فصل: باب اللِّعَانِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قِيلَ لَهُ: لَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْت؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي لَمْ يَشْهَدْ بِمَا شَهِدَ بِهِ الْآخَرُونَ لَمْ يَنْفَرِدْ عَنْهُمْ بَلْ جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ مَجِيءَ الشَّهَادَةِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ شَهِدُوا بِالزِّنَا فَلَمَّا اسْتَثْبَتُوا بِالرَّجُلِ أَنْ يُصَرِّحَ بِمَا صَرَّحَ بِهِ الثَّلَاثَةُ فَأَمَرَ عُمَرُ بِأَنْ يُوقَفَ الرَّجُلُ، فَإِنْ أَتَى بِالتَّفْسِيرِ عَلَى مَا أَتَى بِهِ الْقَوْمُ حُدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ هُوَ لَمْ يَأْتِ بِالتَّفْسِيرِ أُبْطِلَ شَهَادَتُهُ وَجُعِلَ الثَّلَاثَةُ مُنْفَرِدِينَ فَحَدَّهُمْ، وَلَمْ يَقُلْ عُمَرُ إنْ جَاءَ رَابِعٌ فَشَهِدَ مَعَهُمْ فَاقْبَلْ شَهَادَتَهُمْ فَيَكُونُ قَابِلًا لِشَهَادَةِ الثَّلَاثَةِ الْمُنْفَرِدِينَ مَعَ وَاحِدٍ جَاءَ بَعْدَهُمْ؛ وَقَدْ جَلَدَ أَبَا بَكْرَةَ وَأَصْحَابَهُ لَمَّا نَكَلَ زِيَادٌ عَنْ الشَّهَادَةِ وَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ ائْتُوا بِشَاهِدٍ آخَرَ يَشْهَدُ بِمِثْلِ شَهَادَتِكُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلَوْ كَانَ قَبُولُ شَهَادَةِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَوْ شَهِدَ مَعَهُمْ جَائِزًا لَوَقَفَ الْأَمْرَ وَاسْتَثْبَتَهُمْ وَقَالَ هَلْ يَشْهَدُ بِمِثْلِ شَهَادَتِكُمْ شَاهِدٌ آخَرُ؟ وَإِذْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ وَلَمْ يُوقِفْ أَمْرَهُمْ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ مِنْ حَدِّهِمْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا قَذَفَةً قَدْ لَزِمَهُمْ الْحَدُّ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُبَرِّئُهُمْ مِنْ الْحَدِّ إلَّا شَهَادَةُ أَرْبَعَةٍ آخَرِينَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهُوَ لَمْ يَقُلْ لَهُمْ هَلْ مَعَكُمْ أَرْبَعَةٌ يَشْهَدُونَ بِمِثْلِ شَهَادَتِكُمْ وَلَمْ يُوقِفْ أَمْرَ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ لِجَوَازِ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ فِي الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ لَوْ شَهِدَ بِمِثْلِ شَهَادَتِهِمْ.
قِيلَ لَهُ: لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَوْ جَاءُوا بِأَرْبَعَةٍ آخَرِينَ يَشْهَدُونَ لَهُمْ بِذَلِكَ لَكَانَتْ شَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةً وَكَانَ الْحَدُّ عَنْهُمْ زَائِلًا، فَلَوْ كَانُوا قَدْ عَلِمُوا أَنَّ هُنَاكَ شُهُودًا أَرْبَعَةً يَشْهَدُونَ بِذَلِكَ لَسَأَلُوهُ التَّوْقِيفَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ أَنْ يُعْلِمَهُمْ ذَلِكَ؛ وَأَمَّا الشَّاهِدُ الْوَاحِدُ لَوْ شَهِدَ مَعَهُمْ فَإِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَخْفَى حُكْمُهُ عَلَيْهِمْ فِي جَوَازِ شَهَادَتِهِ مَعَهُمْ أَوْ بُطْلَانِهَا، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَقْبُولًا لَوَقَفَهُمْ عَلَيْهِ وَأَعْلَمْهُمْ إيَّاهُ حَتَّى يَأْتُوا بِهِ إنْ كَانَ فِيمَنْ يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى الْمَمْلُوكِ فِيمَنْ يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى الْمَمْلُوكِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ: يُقِيمُهُ الْإِمَامُ دُونَ الْمَوْلَى وَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْحُدُودِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَحُدُّهُ الْمَوْلَى فِي الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْقَذْفِ إذَا شَهِدَ عِنْدَهُ الشُّهُودُ، وَلَا يَقْطَعُهُ فِي السَّرِقَةِ وَإِنَّمَا يَقْطَعُهُ الْإِمَامُ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَحُدُّهُ الْمَوْلَى وَيَقْطَعُهُ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يَحُدّهُ الْمَوْلَى فِي الزِّنَا رِوَايَةَ الْأَشْجَعِي، وَذَكَرَ عَنْهُ الْفِرْيَابِيُّ: أَنَّ الْمَوْلَى إذَا حَدَّ عَبْدَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ جَازَتْ شَهَادَتُهُ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَحُدُّهُ الْمَوْلَى.
وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: ضَمِنَ هَؤُلَاءِ أَرْبَعًا: الصَّلَاةَ وَالصَّدَقَةَ وَالْحُدُودَ وَالْحُكْمَ رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ عَوْنٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ بَدَلُ الصَّلَاةِ الْجُمُعَةِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَيْرِيزٍ: الْحُدُودُ وَالْفَيْءُ وَالْجُمُعَةُ وَالزَّكَاةُ إلَى السُّلْطَانِ.
وَقَدْ رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ يَحْيَى الْبَكَّاءِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ ابْنُ عُمَر يَأْمُرُنَا أَنْ نَأْخُذَ عَنْهُ وَهُوَ عَالِمٌ فَخُذُوا عَنْهُ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: الزَّكَاةُ وَالْحُدُودُ وَالْفَيْءُ وَالْجُمُعَةُ إلَى السُّلْطَانِ؛ وَقَدْ قِيلَ إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هَذَا يَظُنُّ أَنَّهُ أَخُو أَبِي بَكْرَةَ وَاسْمُهُ نَافِعٌ.
فَهَؤُلَاءِ السَّلَفُ قَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ ذَلِكَ، وَلَا نَعْلَمُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلَافَهُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ ذَكَرَ إقَامَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ حَدًّا بِالشَّامِ، وَقَالَ الْأَعْمَشُ هُمْ أُمَرَاءُ حَيْثُ كَانُوا.
وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَدْ كَانَ وَلِيَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ الْمَحْدُودَ كَانَ عَبْدَهُ.
فَإِنْ قِيلَ:
رُوِيَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ قَالَ: أَدْرَكْت بَقَايَا الْأَنْصَارِ يَضْرِبُونَ الْوَلِيدَةَ مِنْ وَلَائِدِهِمْ إذَا زَنَتْ فِي مَجَالِسِهِمْ.
قِيلَ لَهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا فَعَلُوا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّعْزِيرِ لَا عَلَى وَجْهِ إقَامَةِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِرَفْعِهَا إلَى الْإِمَامِ بَلْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِالسَّتْرِ عَلَيْهَا وَتَرْكِ رَفْعِهَا إلَى الْإِمَامِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى الْمَمْلُوكِ إلَى الْإِمَامِ دُونَ الْمَوْلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} وَقَالَ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} وَقَدْ عَلِمَ مَنْ قَرَعَ سَمْعَهُ هَذَا الْخِطَابُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ هُمْ الْأَئِمَّةُ دُونَ عَامَّةِ النَّاسِ، فَكَانَ تَقْدِيرُهُ: فَلْيَقْطَعْ الْأَئِمَّةُ وَالْحُكَّامُ أَيْدِيَهُمَا وَلْيَجْلِدْهُمَا الْأَئِمَّةُ وَالْحُكَّامُ.
