فصل: قال السمرقندي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

قوله سبحانه وتعالى: {سُورَةٌ أنزلناها}.
قرأ بعضهم: {سُورَةٌ} بنصب الهاء، وقراءة العامة بالضم.
فمن قرأ بالضم فمعناه هذه سورة أنزلناها، ومن قرأ بالنصب فمعناه أنزلنا سورة؛ ويقال: اقرأ سورة وقد قرئت {سُورَةٌ} بالهمزة وبغير همز؛ فمن قرأ بالهمز، جعلها من أسأرت، يعني: أفضلت كأنها قطعت من القرآن؛ ومن لم يهمز جعلها من سور المدينة سورًا.
وقال النابغة للنعمان بن المنذر:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَعْطَاكَ سُورَة ** تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ

وإنما خص هذه السورة بذكر السورة لما فيها من الأحكام، فذلك كله يرجع إلى أمر واحد وهو أمر النساء.
ثم قال تعالى: {وفرضناها} يعني: بيَّنا حلالها وحرامها، وقال القتبي: أصل الفريضة الوجوب، وهاهنا يجوز أن يكون بمعنى بيّناها، وقد يجوز أوجبنا العمل بما فيها؛ وقال بعض أهل اللغة: أصل الفرض هو القطع، ولهذا سمي ما يقطع من حافة النهر فرضة؛ ويسمى الموضع الذي يقطع من السواك، أي ليشد فيه الخيط فرض؛ ولهذا يسمى الميراث فريضة، لأن كل واحد قطع له نصيب معلوم.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو: {وفرضناها} بتشديد الراء، وقرأ الباقون بالتخفيف.
فمن قرأ بالتخفيف، فمعناه ألزمناكم العمل بما فرض؛ ومن قرأ بالتشديد، فهو على وجهين: أحدهما على معنى التكثير، أي إنا فرضنا فيها فروضًا، ومعنى آخر: وبيَّنا وفصلنا فيها من الحلال والحرام.
ثم قال: {وَأَنزَلْنَا فِيهَا} يعني: في السورة {بَيّنَاتٍ فاسأل} يعني: الحدود والفرائض والأمر والنهي؛ ويقال: الآيات، يعني: العلامات والعبرات؛ ويقال: يعني: آيات القرآن.
{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} يعني: تتعظون، فلا تعطلون الأحكام والحدود.
قوله عز وجل: {الزانية والزانى}؛ وقرأ بعضهم: {الزانية} بالنصب على معنى: اجلدوا الزانية والزاني، وهكذا السارق والسارقة بالنصب على هذا المعنى؛ ويقال: في الزنى بدأ بذكر المرأة، لأن الزنى في النساء أكثر؛ وفي السرقة بدأ بالرجال، لأن السرقة في الرجال أكثر.
وقراءة العامة بالرفع على معنى الابتداء، وقيل: إنما بدأ بالمرأة، لأنها أحرص على الزنى من الرجال؛ ويقال: لأن الفعل ينتهي إليها، ولا يكون إلا برضاها.
ثم قال: {فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ} يعني: إذا كانا غير محصنين؛ {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ في دِينِ الله}.
قرأ ابن كثير {رَأْفَةٌ} بالهمزة والمد، وقرأ أبو عمرو بالمد بغير همز؛ وقرأ الباقون بالهمز بلا مد؛ ومعنى الكل واحد وهو الرحمة؛ وقال بعضهم: الرأفة اسم جنس، والرحمة اسم نوع.
قال بعضهم: الرأفة للمذنبين، والرحمة للتائبين، وهو قول سفيان الثوري؛ وقال بعضهم: الرأفة تكون دفع المكروه، والرحمة إيصال المحبوب، يعني: لا تحملنكم الشفقة عليهما على ترك الحد، {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله}؛ يعني: في دين الله، أي في حكم الله إن كنتم تؤمنون بالله، {واليوم الآخر}؛ يعني: يوم القيامة.
وإنما سمي اليوم الآخر، لأنه لا يكون بعده ليل ولا نهار، فيصير كله بمنزلة يوم واحد؛ وقد قيل: إنه تجتمع الأنوار كلها، وتصير في الجنة يومًا واحدًا، وجمعت الظلمات كلها في النار، وتصير كلها ليلة واحدة.
ثم قال: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ المؤمنين} يعني: ليحضر عند إقامة الحد طائفة من المؤمنين.
