فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

حديث الإفك.. عبرة وعظة:
التفسير:
بعد أن بينت الآيات السابقة حكم الذين يرمون المحصنات، ثم حكم الذين يرمون أزواجهم- جاءت الآيات هنا تبين حكما خاصا لواقعة خاصة، ترمى بها أحصن المحصنات، أم المؤمنين، عائشة، زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم.
والقضية في أصلها قضية واحدة، هي رمى المحصنات، واتهامهنّ بتلك التهمة الشنعاء.. وقد جاءت في ثلاثة معارض، الأول عاما، والثاني خاصا، والثالث أخص.
فالمحصنات، يدخل في حكمهن الزوجات، كما يدخل فيهن الإفك على أم المؤمنين عائشة رضي اللّه عنها.
وإنما جاء الحديث عن الزوجات في معرض خاص- وإن شملهن حكم المحصنات- لأن للعلاقة الزوجية- كما قلنا- اعتبارات خاصة، ينبغى أن يكون لها حساب وتقدير، غير حساب الأجنبى الذي يرمى محصنة أو محصنا.. كذلك، أم المؤمنين- عائشة- هي غير عامة المحصنات، وهى غير الزوجة.. إنها الأم لكل مؤمن ومؤمنة، فكان لابد أن يكون لأمرها هنا ذكر خاص، وأن يتولى القرآن الكريم الكشف عن تلك الفرية التي افتريت عليها، وأن يمسك بأهل الإفك، ويسجل فضيحتهم، لتبقى عالقة بهم إلى الأبد.
والرأى عند المفسرين، والفقهاء، والأصوليين- أن بين الحكم الخاص بقذف الزوجات، وبين الحكم العام المتعلق بقذف المحصنات- تناسخا، وأن الآية الثانية ناسخة لعموم الحكم في الأولى.. أي أن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} الآيات ناسخ لعموم الحكم في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً}.
والرأى عندنا أنه لا تناسخ بين الحكمين.. فكل من الحكمين عامل في موضعه، وكل من الآيات، السابقة واللاحقة تقرر حكما لا يتعارض، ولا يتداخل مع صاحبه.
فالآيات الأولى، خاصة بقذف المحصنات حين يكون القاذف غير زوج.
ولهذه الحالة حكم خاص بها، وهى أن القاذف مطالب بأن يأنى بأربعة شهداء، وإلّا جلد ثمانين جلدة، ثم لا تقبل له بعد هذا شهادة أبدا.. ثم هو من الفاسقين.
أما الآيات الأخرى، فهى خاصة بقذف الزوج زوجه.. والحكم في هذا، هو التلاعن بينهما، وما يترتب على هذا، كما أشرنا إلى ذلك من قبل.
والذي أدخل الشبهة على القائلين بالتناسخ بين الآيات، هو وجود كلمة {الْمُحْصَناتُ} هنا، وهناك.. فافترضوا لهذا عمومية الحكم في الآيات الأولى، بحيث يشمل الزوجات وغيرهن، وعدّوا إفراد الزوجات بذكر خاص في الآيات الأخرى، تخصيصا لعموم الحكم.. وهو عندهم- أي التخصيص- من قبيل النسخ الوارد على الحكم العام! وهذا غير صحيح من وجهين:
فأولا: المحصنات في الآيات الأولى، إنما يراد بهن العفيفات المتحصنات بعفتهن، سواء أكنّ متزوجات أم غير متزوجات، كما أنه يشمل- ضمنا- المحصنين من الرجال، بهذا المعنى أيضا، وهو المتحصّن بالعفة، سواء أكان متزوجا أم غير متزوج.
أما {المحصنات} في الآيات الأخرى، فالمراد بهن- نصا- المتزوجات، سواء أكنّ- في واقع الأمر- عفيفات أم غير عفيفات.
وثانيا: الذين يرمون المحصنات، أو اللائي يرمين المحصنين، في الآيات الأولى حكم خاص، لا يلتقى معه الحكم الذي يقع من التلاعن بين الزوجين، في أي وجه من الوجوه.
وإذن فلا تناسخ بين الآيات السابقة واللاحقة، بالتخصيص أو غيره.. وإنما كل من السابق واللاحق من الآيات له موضعه، وله الحكم الواقع على هذا الموضع.
ونعود بعد هذا إلى حديث الإفك.. وقد جاء كما قلنا في معرض خاص به، لأنه أشنع ما يقع في هذا الباب، من صور القذف.
وقد جاء القرآن الكريم بالحكم أولا على هؤلاء الذين افتروا تلك الفرية المنكرة، وأذاعوا هذا البهتان العظيم.. فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ}.
وقد تضمن هذا الحكم أمورا، منها:
أولا: وصف هذا الحدث الذي أثار البلبلة في الخواطر، والاضطراب بالنفوس بأنه إفك.. والإفك هو الافتراء، وخلق الأباطيل، ونسجها من الكذب والبهتان.
وثانيا: تصوير هذا {بِالْإِفْكِ} الذي جرى على ألسنة المؤتفكين، في صورة مجسّدة، وأنّه شيء مجلوب جاءوا به من عالم الظلام، وتعاملوا به، وتبادلوه، فيما بينهم، كما يتبادلون النقد الزائف: {جاؤُ بِالْإِفْكِ} وثالثا: وصف الجماعة التي جلبت هذا {بِالْإِفْكِ} واستوردته من ظنونها السيئة، وأوهامها الضالة- وصفها بأنها {عُصْبَةٌ} تداعت على الإفك، واجتمعت عليه، وأصبحت عصبة له، لما بينها من علائق التلاحم، والترابط، والتوافق، في فساد العقيدة، وضعف الإيمان، والانجذاب نحو الشرّ.
ورابعا: أن هذه العصبة التي جاءت بالإفك- شأنها في ذلك شأن كل عصبة- لها رأس فاسد يقودها إلى الشرّ، ويجمعها عليه.. ومن وراء هذا الرأس، أعضاء، تعمل معه، ولكل عضو مكانه ودوره الذي يقوم به.
وخامسا: هذه العصابة الآثمة التي جاءت بهذا الإفك- لها حسابها، وجزاؤها عند اللّه.. أما زعيمها، ولذى تولّى كبر أمرها، فله عذاب عظيم، أضعاف ما يلقاه غيره من الذين معه.
وسادسا: هذا الحديث الآثم، وإن بدا في ظاهره أنه شرّ تأذّت به النفوس الطاهرة، وضاقت به الصدور الكريمة- فإنه يحمل في طيّاته خيرا كثيرا، حين ينجلى هذا الدخان، ويتبدد هذا الضباب، فيسفر وجه الحق، ويكشف عن آية من آيات اللّه، في الطّهر، والعفّة، والتصوّن.
وحديث الإفك- كما يروى- هو أن أم المؤمنين عائشة رضي اللّه عنها، كانت في صحبة النبىّ صلى اللّه عليه وسلم في إحدى غزواته، ويقال إنها غزوة- بنى المصطلق- وفى طريق العودة، نزل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منزلا، فلما آذنوا بالرّحيل، كانت أم المؤمنين، عائشة، تقضى حاجة لها، بعيدا عن هودجها الذي كانت تحمل عليه، وإذ كانت في عجلة من أمرها، فقد افتقدت عقدا لها.. فلما التمسته ولم تجده، وهى في طريقها إلى هودجها، عادت تبحث عنه، فلما وجدته، وأسرعت لتأخذ مكانها في رحلها، كان القوم قد احتملوه، وكانت صغيرة، خفيفة اللحم، فلم ينتبهوا إلى شيء مما حدث، وظنوا أنها في الرحل الذي حملوه.
وحين وصلت إلى مكانها، كان النبىّ وأصحابه قد بعدوا عنها، وهم على يقين من أنها في هودجها، على راحلتها التي يقودونها معهم.
والذي صنعته أم المؤمنين عائشة في تلك الحال، هو أنها جلست في مكانها، تنتظر عودة من يعود إليها من القوم، بعد أن يفتقدوها في الرحل، فلا يجدوها.
