فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ يعقوب {أنْ لعنة الله} بتخفيف {أن} ورفع {لعنةُ} وجر اسم الجلالة مثل قراءة نافع.
وقرأ وحده {أن غضبُ الله عليها} بتخفيف {أن} وفتح ضاد {غضب} ورفع الباء على أنه مصدر ويجر اسم الجلالة بالإضافة.
وعلى كل القراءات لا يذكر المتلاعنان في الخامسة من يمين اللعان لفظ {أن} فإنه لم يرد في وصف أيمان اللعان في كتب الفقه وكتب السنة.
والقول في صيغة الخامسة مثل القول في صيغ الأيمان الأربع.
وعين له في الدعاء خصوص اللعنة لأنه وإن كان كاذبًا فقد عرض بامرأته للعنة الناس ونبذ الأزواج إياها فناسب أن يكون جزاؤه اللعنة.
واللعنة واللعن: الإبعاد بتحقير.
وقد تقدم في قوله: {وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين} في سورة الحجر (35).
واعلم أن الزوج إن سمى رجلًا معينًا زنى بامرأته صار قاذفًا له زيادة على قذفه المرأة، وأنه إذا لاعن وأتم اللعان سقط عنه حد القذف للمرأة وهو ظاهر ويبقى النظر في قذفه ذلك الرجل الذي نسب إليه الزنى.
وقد اختلف الأيمة في سقوط حد القذف للرجل فقال الشافعي: يسقط عنه حد القذف للرجل لأن الله تعالى لم يذكر إلا حدًا واحدًا ولأنه لم يثبت بالسنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام حد الفرية على عويمر العجلاني ولا على هلال بن أمية بعد اللعان.
وقال مالك وأبو حنيفة: يُسقط اللعان حد الملاعن لقذف امرأته ولا يسقط حد القذف لرجل سماه، والحجة لهما بأن الله شرع حد القذف.
ولما كانت هذه الأيمان مقتضية صدق دعوى الزوج على المرأة كان من أثر ذلك أن تعتبر المرأة زانية أو أن يكون حملها ليس منه فهو من زنى لأنها في عصمة فكان ذلك مقتضيًا أن يقام عليها حد الزنى، فلم تهمل الشريعة حق المرأة ولم تجعلها مأخوذة بأيمان قد يكون حالفها كاذبًا فيها لأنه يتهم بالكذب لتبرئة نفسه فجعل للزوجة معارضة أيمان زوجها كما جعل للمشهود عليه الطعن في الشهادة بالتجريح أو المعارضة فقال تعالى: {ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله} الآية.
وإذ قد كانت أيمان المرأة لرد أيْمان الرجل، وكانت أيمان الرجل بدلًا من الشهادة وسميت شهادة، كانت أيْمان المرأة لردها يناسب أن تسمى شهادة؛ ولأنها كالشهادة المعارضة، ولكونها بمنزلة المعارضة كانت أيْمان المرأة كلها على إبطال دعواه لا على إثبات براءتها أو صدقها.
والدرء: الدفع بقوة، واستعير هنا للإبطال.
وتقدم عند قوله تعالى: {ويدرؤون بالحسنة السيئة} في سورة الرعد (22).
والتعريف في {العذاب} ظاهر في العهد لتقدم ذكر العذاب في قوله: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} [النور: 2].
فيؤخذ من الآية أن المرأة إذا لم تحلف أيْمان اللعان أقيم عليها الحد.
وهذا هو الذي تشهد به روايات حديث اللعان في السنة.
وقال أبو حنيفة: إذا نكلت المرأة عن أيمان اللعان لم تحد لأن الحد عنده لا يكون إلا بشهادة شهود أو إقرار.
فعنده يُرجع بها إلى حكم الحبس المنسوخ عندنا، وعنده إنما نسخ في بعض الأحوال وبقي في البعض.
والقول في صيغة أيمان المرأة كالقول في صيغة أيمان الزوج سواء.
وعين لها في الخامسة الدعاء بغضب الله عليها إن صدق زوجها لأنها أغضبت زوجها بفعلها فناسب أن يكون جزاؤها على ذلك غضب ربها عليها كما أغضبت بعلها.
وتتفرع من أحكام اللعان فروع كثيرة يتعرض بعض المفسرين لبعضها وهي من موضوع كتب الفروع.
{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)}.
تذييل لما مر من الأحكام العظيمة المشتملة على التفضل من الله والرحمة منه، والمؤذنة بأنه تواب على من تاب من عباده، والمنبئة بكمال حكمته تعالى إذ وضع الشدة موضعها والرفق موضعه وكف بعض الناس عن بعض فلما دخلت تلك الأحكام تحت كلي هذه الصفات كان ذكر الصفات تذييلًا.