وفي حضور الطائفة ثلاث فوائد: أولها أنهم يعتبرون بذلك، ويبلغ الشاهد الغائب والثانية أن الإمام إذا احتاج إلى الإعانة أعانوه، والثالثة لكي يستحي المضروب، فيكون زجرًا له من العود إلى مثل ذلك الفعل؛ وقال الزهري: الطائفة ثلاثة فصاعدًا، وذكر عن أنس بن مالك أنه قال: أربعة فصاعدًا، لأن الشهادة على الزنى لا تكون أقل من أربعة؛ وقال بعضهم: اثنان فصاعدًا؛ وقال بعضهم: الواحد فصاعدًا؛ وهو قول أهل العراق؛ وهو استحباب وليس بواجب، وروي عن ابن عباس أنه قال: رجلان، وعن مجاهد قال: واحد فما فوقه طائفة؛ وروي عن ابن عباس مثله.
قوله عز وجل: {الزانى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً}.
روي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رجلًا يقال له مرثد بن أبي مرثد، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أأنكح عناقًا، يعني: امرأة بغيَّة كانت بمكة؟ قال: فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى نزلت هذه الآية {الزانى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} {أَوْ مُشْرِكَةً} فقال: «يا مَرْثَدُ لا تَنْكِحْهَا» وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ليس هو على النكاح، ولكنه الجماع؛ ويقال: إن أصحاب الصفة استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يتزوجوا الزواني، وكانت لهن رايات كعلامة البيطار ليُعرف أنها زانية، وقالوا: لنا في تزويجهن مراد، فأذن لنا فإنهن أخصب أهل المدينة وأكثرهم خيرًا؛ والمدينة غالية السعر، وقد أصابنا الجهد.
فإذا جاءنا الله تعالى بالخير، طلقناهن وتزوجنا المسلمات، فنزلت الآية {الزانى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً}.
وقال سعيد بن جبير، والضحاك: {الزانى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} أي لا يزني حين يزني إلا بزانية مثله في الزنى، والزانية لا تزني إلا بزان مثلها في الزنى.
{والزانية لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذلك عَلَى المؤمنين} يعني: الزنى؛ وقال الحسن البصري: الزاني المجلود بالزنى، لا ينكح إلا زانية مجلودة مثله في الزنى.
وروي عن علي بن أبي طالب: أن مجلودًا تزوج امرأة غير مجلودة، ففرق بينهما؛ ويقال: أراد به النكاح، لا ينكح، يعني: لا يتزوج.
وكان التزويج حرامًا بهذه الآية، ثم نسخ بما روي أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن امرأتي لا ترد يد لامس، فقال: طَلِّقْهَا.
قال: إني أحبها، فقال: أَمْسِكْهَا.
وقال سعيد بن المسيب: {الزانى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً}.
كانوا يرون الآية التي بعدها نسختها {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور: 32] الآية.
ثم قال عز وجل: {والذين يَرْمُونَ المحصنات} يعني: يقذفون العفائف من النساء الحرائر المسلمات، {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} على صدق مقالتهم، {فاجلدوهم}؛ يقول: للحكام؛ ويقال: هذا الخطاب لجميع المسلمين.
ثم إن المسلمين فوضوا الأمر إلى الإمام وإلى القاضي، ليقيم عليهم الحد.
{ثَمَانِينَ جَلْدَةً} يعني: ثمانين سوطًا.
{وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} أي لا تقبلوا لهم شهادة بعد إقامة الحد عليهم.
{وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون} يعني: العاصين.
قال عز وجل: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك} يعني: القذف.
{وَأَصْلَحُواْ} يعني: العمل بعد التوبة، {فَإِنَّ الله غَفُورٌ} لذنوبهم بعد التوبة، {رَّحِيمٌ} بهم بعد التوبة؛ وقال شريح: يقبل توبته فيما بينه وبين الله تعالى.
فأما شهادته، فلا تقبل أبدًا؛ وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: إذا تاب ذهب عنه الفسق، ولا تقبل شهادته أبدًا.
وروي عن ابن عباس أنه قال: {إِلاَّ الذين تَابُواْ} تاب الله عليهم من الفسق وأما الشهادة، فلا تقبل أبدًا؛ وهكذا عن سعيد بن جبير ومجاهد.
