فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ}.
هذا تخصيص للعمومين الذين في قوله: {والذين يرمون المحصنات} [النور: 4] فإن من المحصنات من هن أزواج لمن يرميهن، فخُصّ هؤلاء الذين يرمون أزواجهم من حكم قوله: {والذين يرمون المحصنات} إلخ إذ عُذر الأزواج خاصة في إقدامهم على القول في أزواجهم بالزنى إذا لم يستطيعوا إثباته بأربعة شهداء.
ووجه عذرهم في ذلك ما في نفوس الناس من سجية الغيرة على أزواجهم وعدم احتمال رؤية الزنى بهن فدفع عنهم حد القذف بما شرع لهم من الملاعنة.
وفي هذا الحكم قبول لقول الزوج في امرأته في الجملة إذا كان متثبتًا حتى أن المرأة بعد أيمان زوجها تكلف بدفع ذلك بأيمانها وإلا قُبِل قوله فيها مع أيمانه فكان بمنزلة شهادة أربعة فكان موجبًا حدها إذا لم تدفع ذلك بأيمانها.
وعلة ذلك هو أن في نفوس الأزواج وازعًا يزعهم عن أن يرموا نساءهم بالفاحشة كذبًا وهو وازع التعير من ذلك ووازع المحبة في الأزواج غالبًا، ولذلك سمى الله ادعاء الزوج عليها باسم الشهادة بظاهر الاستثناء في قوله: {ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} وفي نفوسهم من الغيرة عليهن ما لا يحتمل معه السكوت على ذلك، وكانوا في الجاهلية يقتلون على ذلك وكان الرجل مصدقًا فيما يدعيه على امرأته.
وقد قال سعد بن عبادة لو وجدت رجلًا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح.
ولكن الغيرة قد تكون مفرطة وقد يذكيها في النفوس تنافس الرجال في أن يشتهروا بها، فمنع الإسلام من ذلك إذ ليس من حق أحد إتلاف نفس إلا الحاكم.
ولم يقرر جعل أرواح الزوجات تحت تصرف مختلف نفسيات أزواجهن.
ولما تقرر حد القذف اشتد الأمر على الأزواج الذين يعثرون على ريبة في أزواجهم.
ونزلت قضية عويمر العجلاني مع زوجه خولة بنت عاصم ويقال بنت قيس وكلاهما من بني عم عاصم بن عدي من الأنصار.
روى مالك في الموطأ عن سهل بن سعد أن عويمرًا العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي الأنصاري فقال له: يا عاصم أرأيت رجلًا وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ سل لي يا عاصم رسول الله عن ذلك.
فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فكره رسول الله المسائلَ وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله.
فلما رجع عاصم إلى أهله جاءه عويمر فقال: يا عاصم ماذا قال لك رسول الله؟ فقال عاصم لعويمر: لم تأتني بخير، قد كره رسول الله المسألة التي سألته عنها.
فقال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأله عنها.
فقام عويمر حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط الناس فقال: يا رسول الله أرأيت رجلًا وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها.
قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث.
فكانت هذه الآية مبدأ شرع الحكم في رمي الأزواج نساءهم بالزنى.
واختلط صاحب القصة على بعض الرواة فسموه هلال ابن أمية الواقفي.
وزيد في القصة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «البينة وإلا حدٌّ في ظهرك».
والصواب أن سبب نزول الآية قصة عويمر العجلاني وكانت هذه الحادثة في شعبان سنة تسع عقب القفول من غزوة تبوك والتحقيق أنهما قصتان حدثتا في وقت واحد أو متقارب.
ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم قول سعد بن عبادة عند نزول آية القذف السالفة قال: «أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني» يعني أنها غيرة غير معتدلة الآثار لأنه جعل من آثارها أن يقتل من يجده مع امرأته والله ورسوله لم يأذنا بذلك.
