فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد أنكر حسان أن يكون قال شيئًا من ذلك في قوله:
حَصَانٌ رَزَانٌ ما تُزَنَّ برِيبَةٍ ** وتُصبح غَرْثَى من لُحُوم الغَوافِلِ

حَلِيلةُ خيرِ الناس دِينًا وَمَنْصِبًا ** نَبِيِّ الهُدَى والمَكْرمات الفواضل

عَقِيلةُ حَيٍّ من لُؤَيِّ بن غالبٍ ** كرامِ المساعِي مَجْدُها غيرُ زائل

مُهَذّبةٌ قد طَيّب الله خِيمَها ** وطهّرها من كل شَيْن وباطل

فإن كان ما بُلِّغْتِ أَنِّي قلتُه ** فلا رفعَتْ سَوْطي إليّ أناملي

فكيف ووُدِّي ما حيِيتُ ونُصْرتِي ** لآل رسول الله زَيْنِ المحافل

له رُتَبٌ عالٍ على الناس فضلها ** تقاصَرُ عنها سَوْرة المتطاول

وقد روي أنه لما أنشدها: حصان رزان؛ قالت له: لستَ كذلك؛ تريد أنك وقعت في الغوافل.
وهذا تعارض، ويمكن الجمع بأن يقال: إن حسانًا لم يقل ذلك نصًا وتصريحًا، ويكون عرّض بذلك وأوْمأ إليه فنُسب ذلك إليه؛ والله أعلم.
وقد اختلف الناس فيه هل خاض في الإفك أم لا، وهل جلد الحدّ أم لا؛ فالله أعلم أيّ ذلك كان، وهي المسألة:
السادسة: فروى محمد بن إسحاق وغيره: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم جلد في الإفك رجلين وامرأة: مِسْطَحا وحسان وحَمْنَة، وذكره الترمذي.
وذكر القشيريّ عن ابن عباس قال: جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أُبَيٍّ ثمانين جلدة، وله في الآخرة عذاب النار.
قال القُشَيْريّ: والذي ثبت في الأخبار أنه ضرب ابن أبَيّ وضرب حسان وحمنة، وأما مِسْطح فلم يثبت عنه قذف صريح، ولكنه كان يسمع ويشيع من غير تصريح.
قال الماوردي وغيره: اختلفوا هل حدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحاب الإفك؛ على قولين: أحدهما أنه لم يحدّ أحدًا من أصحاب الإفك لأن الحدود إنما تقام بإقرار أو ببيّنة، ولم يتعبّده الله أن يقيمها بإخباره عنها؛ كما لم يتعبّده بقتل المنافقين، وقد أخبره بكفرهم.
قلت: وهذا فاسد مخالف لنص القرآن؛ فإن الله عز وجل يقول: {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} أي على صدق قولهم: {فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً}.
والقول الثاني: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حدّ أهل الإفك عبدَ الله بن أُبَيّ ومِسْطح بن أثَاثة وحسان بن ثابت وحَمْنة بنت جحش؛ وفي ذلك قال شاعر من المسلمين:
لقد ذاق حسّان الذي كان أهلَه ** وحَمْنَةُ إذ قالوا هجيرًا ومِسْطَحُ