وروي عن جماعة من التابعين أن شهادته تقبل إذا تاب، مثل عطاء وطاوس وسعيد بن المسيب والشعبي وغيرهم؛ وهو قول أهل المدينة، والأول قول أهل العراق وبه نأخذ.
ثم قوله عز وجل: {والذين يَرْمُونَ أزواجهم} يعني: يقذفون أزواجهم بالزنى.
قال أبو الليث: حدّثنا أبو جعفر قال: حدّثنا أبو الحسن علي بن أحمد قال: حدّثنا محمد بن الفضل قال: حدّثنا يزيد بن هارون، عن عباد بن منصور، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما نزل {والذين يَرْمُونَ المحصنات} الآية، قال مسعد بن عبادة، وهو سيد الأنصار: أهكذا أنزلت يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ الأَنْصَاِر، ألا تَسْمَعُونَ إلَى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ؟» فقال سعد: والله يا رسول الله إني لأعلم أنها حق، وأنها من الله تعالى، ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعًا قد تفخذها رجل، لم يكن لي أن أهيجه، حتى آتي بأربعة شهداء فوالله إني لا آتي بأربعة شهداء، حتى يقضي حاجته قال: فما لبثوا إلا يسيرًا، حتى جاء هلال بن أمية، وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم فجاء من أرضه عشاء، فوجد عند امرأته رجلًا، فرأى بعينه وسمع بأذنه، فلم يهجه حتى أصبح، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني جئت أهلي عشاء فوجدت عندها رجلًا، فرأيت بعيني وسمعت بأذني فكره النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء به واشتد عليه واجتمعت الأنصار، فقالوا: قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة الآن يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم هلال بن أمية، ويبطل شهادته في المسلمين، فقال هلال: والله إني لأرجو أن يجعل الله لي مخرجًا فوالله إن النبي صلى الله عليه وسلم ليريد أن يأمر بضربه، إذ نزل عليه الوحي، فعرفوا بذلك في تربد وجهه، فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي فنزل {والذين يَرْمُونَ أزواجهم}.
{وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أَبْشِرْ يا هِلالُ فَقَدْ جَعَلَ الله لَكَ مَخْرَجًا» فقال هلال: قد كنت أرجو ذلك من ربي فأرسلوا إليها، فجاءت فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما وذكرهما، وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا فقال هلال: والله يا رسول الله لقد صدقت عليهما فقالت: كذب علي.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لاعِنُوا بَيْنَهُما» فقيل لهلال: اشهد فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين؛ فلما كانت الخامسة، قيل: «يا هلال، اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب» قال: والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها، فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم قيل لها: اشهدي فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، فلما كانت الخامسة، قيل لها: «اتقي الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فمكثت ساعة ثم قالت: والله لا أفضح قومي» فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وقضى أن لا يدعى ولدها لأب، وقال: إن جاءت به أصيهب أريسج أثيبج خمش الساقين، فهو لهلال.
وإن جاءت به أورق جعدًا جماليًا خدلج الساقين سابغ الأليتين، فهو للذي رميت به.
فجاءت به أورق جعدًا جماليًا خدلج الساقين سابغ الأليتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَوْلاَ الأَيْمَانُ، لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» قال عكرمة: فكان بعد ذلك أميرًا على مصر ولا يدعى لأب.
وروى ابن شهاب، عن سهل بن سعد الساعدي: أن عويمر العجلاني أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن وجد الرجل مع امرأته رجلًا إن قتله قتلتموه أو كيف يفعل؟ قال: «قَدْ أَنْزَلَ الله فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ قُرْآنًا فَاذْهَبْ فَأْت بِهَا» فتلاعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما فرغا، قال: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فهي طالق ثلاثًا.
فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن شهاب: تلك سنة المتلاعنين؛ وفي رواية أخرى: أنه فرق بينهما؛ وقال الزهري: صار ذلك سنة في المتلاعنين، فذلك قوله: {والذين يَرْمُونَ أزواجهم وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} يعني: الزوج خاصة.
{فشهادة أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شهادات بالله إِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} أي يحلف الزوج أربع مرات، فيقول في كل مرة: أشهد بالله الذي لا إله إلا هو أني صادق فيما رميتها به من الزنى، {والخامسة}؛ يعني: ويقول في المرة الْخَامِسَةِ: {أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الكاذبين} فيما رماها به من الزنى.