فإن الله ورسوله أغير من سعد، ولم يجعلا للزوج الذي يرى زوجته تزني أن يقتل الزاني ولا المرأة ولذلك قال عويمر العجلاني من وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟.
وحذف متعلق {شهداء} لظهوره من السياق، أي شهداء على ما ادعوه مما رموا به أزواجهم.
وشمل قوله: {إلا أنفسهم} ما لا تتأتى فيه الشهادة مثل الرمي بنفي حمل منه ادعى قبله الزوج الاستبراء.
وقد علم من أحاديث سبب نزول الآية ومن علة تخصيص الأزواج في حكم القذف بحكم خاص ومن لفظ {يرمون} ومن ذكر الشهداء أن اللعان رخصة منَّ الله بها على الأزواج في أحوال الضرورة فلا تتعداها.
فلذلك قال مالك في المشهور عنه وآخر قوليه وجماعة: لا يلاعن بين الزوجين إلا إذا ادعى الزوج رؤية امرأته تزني أو نفَى حملها نفيًا مستندًا إلى حدوث الحمل بعد تحقق براءة رحم زوجه وعدم قربانه إياها، فإن لم يكن كذلك ورماها بالزنى.
أي بمجرد السماع أو برؤية رجل في البيت في غير حال الزنى، أو بقوله لها: يا زانية، أو نحو ذلك مما يجري مجرى السب والشتم فلا يشرع اللعان.
ويحد الزوج في هذه الأحوال حد القذف لأنه افتراء لا بينة عليه ولا عذر يقتضي تخصيصه إذ العذر هو عدم تحمل رؤية امرأته تزني وعدم تحمل رؤية حمل يتحقق أنه ليس منه.
وقال أبو حنيفة والشافعي والجمهور: إذا قال تحمل لها: يا زانية، وجب اللعان، ذهابًا منهم إلى أن اللعان بين الزوجين يجري في مجرد القذف أيضًا تمسكًا بمطلق لفظ {يرمون}.
ويقدح في قياسهم أن بين دعوى الزنى على المرأة وبين السب بألفاظ فيها نسبة إلى الزنا فرقًا بينًا عند الفقيه.
وتسمية القرآن أيْمان اللعان شهادة يومىء إلى أنها لرد دعوى وشرط ترتب الآثار على الدعوى أن تكون محققة فقول مالك أرجح من قول الجمهور لأنه أغوص على الحقيقة الشرعية.
وقوله: {فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله} إلخ لما تعذر على الأزواج إلفاء الشهادة في مثل هذا الحال وعذرهم الله في الادعاء بذلك ولم يترك الأمر سبهللا ولا ترك النساء مضغة في أفواه من يريدون التشهير بهن من أزواجهن لشقاق أو غيظ مفرط أو حماقة كلف الأزواج شهادة لا تعسر عليهم إن كانوا صادقين فيما يدعون فأوجب عليهم الحلف بالله أربع مرات لتقوم الأيمان مقام الشهود الأربعة المفروضين للزنا في قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} [النور: 4] إلخ.
وسمي اليمين شهادة لأنه بدل منها فهو مجاز بعلاقة الحلول الاعتباري، وأن صيغة الشهادة تستعمل في الحلف كثيرًا وهنا جعلت بدلًا من الشهادة فكأن المدعي أخرج من نفسه أربعة شهود هي تلك الأيمان الأربع.
ومعنى كون الأيمان بدلًا من الشهادة أنها قائمة مقامها للعذر الذي ذكرناه آنفًا؛ فلا تأخذ جميع أحكام الشهادة، ولا يتوهم أن لا تقبل أيمان اللعان إلا من عدل فلو كان فاسقًا لم يلتعن ولم يحد حد القذف بل كل من صحت يمينه صح لعانه وهذا قول مالك والشافعي، واشترط أبو حنيفة الحرية وحجته في ذلك إلحاق اللعان بالشهادة لأن الله سماه شهادة.