وابنُ سَلُولَ ذاق في الحَدّ خِزْية ** كما خاض في إفك من القول يُفْصِح

تعاطَوْا برجم الغيب زَوْجَ نبيِّهم ** وسخطة ذي العرش الكريم فأبرحوا

وآذوْا رسولَ الله فيها فَجُلِّلُوا ** مخازِيَ تبقى عُمِّمُوها وفُضِّحوا

فصُبّ عليهم مُحْصَدات كأنها ** شآبيب قطر من ذُرَى المُزْن تَسْفَحُ

قلت: المشهور من الأخبار والمعروف عند العلماء أن الذي حُدّ حسان ومِسْطح وحَمْنةُ، ولم يُسمع بحدٍّ لعبد الله بن أبَيّ.
روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزل عُذْري قام النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك، وتلا القرآن؛ فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضُرِبوا حدَّهم، وسمّاهم: حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحَمْنة بنت جحش.
وفي كتاب الطحاوي ثمانين ثمانين.
قال علماؤنا.
وإنما لم يُحدّ عبد الله بن أبَيّ لأن الله تعالى قد أعدّ له في الآخرة عذابًا عظيمًا؛ فلو حُدّ في الدنيا لكان ذلك نقصًا من عذابه في الآخرة وتخفيفًا عنه مع أن الله تعالى قد شهد ببراءة عائشة رضي الله عنها وبكذب كل من رماها؛ فقد حصلت فائدة الحدّ، إذ مقصوده إظهار القاذف وبراءة المقذوف؛ كما قال الله تعالى: {فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون}.
وإنما حدّ هؤلاء المسلمون ليكفر عنهم إثم ما صدر عنهم من القذف حتى لا يبقى عليهم تَبِعة من ذلك في الآخرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحدود: «إنها كفارة لمن أقيمت عليه»؛ كما في حديث عُبَادة بن الصامت.
ويحتمل أن يقال: إنما ترك حدّ ابن أبيّ استئلافًا لقومه واحترامًا لابنه، وإطفاءً لثائرة الفتنة المتوقعة من ذلك، وقد كان ظهر مبادئها من سعد بن عُبَادة ومن قومه؛ كما في صحيح مسلم.
والله أعلم.
السابعة: قوله تعالى: {لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} هذا عتاب من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين في ظنّهم حين قال أصحاب الإفك ما قالوا.
قال ابن زيد: ظن المؤمنون أن المؤمن لا يفجر بأمّه؛ قاله المَهْدَوِيّ.
و{لولا} بمعنى هَلاّ.
وقيل: المعنى أنه كان ينبغي أن يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات الأمرَ على أنفسهم؛ فإن كان ذلك يبعد فيهم فذلك في عائشة وصفوان أبعد.
وروي أن هذا النظر السديد وقع من أبي أيوب الأنصاريّ وامرأته؛ وذلك أنه دخل عليها فقالت له: يا أبا أيوب، أسمعتَ ما قيل! فقال: نعم! وذلك الكذب! أكنتِ أنت يا أم أيوب تفعلين ذلك! قالت: لا والله! قال: فعائشة والله أفضل منك؛ قالت أم أيوب نعم.
فهذا الفعل ونحوه هو الذي عاتب الله تعالى عليه المؤمنين إذ لم يفعله جميعهم.
الثامنة: قوله تعالى: {بِأَنْفُسِهِمْ} قال النحاس؛ معنى {بأنفسهم} بإخوانهم.
فأوجب الله على المسلمين إذا سمعوا رجلًا يقذف أحدًا أو يذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه.
وتواعد من ترك ذلك ومن نقله.
قلت: ولأجل هذا قال العلماء: إن الآية أصل في أن درجة الإيمان التي حازها الإنسان؛ ومنزلةَ الصلاح التي حلّها المؤمن، ولُبْسة العفاف التي يستتر بها المسلم لا يزيلها عنه خبر محتمل وإن شاع، إذا كان أصله فاسدًا أو مجهولًا.
التاسعة: قوله تعالى: {لَّوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} هذا توبيخ لأهل الإفك.
و{لولا} بمعنى هلاّ؛ أي هلاّ جاؤوا بأربعة شهداء على ما زعموا من الافتراء.
وهذا ردّ على الحكم الأوّل، وإحالة على الآية السابقة في آية القذف.
العاشرة: قوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَاءِ فأولئك عِندَ الله هُمُ الكاذبون} أي هم في حكم الله كاذبون.
وقد يعجِز الرجل عن إقامة البينة وهو صادق في قذفه، ولكنه في حكم الشرع وظاهر الأمر كاذب لا في علم الله تعالى؛ وهو سبحانه إنما رتب الحدود على حكمه الذي شرعه في الدنيا لا على مقتضى علمه الذي تعلق بالإنسان على ما هو عليه، فإنما يبنى على ذلك حكم الآخرة.
قلت: ومما يقوِّي هذا المعنى ويَعْضُده ما خرّجه البخاريّ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: أيها الناس إن الوَحْيَ قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرًا أمّناه وقرّبناه؛ وليس لنا من سريرته شيء الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءًا لم نؤمّنه ولم نصدّقه، وإن قال إن سريرته حسنة.
وأجمع العلماء أن أحكام الدنيا على الظاهر، وأن السرائر إلى الله عز وجل. اهـ.

