فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم قال عز وجل: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} يعني: منته ونعمته عليكم.
{فِى الدنيا والآخرة لَمَسَّكُمْ} يعني: أصابكم {فِيمَا أَفَضْتُمْ فِيهِ} يعني: فيما قلتم من القذف {عَذَابٌ عظِيمٌ} في الدنيا والآخرة على وجه التقديم.
قوله عز وجل: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} أي يرويه بعضكم من بعض، ويتلقاه بعضكم من بعض.
وقرىء {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} بكسر اللام وضم القاف والتخفيف، أي تكذبون بألسنتكم؛ ويقال: معناه تسرعون إلى الكذب.
يقال: ولق يلق، إذا أسرع إلى الكذب.
وروى ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقرأ: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} بكسر اللام، وقال ابن أبي مليكة هي أعلم، لأن الآية نزلت فيها.
وروي عن أبيّ بن كعب أنه كان يقرأ: {إِذْ} وقال أبو عبيد: لولا قراءة أبي وكراهة الخلاف على الناس، ما كان أحد أولى أن يتبع فيها من عائشة، كما احتج ابن أبي مليكة.
ثم قال تعالى: {بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بأفواهكم مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} من الفرية، {وَتَحْسَبُونَهُ هَيّنًا}؛ أي تحسبون عقوبته هينة.
{وَهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ} في الوزر والعقوبة.
قوله تعالى: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} يعني: وهلا إذ سمعتم القذف.
{قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَا} يعني: ما ينبغي لنا ولا يجوز لنا {أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا سبحانك هذا بهتان عَظِيمٌ}.
وفي هذا بيان فضل عائشة رضي الله عنها حيث نزهها الله باللفظ الذي نزه به نفسه، وهو لفظ سبحان الله؛ ويقال: سبحان الله أن تكون امرأة النبي صلى الله عليه وسلم زانية، ما كانت امرأة نبي زانية قط.
ثم وعظ الذين يخوضون في أمر عائشة، فقال عز وجل: {يَعِظُكُمُ الله} يعني: ينهاكم الله عز وجل: {أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَدًا} يعني: القذف {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} يعني: مصدقين بالله وبرسوله عليه السلام وباليوم الآخر.
{وَيُبَيّنُ الله لَكُمُ الآيات} يعني: الأمر والنهي {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ}؛ ونزل في عبد الله بن أبيّ وأصحابه.
{إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة} يعني: يظهر الزنى ويفشو ويقال: تحبوا ما شاع لعائشة رضي الله عنها من الثناء السيىء {إِنَّ الذين يُحِبُّونَ} يعني: عائشة وصفوان.
{لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ في الدنيا} الحد {والآخرة} النار إن لم يتوبوا.
{والله} تعالى {يَعْلَمْ} أنهما لم يزنيا {وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} ذلك منهما.
ثم قال عز وجل: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} وجوابه مضمر، يعني: لولا منُّ الله عليكم ونعمته لعاقبكم فيما قلتم في أمر عائشة وصفوان.
{وَأَنَّ الله رَءوفٌ رَّحِيمٌ} حيث لم يعجل بالعقوبة. اهـ.

.قال الثعلبي:

{سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا}.
قراءة العامة بالرفع: هذه سورة لأنّ العرب لا تبتدئ بالنكرة، هذا قول الخليل، وقال الأخفش: سورة ابتداء وخبره في أنزلناها، وقرأ طلحة بن مصرف: سورةً بالنصب على معنى أنزلنا سورة، والكناية صلة زائدة، وقيل: اتّبعوا سورة أنزلناها {وَفَرَضْنَاهَا} أي أوجبنا ما فيها من الأحكام، وقرأ الحسن ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو: وفرّضناها بالتشديد أي فصّلناها وبيّنّاها، وقيل: هو من الفرض والتشديد على التكثير أي جعلناها فرائض مختلفة، وأوجبناها عليكم وعلى من بعدكم إلى قيام الساعة، وتصديق التخفيف قوله سبحانه {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن} [القصص: 85].
{وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الزانية والزاني} إذا كانا حُرّين بالغين بكرين غير محصنين {فاجلدوا} فاضربوا {كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} رحمة ورقّة.
قال الأخفش: رحمة في توجّع وفيها ثلاث لغات: رأفة ساكنة الهمز وقد تخفف الهمزة، وهي قراءة العامة، ورأَفة بفتح الهمزة، ورآفة مهموزة ممدودة مثل الكتابة، وهما قراءة أهل مكة مثل الشناة والشنآة، وقيل: القصر على الاسم والمدّ بمعنى المصدر مثل صؤل صآلةً، وقبح قباحة، ولم يختلفوا في سورة الحديد أنها ساكنة لأنّ العرب لا تجمع بين أكثر من ثلاث فتحات.