وجواب {لولا} محذوف لقصد تهويل مضمونه فيدل تهويله على تفخيم مضمون الشرط الذي كان سببًا في امتناع حصوله.
والتقدير: لولا فضل الله عليكم فدفع عنكم أذى بعضكم لبعض بما شرع من الزواجر لتكالبَ بعضكُم على بعض، ولولا رحمة الله بكم فقدر لكم تخفيضًا مما شرع من الزواجر في حالة الاضطرار والعذر لما استطاع أحد أن يسكت على ما يرى من مثار الغيرة، فإذا باح بذلك أُخذ بعقاب وإذا انتصف لنفسه أهلك بعضًا أو سكت على ما لا على مثله يغضى، ولولا أن الله تواب حكيم لما رد على من تاب فأصلح ما سلبه منه من العدالة وقبول الشهادة.
وفي ذكر وصف الحكيم هنا مع وصف {تواب} إشارة إلى أن في هذه التوبة حكمة وهي استصلاح الناس.
وحذف جواب {لولا} للتفخيم والتعظيم وحذفه طريقة لأهل البلاغة، وقد تكرر في هذه السورة وهو مثل حذف جواب لو، وتقدم حذف جواب لو عند قوله تعالى: {ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب} في سورة البقرة (165).
وجواب {لولا} لم يحضرني الآن شاهد لحذفه وقد قال بعض الأئمة: إن {لولا} مركبة من لو ولا. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بالله} الآية، معنى: يدرأ: يدفع، والمراد بالعذاب هنا: الحد، والمصدر المنسبك من أن وصلتها في قوله: أن تشهد فاعل يدرأ: أي يدفع عنها الحد شهادتها أربع شهادات الآية.
والدليل على أن المراد بالعذاب في قوله: {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب} الحد من أوجه.
والثاني: أنه أطلق اسم العذاب في مواضع أخر، على الحد مع دلالة السياق فيها على أن المراد بالعذاب فيها الحد كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} [النور: 2]، فقوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا} أي حدهما بلا نزاع. وكذلك قوله تعالى في الإماء: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} [النسا: 25] أي نصف ما على الحرائر من الجلد.
وهذا الآية: تدل على أن الزوج إذا رمى زوجته وشهد شهاداته الخمس المبينة في الآية أن المرأة يتوجه عليها الحد بشهاداته، وأن ذلك الحد المتوجه إليها بشهادات الزوج تدفعه عنها شهاداتها هي الموضحة في الآية.
ومفهوم مخالفة الآية يدل على أنها لو نكلت عن شهاداتها، لزمها الحد بسبب نكولها مع شهادات الزوج، وهذا هو الظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه، فشهادات الزوج القاذف تدرأ عنه هو حد القذف، وتوجه إليها هي حد الزنى، وتدفعه عنها شهاداتها.
وظاهر القرآن أيضًا أنه لو قذف زوجته وامتنع من اللعان أنه يحد حد القذف فكل من امتنع من الزوجين من الشهادات الخمس وجب عليه الحد، وهذا هو الظاهر من الآيات القرآنية، لأن الزوج القاذف داخل في عموم قوله تعالى: {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، ولكن الله بين خروج الزوج من هذا العموم بشهاداته حيث قال {والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله إِنَّهُ لَمِنَ الصادقين والخامسة أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الكاذبين} [النور: 67] فلم يجعل مخرجًا من جلد ثمانين، وعدم قبول الشهادة، والحكم بالفسق إلا بشهاداته التي قامت له مقام البينة المبرئة له من الحد. فإن نكل عن شهاداته فالظاهر وجوب الحد عليه، لأنه لم تدرأ عنه أربعة عدول يشهدون بصدقه، ولا شهادات تنوب عن الشهود. فتعين أنه يحد لأنه قاذف، ولم يأت بما يدفع عنه حد القذف، وكذلك الزوجة إذا نكلت عن إيمانها فعليها الحد، لأن الله نص على أن الذي يدرأ عنها الحد هو شهاداتها في قوله تعالى: {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب} (8) الآية، وممن قال إن الزوج يلزمه الحد إن نكل عن الشهادات الأئمة الثلاثة، خلافًا لأبي حنيفة القائل بأنه يحبس، حتى يلاعن، أو يكذب نفسه، فيقام عليه حد القذف، وممن قال بأنها إن شهد هو، ونكلت هي أنها تحد بشهاداته ونكولها: مالك والشافعي والشعبي، ومحول، وأبو عبيد، وأبو ثور.