وَلَمَّا ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ أَنَّ الْمَأْمُورِينَ بِإِقَامَةِ هَذِهِ الْحُدُودِ عَلَى الْأَحْرَارِ هُمْ الْأَئِمَّةُ وَلَمْ تُفَرِّقْ هَذِهِ الْآيَاتُ بَيْنَ الْمَحْدُودِينَ مِنْ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ جَمِيعًا وَأَنْ يَكُونَ الْأَئِمَّةُ هُمْ الْمُخَاطَبُونَ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ دُونَ الْمَوَالِي.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ جَازَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَسْمَعَ شَهَادَةَ الشُّهُودِ عَلَى عَبْدِهِ بِالسَّرِقَةِ فَيَقْطَعَهُ ثُمَّ يَرْجِعَ الشُّهُودُ عَنْ شَهَادَتِهِمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ تَضْمِينُ الشُّهُودِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَضْمِينَ الشُّهُودِ يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بِالشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَحْكُمْ بِشَهَادَتِهِمْ لَمْ يَضْمَنُوا شَيْئًا، فَكَانَ يَصِيرُ حَاكِمًا لِنَفْسِهِ بِإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ لِنَفْسِهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ اسْتِمَاعَ الْبَيِّنَةِ عَلَى عَبْدِهِ بِذَلِكَ وَلَا قَطْعَهُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَوْلَى وَالْأَجْنَبِيَّ سَوَاءٌ فِي حَدِّ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ، بِدَلَالَةِ أَنَّ إقْرَارَهُ بِهِ عَلَيْهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ وَأَنَّ إقْرَارَ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ مَقْبُولٌ وَإِنْ جَحَدَهُ الْمَوْلَى، فَلَمَّا كَانَا فِي ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا جَازَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ وَيُقِيمَ الْحَدَّ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ فِي ثُبُوتِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ عِنْدَهُ فَلِذَلِكَ سَمِعَ الْبَيِّنَةَ وَحَكَمَ بِالْحَدِّ.
فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ إقْرَارُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَلَا يَمْلِكُ مَعَ ذَلِكَ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى نَفْسِهِ.
قِيلَ لَهُ: إذَا كَانَ مَنْ يَجُوزُ إقْرَارَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى نَفْسِهِ فَمَنْ لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ عَلَى عَبْدِهِ أَحْرَى بِأَنْ لَا يُقِيمَ الْحَدَّ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلَا نَجْعَلُ قَوْلَ الْحَاكِمِ عَلَيْهِ عِلَّةَ جَوَازِ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ.
قِيلَ لَهُ: إنَّ قَوْلَ الْحَاكِمِ: قَدْ ثَبَتَ عِنْدِي لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَلَيْسَ بِإِقْرَارٍ مِنْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ حُكْمٌ؛ وَكَذَلِكَ الْبَيِّنَةُ إذَا قَامَتْ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ يُقِيمُ الْحَدَّ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ، فَمَنْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ لَا يَمْلِكُ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ وَلَا إقَامَةَ الْحَدِّ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَبَا يُوسُفَ لَا يَقْبَلَانِ قَوْلَ الْحَاكِمِ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ لِأَنَّهُمَا يَقُولَانِ: لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ فِي الْحُدُودِ.
قِيلَ لَهُ: لَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ الْحَاكِمِ غَيْرُ مَقْبُولٍ إذَا قَالَ: ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدِي بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِإِقْرَارٍ لِأَنَّ مِنْ قَوْلِهِمَا أَنَّ ذَلِكَ مَقْبُولٌ، وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِهِمَا: إنَّهُ لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ فِي الْحُدُودِ أَنَّهُ لَوْ شَاهَدَ رَجُلًا عَلَى زِنًا أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ بِعِلْمِهِ، فَأَمَّا إذَا قَالَ: قَدْ شَهِدَ عِنْدِي شُهُودٌ بِذَلِكَ أَوْ قَالَ: أُقِرَّ عِنْدِي بِذَلِكَ فَإِنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ مِنْهُ فِي ذَلِكَ وَيَسَعُ مَنْ أَمَرَهُ الْحَاكِمُ بِالرَّجْمِ وَالْقَطْعِ أَنْ يَرْجُمَ وَيَقْطَعَ.
وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُ لَنَا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»، وَقَوْلُهُ: «إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا وَإِنْ عَادَتْ فَلْيَجْلِدْهَا وَإِنْ عَادَتْ فَلْيَجْلِدْهَا وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا فَإِنْ عَادَتْ فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ» وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ: «فَلْيُقِمْ عَلَيْهَا الْحَدَّ» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا دَلَالَةَ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَلَى مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وَقَوْلِهِ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ رَفْعُهُ إلَى الْإِمَامِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ، فَالْمُخَاطَبُونَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ هُمْ الْأَئِمَّةُ وَسَائِرُ النَّاسِ مُخَاطَبُونَ بِرَفْعِهِمْ إلَيْهِمْ حَتَّى يُقِيمُوا عَلَيْهِمْ الْحُدُودَ؛ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» هُوَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.
وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا» فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ جَلْدٍ حَدًّا؛ لِأَنَّ الْجَلْدَ قَدْ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ التَّعْزِيرِ فَإِذَا عَزَّرْنَاهَا فَقَدْ قَضَيْنَا عُهْدَةَ الْخَبَرِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ نَجْلِدَهَا بَعْدَ ذَلِكَ؛ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ التَّعْزِيرَ قَوْلُهُ: لَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا يَعْنِي: وَلَا يُعَيِّرْهَا.
وَمِنْ شَأْنِ إقَامَةِ الْحَدِّ أَنْ يَكُونَ بِحَضْرَةِ النَّاسِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الزَّجْرِ وَالتَّنْكِيلِ، فَلَمَّا قَالَ: وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ التَّعْزِيرَ لَا الْحَدَّ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّابِعَةِ: فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ وَلَمْ يَأْمُرْ بِجَلْدِهَا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ حَدًّا لَذَكَرَهُ وَأَمَرَ بِهِ كَمَا أَمَرَ بِهِ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعْطِيلُ الْحُدُودِ بَعْدَ ثُبُوتِهَا عِنْدَ مَنْ يُقِيمُهَا، وَقَدْ يَجُوزُ تَرْكُ التَّعْزِيرِ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى الْإِمَامُ فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ أَرَادَ التَّعْزِيرَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَوْ عَزَّرَهَا الْمَوْلَى ثُمَّ رُفِعَ إلَى الْإِمَامِ بَعْدَ التَّعْزِيرِ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدَّ؛ لِأَنَّ التَّعْزِيرَ لَا يُسْقِطُ الْحَدَّ، فَيَكُونُ قَدْ اجْتَمَعَ عَلَيْهَا الْحَدُّ وَالتَّعْزِيرُ.
قِيلَ لَهُ: لَا يَنْبَغِي لِمَوْلَاهَا أَنْ يَرْفَعَهَا إلَى الْإِمَامِ بَعْدَ ذَلِكَ، بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِالسَّتْرِ عَلَيْهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهُزَالٍ حِينَ أَشَارَ عَلَى مَاعِزٍ بِالْإِقْرَارِ بِالزِّنَا: «لَوْ سَتَرْته بِثَوْبِك كَانَ خَيْرًا لَك»، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَتَى شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ فَلْيَسْتَتِرْ بِسَتْرِ اللَّهِ فَإِنَّ مَنْ أَبْدَى لَنَا صَفْحَتَهُ أَقَمْنَا عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ».
وَأَيْضًا فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ، وَقَدْ يَجِبُ النَّفْيُ عِنْدَنَا مَعَ الْجَلْدِ عَلَى وَجْهِ التَّعْزِيرِ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّجَاشِيَّ الشَّاعِرَ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي رَمَضَانَ فَضَرَبَهُ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ ثَمَانِينَ وَقَالَ: هَذَا لِشُرْبِك الْخَمْرَ ثُمَّ جَلَدَهُ عِشْرِينَ وَقَالَ: هَذَا لِإِفْطَارِك فِي رَمَضَانَ فَجَمَعَ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَالتَّعْزِيرَ؛ فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَمْ يَمْتَنِعْ لَوْ رُفِعَتْ هَذِهِ الْأَمَةُ بَعْدَ تَعْزِيرِ الْمَوْلَى إلَى الْإِمَامِ أَنْ يَحُدَّهَا حَدَّ الزِّنَا.