ولأجل المحافظة على هذه البدلية اشترط أن تكون أيمان اللعان بصيغة: أشهد بالله عند الأيمة الأربعة.
وأما ما بعد صيغة أشهد فيكون كاليمين على حسب الدعوى التي حلف عليها بلفظ لا احتمال فيه.
وقوله: {فشهادة أحدهم أربع شهادات} قرأه الجمهور بنصب {أربعَ} على أنه مفعول مطلق ل {شهادة} فيكون {شهادة أحدهم} محذوف الخبر دل عليه معنى الشرطية الذي في الموصول واقتران الفاء بخبره، والتقدير: فشهادة أحدهم لازمة له.
ويجوز أن يكون الخبر قوله: {إنه لمن الصادقين} على حكاية اللفظ مثل قولهم: هجِّيرا أبي بكر لا إله إلا الله.
وقرأه حمزة والكسائي وحفص وخلف برفع {أربعُ} على أنه خبر المبتدأ وجملة {إنه لمن الصادقين} إلى آخرها بدل من {شهادة أحدهم}.
ولا خلاف بين القراء في نصب {أربع شهادات} الثاني.
وفي قوله: {إنه لمن الصادقين} حكاية للفظ اليمين مع كون الضمير مراعى فيه سياق الغيبة، أي يقول: إني لمن الصادقين فيما ادعيت عليها.
وأما قوله: {والخامسة} أي فالشهادة الخامسة، أي المكملة عدد خمس للأربع التي قبلها.
وأنث اسم العدد لأنه صفة لمحذوف دل عليه قوله: {فشهادة أحدهم} والتقدير: والشهادة الخامسة.
وليس لها مقابل في عدد شهود الزنى.
فلعل حكمة زيادة هذه اليمين مع الأيمان الأربع القائمة مقام الشهود الأربعة أنها لتقوية الأيمان الأربع باستذكار ما يترتب على أيمانه إن كانت غموسًا من الحرمان من رحمة الله تعالى.
وهذا هو وجه كونها مخالفة في صيغتها لصيغ الشهادات الأربع التي تقدمتها.
وفي ذلك إيماء إلى أن الأربع هي المجعولة بدلًا عن الشهود وأن هذه الخامسة تذييل للشهادة وتغليظ لها.
وقرأ الجمهور: {والخامسةُ أن غضب الله عليها} بالرفع كقوله: {والخامسة أن لعنت الله عليه} وهو من عطف الجمل.
وقرأه حفص عن عاصم بالنصب عطفًا على {أربع شهادات} الثاني وهو من عطف المفردات.
وقرأ الجمهور: {أنّ لعنة الله عليه} و{أنّ غضب الله عليها} بتشديد نون أنّ وبلفظ المصدر في {أنّ غضب الله} وجر اسم الجلالة بإضافة {غضب} إليه.
ويتعين على هذه القراءة أن تقدر باء الجر داخلة على {أن} في الموضعين متعلقة ب {الخامسة} لأنها صفة لموصوف تقديره: والشهادة الخامسة، ليتجه فتح همزة {أنّ} فيهما.
والمعنى: أن يشهد الرجل أو تشهد المرأة بأن لعنة الله أو بأن غضب الله، أي بما يطابق هذه الجملة.
وقرأ نافع بتخفيف نون {أنْ} في الموضعين و{غضِب الله} بصيغة فعل المضي، ورفْع اسم الجلالة الذي بعد {غضِب}.
وخرجت قراءته على جعل {أن} مخففة من الثقيلة مهملة العمل واسمها ضمير الشأن محذوف أي تهويلًا لشأن الشهادة الخامسة.
ورد بما تقرر من عدم خلو جملة خبر {أن} المخففة من أحد أربعة أشياء: قد، وحرف النفي، وحرف التنفيس، ولولا.
والذي أرى أن تجعل {أن} على قراءة نافع تفسيرية لأن الخامسة يمين ففيها معنى القول دون حروفه فيناسبها التفسير.