.قال أبو حيان:

{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ}.
سبب نزول هذه الآيات مشهور مذكور في الصحيح، والإفك: الكذب والافتراء.
وقيل: هو البهتان لا تشعر به حتى يفجأك.
والعصبة: الجماعة وقد تقدم الكلام عليها في سورة يوسف عليه السلام.
{منكم} أي من أهل ملتكم وممن ينتمي إلى الإسلام، ومنهم منافق ومنهم مسلم، والظاهر أن خبر {إن} هو {عصبة منكم} و{منكم} في موضع الصفة وقاله.
الحوفي وأبو البقاء.
و{لا تحسبوه}: مستأنف.
وقال ابن عطية {عصبة} رفع على البدل من الضمير في {جاؤوا} وخبر {إن} في قوله و{لا تحسبوه} التقدير أن فعل الذين وهذا أنسق في المعنى وأكثر فائدة من أن يكون {عصبة} خبر {إن} انتهى.
والعصبة: عبد الله بن أبيّ رأس النفاق، وزيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم ممن لم يرد ذكر اسمه، و{لا تحسبوه} الظاهر أنه عائد على الإفك وعلى إعراب ابن عطية {لا تحسبوه} الظاهر أنه عائد على الإفك، وعلى إعراب ابن عطية.
يعول على ذلك المحذوف الذي قدره اسم {إن}.
قيل: ويجوز أن يعود على القذف وعلى المصدر المفهوم من {جاؤوا} وعلى ما نال المسلمين من الغم، والمعنى {لا تحسبوه} ينزل بكم منه عار {بل هو خير لكم} لبراءة الساحة وثواب الصبر على ذلك الأذى وانكشاف كذب القاذفين.
وقيل: الخطاب بلا تحسبوه للقاذفين وكينونة ذلك خيرًا لهم حيث كان هذا الذكر عقوبة معجلة كالكفارة، وحيث تاب بعضهم.
وهذا القول ضعيف لقوله بعد: {لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم} أي جزاء ما اكتسب، وذلك بقدر ما خاض فيه لأن بعضهم ضحك وبعضهم سكت وبعضهم تكلم، و{اكتسب} مستعمل في المآثم ونحوها لأنها تدل على اعتمال وقصد فهو أبلغ في الترتيب وكسب مستعمل في الخير لأن حصوله مغن عن الدلالة على اعتمال فيه، وقد يستعمل كسب في الوجهين.
{والذي تولى} كبره المشهور أنه عبد الله بن أبيّ، والعذاب العظيم عذاب يوم القيامة.
وقيل: هو ما أصاب حسان من ذهاب بصره وشل يده، وكان ذلك من عبد الله بن أُبي لإمعانه في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم وانتهازه الفرص، وروي عنه كلام قبيح في ذلك نزهت كتابي عن ذكره وقلمي عن كتابته قبحه الله.
وقيل: {الذي تولى كبره} حسان، والعذاب الأليم عماه وحده وضرب صفوان له بالسيف على رأسه وقال له:
توقّ ذباب السيف عني فإنني ** غلام إذا هوجيت لست بشاعر

ولكنني أحمي حماي وأتقي ** من الباهت الرامي البريء الظواهر

وأنشد حسان أبياتًا يثني فيها على أم المؤمنين ويظهر براءته مما نسب إليه وهي:
حصان رزان ما تزنّ بريبة ** وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