وكان من العادة أن يتخلّف وراء القوم من ينتدبونه، لينظر.. إذا استبان النهار- فيما خلّفوه وراءهم من أدواتهم، وأمتعتهم، فيلتقطها، ويحملها معه إلى أصحابها.. وذلك أنهم كانوا يرتحلون ليلا، فتندّ عنهم بعض الأشياء التي يحجبها الظلام عنهم.
وقد كان صفوان بن المعطل رضوان اللّه عليه- هو المنتدب لهذه المهمّة.. فلما استبان ضوء النهار، وجاء حيث كان منزل الرسول وأصحابه في تلك الليلة، رأى سوادا، لم يتبيّنه أول الأمر، وظنّه متاعا من أمتعة القوم، فلما داناه رأى كائنا يتحرك في داخله- وكان الحجاب قد ضرب على نساء النبىّ- فلم ير لأم المؤمنين، وجها، ولكنه عرف أنها أم المؤمنين، فاسترجع، ثم أناخ لها بعيره، فركبته، وقاده بها حتى أدرك النبىّ وأصحابه في بعض الطريق.
دون أن ينطق بكلمة.
هذا هو مجمل القصة.
ولكن المنافقين- وعلى رأسهم عبد اللّه بن أبىّ بن سلول- أخذوا يتهامسون ويتغامزون، ثم تحول همسهم وتغامزهم إلى اتهام صريح لأم المؤمنين، على هذا الصحابي الجليل، صفوان بن المعطل. ثم أخذ هذا الحديث يدور في المدينة، والمنافق عبد اللّه بن أبىّ ينفخ فيه، حتى أصبح نارا مشتعلة، علقت بأذيال المسلمين، وأكلت كثيرا من القلوب المؤمنة.. كما أنها أكلت ما بقي من إيمان في قلوب المنافقين والذين في قلوبهم مرض!
وقد بلغ النبىّ صلى اللّه عليه وسلم، قالة المنافقين، وعلى رأسهم عبد اللّه بن أبىّ.. واستأذن بعض الصحابة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في قتل هذا المنافق، وقتل من كان على شاكلته، ولكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبى عليهم ذلك، وفوّض أمره إلى اللّه، في هذا المنافق ومن معه.
أما أم المؤمنين، فإنها كانت في غفلة عن هذا الذي يتحدّث به المنافقون في شأنها، وكانت في تلك الأيام متوعكة، تلازم فراشها- وربما كان ذلك لما أصابها من مشقة السفر.. وقد استشعرت بطبيعة الأنثى إعراضا من النبىّ صلى اللّه عليه وسلم عنها، إلا أنها لم تعرف لذلك سببا.
كل هذا، والحديث يدور حولها، والعاصفة تزمجر عن يمينها وشمالها، وهى الغافلة عن كل هذا، غفلة أهل البراءة، المشغولة بدينها عن دنياها، شغل المؤمنين بالسماء، عما يشغل به الناس في الأرض.
وفى ليلة.. خرجت أم المؤمنين، مع قريبة لها، هي أم مسطح، لقضاء حاجة في الخلاء.. وكان أن عثرت أم مسطح أو تعمدت العثار، لتنطق بتلك الكلمة التي تريد أن تلقى بها إلى أسماع أم المؤمنين، ولتتخذ منها مدخلا إلى الحديث الذي تريد أن تفضى به إليها، وهى في غفلة عنه- فقالت أم مسطح حين عثرت أو تعاثرت: تعس مسطح تريد ابنها مسطحا! فقالت أم المؤمنين بئس ما قلت يا أم مسطح في رجل شهد بدرا! فقالت أم مسطح: لا، وتعسا له!! أما سمعت ما يقول مسطح؟ فقالت وما يقول؟.. فأخبرتها ما يدور على الألسنة من حديث الإفك، ومن التهمة الظالمة التي يرميها بها المنافقون، ويتلقاها عنهم كثير من الثرثارين.. ومنهم مسطح!! وهنا تنبهت أم المؤمنين إلى ما كانت غافلة عنه، واسترجعت موقف النبىّ منها، وعرفت سبب إعراضه عنها، وأنه لم يكن لذلك من سبب إلا هذا الحديث، وأن النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- قد وقع منه هذا الحديث موقعا.