.باب اللِّعَانِ:

قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَانَ حَدُّ قَاذِفِ الْأَجْنَبِيَّاتِ وَالزَّوْجَاتِ الْجَلْدَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ: «ائْتِنِي بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ»، وَقَالَ الْأَنْصَارُ: أَيُجْلَدُ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ وَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ حَدَّ قَاذِفِ الزَّوْجَاتِ كَانَ كَحَدِّ قَاذِفِ الْأَجْنَبِيَّاتِ وَأَنَّهُ نُسِخَ عَنْ الْأَزْوَاجِ الْجَلْدُ بِاللِّعَانِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ «ائْتِنِي بِصَاحِبَتِك فَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيك وَفِيهَا قُرْآنًا» وَلَاعَنَ بَيْنَهُمَا، وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي الرَّجُلِ الَّذِي قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَإِنْ تَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ وَإِنْ قَتَلَ قَتَلْتُمُوهُ وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى غَيْظٍ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ عَلَى أَنَّ حَدَّ قَاذِفِ الزَّوْجَةِ كَانَ الْجَلْدَ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَخَهُ بِاللِّعَانِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ الزَّوْجَ إذَا كَانَ عَبْدًا أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ فَلَمْ يَجِبْ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ، كَمَا أَنَّهُ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ فَسَقَطَ اللِّعَانُ مِنْ قِبَلِهِ كَانَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَقَالُوا: لَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمَحْدُودَةُ فِي الْقَذْفِ أَوْ كَانَتْ أَمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَقَطَ اللِّعَانُ مِنْ قِبَلِهَا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ تَصْدِيقِهَا الزَّوْجَ بِالْقَذْفِ لَمَّا سَقَطَ اللِّعَانُ مِنْ جِهَتِهَا لَمْ يَجِبْ عَلَى الزَّوْجِ الْحَدُّ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَجِبُ بَيْنَهُمَا اللِّعَانُ مِنْ الزَّوْجَيْنِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَسْقُطُ اللِّعَانُ بِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ أَيُّهُمَا وُجِدَ لَمْ يَجِبْ مَعَهُ اللِّعَانُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجَةُ مِمَّنْ لَا يَجِبُ عَلَى قَاذِفِهَا الْحَدُّ إذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا نَحْوُ أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مَمْلُوكَةً أَوْ ذِمِّيَّةً أَوْ قَدْ وُطِئَتْ وَطْئًا حَرَامًا فِي غَيْرِ مِلْكٍ، وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الشَّهَادَةِ بِأَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ أَوْ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا، فَأَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَعْمَى أَوْ فَاسِقًا فَإِنَّهُ يَجِبُ اللِّعَانُ.
وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: يُلَاعِنُ الْمُسْلِمُ زَوْجَتَهُ الْيَهُودِيَّةَ إذَا قَذَفَهَا.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: الْأَمَةُ الْمُسْلِمَةُ وَالْحُرَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّة وَالْيَهُودِيَّةُ تُلَاعِنُ الْحُرَّ الْمُسْلِمَ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ يُلَاعِنُ زَوْجَتَهُ الْيَهُودِيَّةَ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: لَيْسَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ لِعَانٌ إذَا قَذَفَهَا إلَّا أَنْ يَقُولَ رَأَيْتهَا تَزْنِي فَتُلَاعِنُ سَوَاءٌ ظَهَرَ الْحَمْلُ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ لِأَنَّهُ يَقُولُ أَخَافُ أَنْ أَمُوتَ فَيَلْحَقُ نَسَبُ وَلَدِهَا بِي، وَإِنَّمَا يُلَاعِنُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ فِي دَفْعِ الْحَمْلِ وَلَا يُلَاعِنُهَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَا يُلَاعِنُ زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ إلَّا فِي نَفْيِ الْحَمْلِ قَالَ: وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ يُلَاعِنُ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجَانِ جَمِيعًا كَافِرَيْنِ فَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا، وَالْمَمْلُوكَانِ الْمُسْلِمَانِ بَيْنَهُمَا لِعَانٌ إذَا أَرَادَ أَنْ يَنْفِيَ الْوَلَدَ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: لَا يَجِبُ اللِّعَانُ إذَا كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مَمْلُوكًا أَوْ كَافِرًا وَيَجِبُ إذَا كَانَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ.