فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما. وعن ابن عباس أيضًا في رواية الكلبي أن عاصمًا رجع إلى أهله فوجد شريكًا على بطن امرأته فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم والحديث كما تقدم. وفي رواية عكرمة عن ابن عباس: لما نزلت آية القذف قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار: ولو وجدت رجلًا على بطنها فإني إن جئت بأربعة شهداء يكون قد قضى حاجته وذهب. فقال صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟ قالوا: يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور. فقال سعد: يا رسول الله إني لأعرف أنها من الله وأنها حق ولكني عجبت منه. فقال صلى الله عليه وسلم: فإن الله أبى لي ذلك فلم يلبثوا إلا يسيرًا حتى جاء ابن عم له يقال له هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم فقال: يا رسول الله إني وجدت مع امرأتي رجلًا رأيت بعيني وسمعت باذني، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به فقال هلال: والله يا رسول الله إني لأرى الكراهية في وجهك مما أخبرتك به، والله يعلم أني لصادق وما قلت إلا حقًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إما البينة وإما إقامة الحد عليك. فاجتمعت الأنصار فقالوا: ابتلينا بما قال سعد. فبيناهم كذلك إن نزل الوحي فقال: يا هلال أبشر فقد جعل الله لك فرجًا وأمر بالملاعنة وفرق بينهما وقال: أبصروها فإن جاءت به اصهب أحمش الساقين أي دقيقهما فهو لهلال، وإن جاءت به اورق جعدًا خدلج الساقين. أي ضخمهما فهو لصاحبه. فجاءت به خدلج الساقين فقال صلى الله عليه وسلم: «لولا الإيمان لكان لي ولها شأن» قال عكرمة: لقد رأيته بعد ذلك أمير مصر من الأمصار لا يدري من أبوه.
واعلم أن الفرق بين قذف غير الزوجة وبين قذف الزوجة هو أن المخلص من الحد في الأول إقرار المقذوف بالزنا أو بينة تقوم على زناة، وفي الثانية المخلص أحد الأمرين أو اللعان. وسبب شرع اللعان هو أنه لا مضرة على الزوج في زنا الأجنبي والأولى له ستره، وأما في زنا الزوجة فيلحقه العار والشنار والسنب الفاسد فلا يمكنه الصبر عليه وتوقيفه على البينة كالمتعذر. وأيضًا الغالب أن الرجل لا يقصد رمي زوجته إلا عن حقيقة، فنفس الرمي دليل على صدقه إلا أن الشرع أراد كمال شهادة الحال بقرينة الإيمان كما أن شهادة المرأة حين ضعفت أكدت بزيادة العدد فمن هنا قال كثير من العلماء: إن حد قاذف الزوجة كان هو الجلد وإن الله نسخه باللعان.
ولنذكر هاهنا مسائل:
الأولى: قال الشافعي: إذا نكل الزوج عن اللعان لزمه الحد للقذف، فإذا لاعن ونكلت عن اللعان لزمها حد الزنا.
وقال أبو حنيفة: إذا نكل الزوج يحبس حتى يلاعن وكذا المرأة. حجة الشافعي إذا لم يأت بالمخلص وهو الملاعنة وجب الرجوع إلى مقتضى آية القذف وهو الحد. وايضًا قوله: {ويدرأ عنها العذاب} ليست اللام فيه للجنس لأنه لا يجب عليها جميع أنواع العذاب، ولأن الآية تصير إذ ذاك مجملة فهو للعهد ولا معهود في الاية إلا حد القذف، ولقوله صلى الله عليه وسلم لخولة الرجم أهون عليك من غضب الله. وللمرأة أن تقول: إن كان الرجل صادقًا فحدّوني وإن كان كاذبًا فخلوني فما بالي والحبس وليس حبسي في كتاب الله ولا سنة رسوله. حجة أبي حنيفة أن النكول ليس بصريح في الإقرار فلا يجوز إثبات الحد به كاللفظ المحتمل للزنا وغيره.
الثانية: الجمهور على أنه إذا قال يا زانية وجب اللعان لعموم قوله: {والذين يرمون} وقال مالك: لا يلاعن إلا أن يقول: رأيتك تزني وينفي حملًا بها أو ولدًا منها.
الثالثة: قال الشافعي: من صح رميه صح لعانه فلا يشترط إلا التكليف، ويجري اللعان بين الذميين والمحدودين والرقيقين. وذهب أبو حنيفة إلى أن الزوج ينبغي أن يكون مسلمًا حرًا عاقلًا بالغًا غير محدود في القذف، والمرأة ينبغي أن تكون بهذه الصفة مع العفة. فإذا كان الزوج عبدًا أو محدودًا في قذف والمرأة محصنة حدّ كما في قذف الأجنبيات. دليل الشافعي عموم قوله: {والذين يرمون أزواجهم} والإجماع. على أنه يصح لعان الفاسق والأعمى وإن لم يكونا من أهل الشهادة، فكذا القول في غيرهما، والجامع هو الحاجة إلى دفع العار. دليل أبي حنيفة حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي من النساء من ليس بينهن وبين أزواجهن ملاعنة اليهودية والنصرانية تحت المسلم والحّرة تحت المملوك والمملوكة تحت الحر. وأيضًا اللعان بين الزوجات قائم مقام الحد في الأجنبيات فلا يجب اللعان على من لا يجب عليه الحد لو قذفها أجنبي. وأيضًا اللعان شهادة لقوله تعالى: {فشهادة أحدهم أربع شهادات} وقد جاء مثله في أحاديث اللعان. وإذا كان شهادة وجب أن لا يقبل من المحدود في القذف ولا من العبد والكافر. أجاب الشافعي بأن اللعان يمين مؤكدة بلفظ الشهادة أو يمين فيها شائبة الشهادات فلا يشترط في الملاعن إلا أهلية لليمين، ومما يدل على أنه يمين قوله صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية: احلف بالله الذي لا إله إلا هو إنك صادق. وقوله: لولا الإيمان لكان لي ولها شأن. وأيضًا لو كان شهادة لكان حظ المرأة ثمان شهادات لأنها على النصف من الرجل، ولم يجز لعان الفاسق والأعمى لأنهما ليسا من أهل الشهادة.
لا يقال: الفاسق والفاسقة قد يتوبان لأنا نقول: العبد أيضًا قد يعتق، بل العبد إذا عتق تقبل شهادته في الحال، والفاسق إذا تاب لا تقبل شهادته إلا بعد الاختبار. ثم ألزم الشافعي أبا حنيفة بأن شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض مقبولة فينبغي أن يجوز اللعان بين الذمي والذمية. ثم قال الشافعي بعد ذلك: وتختلف الحدود لمن وقعت له، ومعناه أن الزوج إن لم يلاعن ينصف الحد عليه برقه، وإن لاعن ولم تلاعن اختلف حدها بإحصانها وحريتها ورقها.
الرابعة: اختلف المجتهدون في نتائج اللعان، فعن عثمان البتي أنه لا يحصل به الفرقة أصلًا لأن أكثر ما فيه أن يكون الزوج صادقًا في قذفه وهذا لا يوجب تحريمًا كما لو قامت البينة عليها. وأيضًا إن تلاعنهما في بيتهما لا يوجب الافتراق فكذا عند الحاكم. وأيضًا إنه قائم مقام الشهود في الأجنبيات فلا يكون له تأثير إلا في إسقاط الحد. وأيضًا إذا أكذب الزوج نفسه ثم حدّ لا يوجب الفرقة فكذا اللعان. وأما تفريق النبي صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنين في قصة العجلاني فذلك لأن الزوج كان طلقها ثلاثًا قبل اللعان. وعن أبي حنيفة وأصحابه إلاَّ زفر، أن الحاكم يفرق بينهما لما روى سهل بن سعد: مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم يجتمعان أبدًا، ولما في قصة عويمر كذبت عليها إن أمسكتها هي طالق ثلاثًا، فلو وقعت الفرقة باللعان لم يمكن إمساكها. وقال مالك والليث وزفر: إذا فرغا من اللعان وقعت الفرقة بينهما وإن لم يفرق الحاكم، لأنهما لو تراضيا على دوام النكاح لم يخليا فدل ذلك على وقوع الفرقة بينهما. وقال الشافعي: إذا فرغ الزوج وحده من اللعان حصل بذلك خمس نتائج: درء الحد عنه، ونفي الولد، والفرقة، والتحريم المؤبد، ووجوب الحد عليها. ولا تأثير للعان الزوجة إلا في دفع العذاب عن نفسها، وما روي أنه صلى الله عليه وسلم فرق بينهما محمول على أنه أخبر عن وقوع الفرقة بينهما. وزعم ابو بكر الرازي أن قول الشافعي خلاف الآية، لأنه لو وقعت الفرقة بلعان الزوج لاعنت المرأة وهي أجنبية، ولكنه تعالى أوجب اللعان بين الزوجين، وأيضًا اللعان شهادة فلا يثبت حكمها إلا عند الحاكم كسائر الشهادات. وأيضًا اللعان تستحق به المرأة نفسها كما يستحق المدعي ما ادعاه بالبينة فيتوقف على حكم الحاكم. وأيضًا اللعان لا إشعار فيه بالتحريم فهو كما لو قامت البينة على زناها فلابد من إحداث التفريق إما من قبل الزوج أو من قبل الحاكم. ولقائل أن يقول: سميا زوجين باعتبار ما كان كالعبد على من عتق، ولا نسلم أن اللعان شهادة محضة. ومما يؤكد قول الشافعي تنصيص الله سبحانه على ذلك بقوله: {ويدرأ عنها العذاب أن تشهد} ففيه دلالة على أن كل ما يجب باللعان من الأحكام فقد وقع بلعان الزوج إلا درء العذاب.
وأيضًا أن لعان الزوج مستقل بنفي الولد لأن الاعتبار في الإلحاق بقوله لا بقولها، ألا ترى أنها في لعانها تلحق الولد به ونحن ننفيه عنه، وإذا انتفى الولد عنه بمجرد لعانه وجب أن يكون الفراش زائلًا لقوله: «الولد للفراش». الخامسة: مذهب مالك والشافعي وأبي يوسف والثوري وإسحق، أن المتلاعنين لا يجتمعان أبدًا وهو قول علي وابن مسعود. ولما روي الزهري من حديث سهل بن سعد، ولما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين بعد اللعان لا سبيل لك عليها. ولم يقل حتى تكذب نفسك ولو كان إلا كذاب غاية لهذه الحرمة، وأنه إذا أكذب نفسه وحدّ زال تحريم العقد وحلت له بنكاح جديد لذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره} [البقرة: 230] وقد يحتج لأبي حنيفة بعموم قوله: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} [النساء: 3] وقوله: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء: 24].
السادسة: اتفق أهل العلم على أن الولد ينتفي من الزوج باللعان. وخالف بعضهم مستدلًا بقوله صلى الله عليه وسلم: «الولد للفراش» وزيف بأن الأخبار الدالة على أن الولد ينتفي باللعان كالمتواترة فلا يعارضها الواحد بل يجب تخصيصه بها.
السابعة: لو أتى ببعض كلمات اللعان لا يتعلق بها الحكم عند الشافعي وهو ظاهر وعن أبي حنيفة أن للأكثر حكم الكل إذا حكم به الحاكم.
الثامنة: كيفية اللعان كالصريحة في الاية وأن الحديث قد زادها بيانًا كما مر. وقد عد الشافعي ومن سننها أن يقام الرجل حتى يشهد والمرأة قاعدة، وتقام المرأة حتى تشهد والرجل قاعد، ويأمر الإمام من يضع يده على فيه عند الانتهاء إلى العنة ويقول له القاضي أو صاحب المجلس: اتق الله فإنها موجبة. وهكذا يقال للمرأة إذا انتهت إلى الغضب. ومما يستحب في اللعان ولا يجب على الأصح، التغليظ بالزمان. وهو ما بعد صلاة العصر ولاسيما عصر يوم الجمعة، وبالمكان وذلك بمكة بين الركن والمقام، وبالمدينة بين المنبر والمدفن، وفي سائر البلاد عند المنبر في المسجد الجامع ايضًا وهو المقصورة، وفي بيت المقدس في المسجد القصى عند الصخرة، ولليهود في الكنيسة، وللنصارى في البيعة، وللمجوس في بيت نارهم، وإذا لم يكون له دين ففي مساجدنا إلا في المسجد الحرام. ولابد من حضور الحاكم سواء كان مدار اللعان على اليمين أو على الشهادة، ولابد من حضور جمع من الأعيان أقلهم أربعة.
التاسعة: قال جار الله: إنما خصت الملاعنة بأن تخمس بغضب الله تغليظًا عليها لأنها أصل الفجور ومنبعه بخلابتها وإطماعها ولذلك كانت متقدمة في آية الجلد.
العاشرة: في فوائد متعلقة بالآية منها: إبطال الجمهور وقول الخوارج إن الزنا والقذف كفر، وذلك أن الرامي إن صدق فهي زانية وإن كذب فهو قاذف، فلابد من كفر أحدهما والردة توجب الفرقة من غير لعان: ومنها إبطال قول من زعم أن الزنا يوجب فساد النكاح لأن رمي الزوج إياها اعتراف منه بزناها بل بفساد النكاح على قول هذا القائل فتحصل الفرقة بلا لعان. ومنها أن المعتزلة قالوا: المتلاعنان يستحقان اللعن أو الغضب الموجبين للعقاب الأبدي المضاد للثواب وذلك يدل على خلود الفساق في النار. أجابت الاشاعرة بأن كونه مغضوبًا عليه بفسقه لا ينافى كونه مرضيًا عنه بجهة إيمانه فلابد أن يحصل له بعد العقاب ثواب. ثم أخبر عن كمال رافته بقوله: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته} أي فيما بين من هذه الأحكام وفيما أمهل وأبقى ومكن من التوبة. وجواب {لولا} محذوف أي لهلكتم أو فضحتم أو لكان ما كان من أنواع المفاسد. وإنما حسن حذفه ليذهب الوهم كل مذهب فيكون أبلغ في البيان فرب مسكوت عنه أبلغ من منطوق به. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}.
قوله: {والذين يَرْمُونَ} استعار الرمي للشتم بفاحشة الزنا؛ لكونه جناية بالقول كما قال النابغة:
وجرح اللسان كجرح اليد

وقال آخر:
رماني بأمر كنت عنه ووالدي ** بريًا ومن أجل الطوى رماني

ويسمى هذا الشتم بهذه الفاحشة الخاصة قذفًا، والمراد بالمحصنات النساء، وخصهنّ بالذكر لأن قذفهنّ أشنع، والعار فيهنّ أعظم، ويلحق الرجال بالنساء في هذا الحكم بلا خلاف بين علماء هذه الأمة، وقد جمعنا في ذلك رسالة رددنا بها على بعض المتأخرين من علماء القرن الحادي عشر لما نازع في ذلك.
وقيل: إن الآية تعمّ الرجال، والنساء، والتقدير: والأنفس المحصنات، ويؤيد هذا قوله تعالى في آية أخرى: {والمحصنات مِنَ النساء} [النساء: 24] فإن البيان بكونهنّ من النساء يشعر بأن لفظ المحصنات يشمل غير النساء، وإلاّ لم يكن للبيان كثير معنى.
وقيل: أراد بالمحصنات: الفروج كما قال: {والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [الأنبياء: 91].