واختلف العلماء في معنى الآية فقال قوم: ولا تأخذكم بهما رأفة فتعطلّوا الحدود ولا تقيموها.
روى المعمّر عن عمران قال: قلت لأبي مخلد في هذه الآية: واللّه إنا لنرحمهم أن يجلد الرجل أو تقطع يده فقال: إنّما ذاك أنّه ليس للسلطان إذا رفعوا إليه أن يدعهم رحمة لهم حتى يقيم عليهم الحدّ، وهذا قول مجاهد وعكرمة وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير والنخعي والشعبي وابن زيد وسليمان بن يسار، يدلّ عليه من الآية أنّ اللّه سبحانه وتعالى أمر بالجلد، وهو ضرب الجلد كالرأس لضرب الرأس فذكر الضرب بلفظ الجلد لئلاّ ينكأ ولا يبرح ولا تبلغ به اللحم.
وروى ابن أبي مليكة عن عبد الله بن عبد الله أنَّ عبد الله بن عمر جلد جارية له فقال للجالد: اجلد ظهرها ورجليها وأسفلها وخفّفها، قلت: فأين قول الله سبحانه {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله}؟
قال: أفأقتلها؟ إنَّ الله أمرني أن أضربها وأؤدّبها ولم يأمرني أن أقتلها.
وقال الآخرون: بل معناها ولا يأخذكم بهما رأفة فتخففوا الضرب ولكن أوجعوهما ضربًا، وهو قول سعيد بن المسيّب والحسن.
قال الزهري: يجتهد في حدّ الزنا والفرية ويخفّف في حدّ الشراب.
وقال قتادة: يخفّف في حدّ الشراب والفرية ويجتهد في الزنا.
وقال حمّاد: يُحدّ القاذف والشارب وعليهما ثيابهما، وأمّا الزاني فيخلع ثيابه، وتلا هذه الآية.
{فِي دِينِ الله} أي في حكم الله نظيره قوله سبحانه.
{مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك} [يوسف: 76].
{إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا} وليحضر حدّيهما إذا أُقيم عليهما {طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} اختلفوا في مبلغ عدد الطائفة فقال النخعي ومجاهد: أقلّه رجل واحد فما فوقه، واحتجّا بقوله: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] الآية. عطاء وعكرمة: رجلان فصاعدًا، الزهري: ثلاثة فصاعدًا، ابن زيد: أربعة بعدد من يقبل شهادته على الزنى، قتادة: نفر من المسلمين.
روى حفص بن غياث عن أشعث عن أبيه قال: أتيت أبا برزة الأسلمي في حاجة وقد أخرج جارية له إلى باب الدار وقد زنت وولدت من الزنا، فألقى عليها ثوبًا وأمر ابنه أن يضربها خمسين ضربًا غير مبرح، ودعا جماعة ثم قرأ {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين}.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدَّثنا أبو علي بن حنش المقري قال: حدَّثنا محمد بن أحمد ابن عثمان قال: حدَّثنا إبراهيم بن نصره قال: حدَّثنا مسدّد قال: حدَّثنا إسماعيل قال: حدَّثنا يونس بن عبيد عن حريز بن يزيد البجلي عن أبي زرعة عن عمرو بن حريز عن أبي هريرة قال: إِقامة حد بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة.
وأخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الله بن حمدون قال: حدَّثنا أبو نعيم عبد الملك بن محمد ابن عدي قال: أخبرنا العباس بن الوليد بن مزيد البيروتي قال: أخبرني محمد بن شعيب قال: أخبرني معاوية بن يحيى عن سليمان الأعمش عن شقيق بن سلمة عن حذيفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «يا معشر الناس اتقوا الزنى فإنَّ فيه ست خصال، ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة، فأمّا اللاتي في الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر وينقص العمر، وأمّا اللاتي في الآخرة فيوجب السخطة وسوء الحساب والخلود في النار».
وأخبرنا أبو طاهر بن خزيمة قرأه عليه في شهور سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة قال: حدَّثنا عبد الله بن محمد بن مسلم قال: حدّثنا عطية بن بقية قال: حدَّثنا أبي قال: حدّثني عبّاد بن كثير عن عمران القصير عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أعمال أُمَتي تُعرض علي في كلّ جمعة مرّتين فاشتدّ غضب الله على الزناة».
وأخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه قال: حدَّثنا إبراهيم بن يزيد الحرّاني قال: حدَّثنا المغيرة ابن سقلاب قال: حدَّثنا النضر بن عدي عن وهب بن منبه قال: مكتوب في التوراة: الزاني لا يموت حتى يفتقر، والقوّاد لا يموت حتى يعمى.
{الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} الآية.
اختلف العلماء في معنى الآية وحكمها فقال قوم: قدم المهاجرون المدينة وفيهم فقراء كثير ليست لهم أموال ولا عشائر ولا أهلون، وبالمدينة نساء بغايا مسافحات يكرين أنفسهن وهن يومئذ أخصب أهل المدينة، فرغب في كسبهن ناس من فقراء المسلمين فقالوا: إنّا لو تزوّجنا منهن فعشنا معهن إلى يوم يغنينا الله سبحانه عنهن، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فنزلت هذه الآية وحُرَّم فيها نكاح الزانية صيانة للمؤمنين عن ذلك، وأخبر سبحانه وتعالى أنّ الزانية إنّما ينكحها الزاني والمشرك لأنهنّ كنّ زانيات مشركات، والآية وإن كان ظاهرها خبر فمجازها ينبغي أن يكون كذا كقوله.
{وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] وقوله سبحانه وتعالى {إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45] يعني ينبغي أن تكون كذلك، وهذا قول مجاهد وعطاء بن أبي رباح وقتادة والزهري والقاسم بن أبي برزه والشعبي وأبي حمزة الثمالي ورواية العوفي عن ابن عباس.
وقال عكرمة: نزلت في نساء بغايا متعالمات بمكة والمدينة وكنّ كثيرات ومنهن تسع صواحب رايات، لهن رايات كرايات البيطار يُعرفن بها: أُمّ مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي، وأُم عليط جارية صفوان بن أُمّية، وحنّة القبطية جارية العاص بن وائل، ومرية جارية مالك بن عميلة بن السباق، وحلالة جارية سهيل بن عمرو، وأُم سويد جارية عمرو ابن عثمان المخزومي، وسريفة جارية زمعة بن الاسود، وفرسة جارية هشام بن ربيعة بن حبيب ابن حذيفة، وقرينة جارية هلال بن أنس بن جابر بن نمر، وكانت بيوتهن تسمى المواخير في الجاهلية، لا يدخل عليهن ولا يأتيهن إلاّ زان من أهل القبلة أو مشرك من أهل الأوثان وكان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية يتخذها ماكله، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الجهة، واستأذن رجل من المسلمين نبي الله صلى الله عليه وسلم في نكاح أم مهزول اشترطت له أن تنفق عليه فأنزل الله سبحانه هذه الآية ونهى المؤمنين عن ذلك وحرّمهُ عليهم.
وقال عمرو بن شعيب: نزلت في مرثد الغنوي وعناق، وكان مرثد رجلا شديدًا وكان يقال له دلدل وكان يأتي مكة فيحتمل ضعفه المسلمين الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت عناق صديقته في الجاهلية، فلمّا أتى مكه دعته عناق الى نفسها فقال مرثد: إنَّ الله حرَّم الزنا قالت: فأنكحني فقال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فسأله عنه فأنزل الله سبحانه هذه الآية، وقد مضت القصة في سورة البقرة.
وقال آخرون: أراد بالنكاح هاهنا الجماع ومعنى الآية الزاني لا يزني إلاّ بزانية أو مشركة والزانية لا يزني بها إلاّ زان أو مشرك، وهذا قول سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم وعبد الرَّحْمن بن زيد ورواية الوالبي عن ابن عباس، أخبرني الحسين بن محمد بن عبد الله قال: حدَّثنا أحمد بن محمد بن إسحاق السُني قال: أخبرني محمد بن عمران قال: حدَّثنا سعيد بن عبد الرَّحْمن ومحمد بن عبد الله المقري قالا: حدَّثنا عبد الله بن الوليد العدني عن سفيان عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: الزاني لا ينكح إلا زانية قال: ليس هذا بالنكاح ولكنه الجماع، لا يزني بها إلاّ زان أو مشرك، فكنّى.
وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدَّثنا أبو علي بن حبش قال: حدّثني الحسن بن علي بن زكريا قال: حدّثنا الحسن بن علي بن راشد قال: قال لنا يزيد بن هارون: هذا عندي إن جامعها وهو مستحل فهو مشرك، وإن جامعها وهو محرم فهو زان.
وقال بعضهم: كان هذا حكم الله في كلّ زان وزانية حتى نسختها الآية التي بعدها {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} فأحلّ نكاح كل مسلمة وكل مسلم، وهو قول سعيد بن المسيّب أخبرنيه ابن فنجويه قال: حدَّثنا ابن شيبة قال: حدَّثنا الفريابي قال: حدَّثنا قتيبة قال: حدَّثنا الليث عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنّه قال: يزعمون أن تلك الآية {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} نسخت بالآية التي بعدها {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} فدخلت الزانية في أيامى المسلمين.