حليلة خير الناس دينًا ومنصبًا ** نبيّ الهدى والمكرمات الفواضل

عقيلة حي من لؤي بن غالب ** كرام المساعي مجدها غير زائل

مهذبة قد طيب الله خيمها ** وطهرها من كل شين وباطل

فإن كان ما بلغت عني قلته ** فلا رفعت سوطي إليّ أناملي

وكيف وودي ما حييت ونصرتي ** بآل رسول الله زين المحافل

له رتب عال على الناس فضلها ** تقاصر عنها سورة المتطاول

والمشهور أنه حد حسان ومسطح وحمنة.
قيل: وعبد الله بن أبيّ وقد ذكره بعض شعراء ذلك العصر في شعر.
وقيل: لم يحد مسطح.
وقيل: لم يحد عبد الله.
وقيل: لم يحد أحد في هذه القصة وهذا مخالف للنص.
{فاجلدوهم ثمانين جلدة} وقابل ذلك بقول: إنما يقال الحد بإقرار أو بينة، ولم يتقيد بإقامته بالإخبار كما لم يتقيد بقتل المنافقين، وقد أخبر تعالى بكفرهم.
وقرأ الجمهور {كبره} بكسر الكاف.
وقرأ الحسن وعمرة بنت عبد الرحمن والزهري وأبو رجاء ومجاهد وأبو البرهثيم والأعمش وحميد وابن أبي عبلة وسفيان الثوري ويزيد بن قطيب ويعقوب والزعفراني وابن مقسم وسورة عن الكسائي ومحبوب عن أبي عمرو بضم الكاف، والكبر والكبر مصدران لكبر الشيء عظم لكن استعمال العرب الضم ليس في السن.
هذا كبر القوم أي كبيرهم سنًا أو مكانة.
وفي الحديث في قصة حويصة ومحيصة: الكبر الكبر.
وقيل {كبره} بالضم معظمه، وبالكسر البداءة بالإفك.
وقيل: بالكسر الإثم.
{لولا إذ سمعتموه} هذا تحريض على ظن الخير وزجر وأدب، والظاهر أن الخطاب للمؤمنين حاشا من تولى كبره.
قيل: ويحتمل دخولهم في الخطاب وفيه عتاب، أي كان الإنكار واجبًا عليهم، وعدل بعد الخطاب إلى الغيبة وعن الضمير إلى الظاهر فلم يجيء التركيب ظننتم بأنفسكم {خيرًا} وقلتم ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات وليصرح بلفظ الإيمان دلالة على أن الاشتراك فيه مقتض أن لا يصدق مؤمن على أخيه قول عائب ولا طاعن، وفيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قالة في أخيه أن يبني الأمر فيه على ظن الخير، وأن يقول بناء على ظنه {هذا إفك مبين} هكذا باللفظ الصريح ببراءة أخيه كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال، وهذا من الأدب الحسن ومعنى {بأنفسهم} أي كان يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات هذا الأمر على أنفسهم فإذا كان ذلك يبعد عليهم قضوا بأنه في حق من هو خير منهم أبعد.
وقيل: معنى {بأنفسهم} بأمهاتهم.
وقيل: بإخوانهم.
وقيل: بأهل دينهم، وقال {ولا تلمزوا أنفسكم} فسلموا على أنفسكم أي لا يلمز بعضكم بعضًا، وليسلم بعضكم على بعض.
{لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء} جعل الله فصلًا بين الرمي الكاذب والرمي الصادق ثبوت أربعة شهداء وانتفاؤها.
{فإذا لم يأتوا} فهم في حكم الله وشريعته كاذبون، وهذا توبيخ وتعنيف للذين سمعوا الإفك ولم يجدّوا في دفعه وإنكاره واحتجاج عليهم بما هو ظاهر مكشوف في الشرع من وجوب تكذيب القاذف بغير بينة والتنكيل. اهـ.