كما نقله عنهم صاحب المغني.
وهذا القول أصوب عندنا، لأنه ظاهر قوله: {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بالله} الآية. ولا ينبغي العدول عن ظاهر القرآن إلا لدليل يجب الرجوع إليه من كتاب او سنة. وقال أبو حنيفة وأحمد: لا حد عليها بنكولها عن الشهادات، وتحبس أيضًا حتى تلاعن أو تقر فيقام عليها الحد.
قال في المغني: وبهذا قال الحسن، والأوزاعي، وأصحاب الرأي. وروي ذلك عن الحارث العكلي، وعطاء الخراساني، واحتج أهل هذا القول بحجج يرجع جميعها إلى أن المانع من حدها أن زناها لم يتحقق ثبوته، لأن شهادات الزوج ونكولها هي لا يتحقق بواحد منهما ولا بهما مجتمعين بثوت الزنى عليها.
وقول الشافعي ومالك ومن وافقهما في هذه المسألة أظهر عندنا لأن مسألة اللعان أصل مستقل لا يدخله القياس على غيره، فلا يعدل فيه عن ظاهر النص إلى القياس على مسألة اخرى. والعلم عند الله تعالى.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة:
المسألة الأولى: اعلم أن اللعان لا يلزم بين الزوجين؛ إلا بقذف الرجل زوجته قذفًا يوجب عليه الحد لو قاله لغير زوجة كرميها بالزنى، ونفي ولدها عنه، وقول الجمهور هنا: إنه يكفي في وجوب اللعان قذفها بالزنى من غير اشتراط أن يقول: رأيت بعيني، أظهر عندي مما روي عن مالك، من أنه لا يلزم اللعان، حتى يصرح برؤية العين، لأن القذف بالزنى كاف دون التصريح برؤية العين. وقول الملاعن في زمنه صلى الله عليه وسلم: رأت عيني وسمعت أذني، لا يدل على أنه لو اقتصر على أنها زنت، أن ذلك لا يكفي، دون اشتراط رؤية العين، وسماع الأذن كما لا يخفى، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثانية: اعلم أن العلماء اختلفوا في شهادات اللعان المذكورة في قوله: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله} [النور: 6] إلى آخر الآيات، هل هي شهادات أو أيمان على أربعة أقوال:
الأول: أنها شهادات لأن الله سماها في الآية شهادات.
والثاني: أنها أيمان.
الثالث: أنها أيمان مؤكدة بلفظ الشهادة.
والرابع: عكسه، وينبني على الخلاف في ذلك أن من قال: إنها شهادات لا يصح عنده اللعان، إلا ممن تجوز شهادته. فيشترط في الملاعن، والملاعنة العدالة وغيرها من شروط قبول الشهادة، ومن قال: إنها أيمان صح عنده اللعان من كل زوجين، ولو كانا لا تصح شهادتهما لفسق أو غيره من مسقطات قبول الشهادة، وينبني على الخلاف المذكور. ما لو شهد مع الزوج ثلاثة عدول، فعلى أنها شهادة يكون الزوج رابع الشهود، فيجب عليها حد الزنى، وعلى أنها أيمان يحد الثلاثة ويلاعن الزوج.
وقيل: لا يحدون. وممن قال: بأنها شهادات وأن اللعان لا يصح إلا ممن تقبل شهادته، وأنها تحد بشهادة الثلاثة مع الزوج أبو حنيفة رحمه الله ومن تبعه، والأكثرون على أنها أيمان مؤكدة بلفظ الشهادة.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر الأقوال عندي: أنها أيمان مؤكدة بالشهادة، وأن لفظ الشهادة ربما أطلق في القرآن، مرادًا بها اليمين، مع دلالة القرائن على ذلك، وإنما استظهرنا أنها أيمان لأمور.
الأول: التصريح في الآية بصيغة اليمين في قوله: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله} [النور: 6] لأن لفظة بالله يمين فدل قوله: بالله على أن المراد بالشهادة اليمين للتصريح بنص اليمين، فقوله: أشهد بالله في معنى: أقسم بالله.
الثاني: أن القرآن جاء فيه إطلاق وإرادة اليمين في قوله: {فَيُقْسِمَانِ بالله لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا} [المائدة: 107] ثم بين أن المراد بتلك الشهادة اليمين في قوله: {ذلك أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَآ أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} [المائدة: 108] دليل على أن المراد بلفظ الشهادة في الآية اليمين، وهو واضح كما ترى.