتَ جَحْشٍ اسْتُحِيضَتْ، وَاتَّصَلَ دَمُهَا عُقُوبَةً لِمَا كَانَ مِنْهَا.
فصل: ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَلَّظَ تَحْرِيمَ الْقَذْفِ بِالزِّنَا بِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ فَقَالَ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النُّورِ: 4]، يَعْنِي بِالزِّنَا {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النُّورِ: 4]. فَغَلَّظَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: الْحَدُّ، وَالْفِسْقُ، وَالْمَنْعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَلَمْ يُوجِبْ بِالْقَذْفِ بِغَيْرِ الزِّنَا مِنَ الْكُفْرِ وَسَائِرِ الْفَوَاحِشِ حَدًّا: لِأَنَّ الْقَذْفَ بِالزِّنَا أَعَرُّ وَهُوَ بِالنَّسْلِ أَضَرُّ، وَلِأَنَّ الْمَقْذُوفَ بِالْكُفْرِ يَقْدِرُ عَلَى نَفْيِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِإِظْهَار الشَّهَادَتَيْنِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْيِ الزِّنَا عَنْ نَفْسِهِ. وَجَعَلَ حَدَّهُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً: لِأَنَّ الْقَذْفَ بِالزِّنَا أَقَلُّ مِنْ فِعْلِ الزِّنَا فَكَانَ أَقَلَّ حَدًّا مِنْهُ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَاسَ عَلَيْهِ حَدَّ شَارِبِ الْخَمْرِ فَقَالَ: لِأَنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ، وَإِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، وَحَدُّ الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْقَاذِفِ وَالْمَقْذُوفِ:

فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ ثَمَانُونَ جَلْدَةً فَهُوَ أَكْمَلُ حُدُودِهِ، وَكَمَالُهُ مُعْتَبَرٌ بِشُرُوطٍ فِي الْمَقْذُوفِ وَشُرُوطٍ فِي الْقَاذِفِ. فَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْمَقْذُوفِ فَخَمْسَةٌ: الْبُلُوغُ، وَالْعَقْلُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْإِسْلَامُ، وَالْعِفَّةُ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ فِي حَدِّ الْقَاذِفِ إِحْصَانَ الْمَقْذُوفِ، فَقَالَ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النُّورِ: 4]، فَاعْتُبِرَ بِالْبُلُوغِ لِنَقْصِ الصِّغَرِ. وَاعْتُبِرَ بِالْعَقْلِ لِنَقْصِ الْجُنُونِ. وَاعْتُبِرَ بِالْحُرِّيَّةِ لِنَقْصِ الرِّقِّ. وَاعْتُبِرَ بِالْإِسْلَامِ لِنَقْصِ الْكُفْرِ. وَاعْتُبِرَ بِالْعِفَّةِ لِنَقْصِ الزِّنَا، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النُّورِ: 4]، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا أَتَوْا بِالشُّهَدَاءِ لَمْ يُحَدُّوا، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ} [النُّورِ: 23]، أَنَّهُ أَرَادَ الْغَافِلَاتِ عَنِ الْفَوَاحِشِ بِتَرْكِهَا. وَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِنُقْصَانِهِمَا عَنْ كَمَالِ الْإِحْصَانِ.
وَالثَّانِي: لِأَنَّهُمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا بِالزِّنَا حَدٌّ، فَلَمْ يَجِبْ لَهُمَا بِالْقَذْفِ حَدٌّ. وَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ عَبْدًا فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ. وَقَالَ دَاوُدُ: يُحَدُّ قَاذِفُهُ لِعُمُومِ الظَّاهِرِ، وَلِأَنَّهُ يُحَدُّ بِالزِّنَا فَحُدَّ لَهُ الْقَاذِفُ بِالزِّنَا كَالْحُرِّ. وَهَذَا خَطَأٌ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ فِيهِ الْإِحْصَانَ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ عَلَى الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَا شُرِطَا فِيهِ، وَلِأَنَّ فِعْلَ الزِّنَا أَغْلَظُ مِنَ الْقَذْفِ، فَلَمَّا مَنَعَهُ نَقْصُ الرِّقِّ مِنْ كَمَالِ حَدِّ الزِّنَا كَانَ أَوْلَى أَنْ يُمْنَعَ مِنْ حَدِّ قَذْفِهِ بِالزِّنَا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا مَنَعَهُ نَقْصُ الرِّقِّ أَنْ تُؤْخَذَ بِنَفْسِهِ نَفْسُ حُرٍّ كَانَ أَوْلَى أَنْ يُمْنَعَ أَنْ يُؤْخَذَ بِعِرْضِهِ عَنْ عِوَضِ حُرٍّ. فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي إِذَا قَذَفَهُ عَبْدٌ مِثْلُهُ أَنْ يُحَدَّ لِقَذْفِهِ كَمَا يُقْتَصُّ بِقَتْلِهِ. قِيلَ: هَذَا لَا يَلْزَمُ: لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ قَدْ عَدِمَ شَرْطَ الْإِحْصَانِ فَسَقَطَ حَدُّ قَذْفِهِ وَإِنْ سَاوَاهُ الْقَاذِفُ، كَمَا لَوْ كَانَ غَيْرَ عَفِيفٍ فَقَذَفَهُ غَيْرُ عَفِيفٍ لَمْ يُحَدَّ، وَإِنِ اسْتَوَيَا فِي سُقُوطِ الْعِفَّةِ لِعَدَمِ شَرْطِ الْإِحْصَانِ، وَكَذَلِكَ قَذْفُ الْعَبْدِ لِلْعَبْدِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِّهِ بِالزِّنَا: فَلِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا عَلَيْهِ وَحَدُّ الْقَذْفِ لَهُ، وَنَقْصُهُ مُؤَثِّرٌ فِي الْحَقِّ الَّذِي لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ، كَالْقِصَاصِ لَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَى الْحُرِّ، وَيَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ الْحُرُّ. وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْمَقْذُوفُ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتِبًا أَوْ مَنْ رُقَّ بَعْضُهُ وَإِنْ قَلَّ فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ، سَوَاءٌ سَاوَاهُ فِي الرِّقِّ أَوْ فُضِّلَ عَلَيْهِ بِالْحُرِّيَّةِ، لَكِنْ يُعَزَّرُ لِلْأَذَى، وَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ كَافِرًا فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا: لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ عَدَمِ شَرْطَ الْإِحْصَانِ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَأْخُذْ نَفْسَ الْمُسْلِمِ بِنَفْسِ الْكَافِرِ لَمْ يُؤْخَذْ عِرْضُهُ بِعِرْضِهِ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْمَقْذُوفُ غَيْرَ عَفِيفٍ فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ، وَسَنَذْكُرُ مَا تَسْقُطُ بِهِ الْعِفَّةُ مِنْ بَعْدُ.
فصل: وَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْقَاذِفِ فَثَلَاثَةُ شُرُوطٍ: الْبُلُوغُ، وَالْعَقْلُ، وَالْحُرِّيَّةُ، فَإِذَا اسْتَكْمَلَهَا الْقَاذِفُ حُدَّ حَدًّا كَامِلًا إِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ كَامِلًا. فَإِنْ أَخَلَّ بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ بِالْقَذْفِ: لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُ، وَلِأَنَّهُ لَا يُحَدَّ بِالزِّنَا، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يُحَدَ لِلْقَذْفِ بِالزِّنَا. وَإِنْ كَانَ الْقَاذِفُ عَبْدًا حُدَّ بِالْقَذْفِ أَرْبَعِينَ نِصْفَ حَدِّ الْحُرِّ. وَقَالَ دَاوُدُ: يُحَدُّ ثَمَانِينَ حَدًّا كَامِلًا كَالْحُرِّ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالزُّهْرِيِّ تَعَلُّقًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النُّورِ: 4]، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ: لِأَنَّ فِعْلَ الزِّنَا أَغْلَظُ مِنَ الْقَذْفِ بِهِ، وَهُوَ لَا يُسَاوِي الْحُرَّ فِي حَدِّ الزِّنَا، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يُسَاوِيَهُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ بِالزِّنَا. رُوِيَ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَدْرَكْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَمَنْ بَعْدَهُمَا مِنَ الْخُلَفَاءِ فَلَمْ أَرَهُمْ يَضْرِبُونَ الْمَمْلُوكَ فِي الْقَذْفِ إِلَّا أَرْبَعِينَ فَكَانَ إِجْمَاعًا. فَأَمَّا الْآيَةُ فَوَارِدَةٌ فِي الْأَحْرَارِ: لِأَنَّهُ مَنَعَ فِيهَا مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ لِقَذْفِهِمْ، وَالْعَبْدُ لَا تُسْمَعُ شَهَادَتُهُ قَاذِفًا أَوْ غَيْرَ قَاذِفٍ، فَإِنْ كَانَ الْقَاذِفُ كَافِرًا حُدَّ حَدًّا كَامِلًا: لِأَنَّهُ يَنْقُصُ عَنِ الْمُسْلِمِ فِي الْحَقِّ الَّذِي لَهُ، وَلَا يَنْقُصُ عَنْهُ فِي الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ قَذَفَ نَفَرًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَدُّهُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَذْفُ الْوَاحِدِ لِلْجَمَاعَةِ ضَرْبَان:
أحدهما: أَنْ يُفْرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْقَذْفِ فَيَقْذِفُهُ بِكَلِمَةٍ مُفْرَدَةٍ، فَلَا تَتَدَاخَلُ حُدُودُهُمْ، وَيُحَدُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَدًّا مُفْرَدًا.