فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقصة الإفك معروفة مشهورة ثابتة في عشر آيات من هذه السورة الكريمة، وفي الأحاديث الصحاح، فلما نزلت براءة عائشة رضي الله عنها في الآيات المذكورة، حلف أبو بكر ألا ينفق على مسطح، ولا ينفعه بنافعة بعد ما رمى عائشة بالإفك ظلمًا وافتراء، فأنزل الله في ذلك: الآية. وقوله: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله} الآية. قووله: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة} أي لا يحلف فقوله: يأتل وزنه يفتعل من الألية وهي اليمين، تقول العرب آلى يؤلي وائتلى إذا حلف، ومنه قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 226] أي يحلفون مضارع آلى يؤلي إذا حلف. ومنه قول امرئ القيس:
ويوما على ظهر الكثيب تعذرت ** علي وآلت حلفة لم تحلل

أي حلفت حلفة. وقول عاتكة بنت زيد العدوية ترثي زوجها عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهم:
فآليت لا تنفك عيني حزينة ** عليك ولا ينفك جلدي أغبرا

والألية اليمين.
ومنه قول الآخر يمدح عمر بن عبد العزيز:
قليل الألايا حافظ ليمينه ** وإن سبقت منه الألية برت

أي لا يحلف أصحاب الفضل والسعة: أي الغنى كأبي بكر رضي الله عنه، وأن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله كمسطح بن أثاثة. وقوله: أن يؤتوا: أي لا يحلفوا عن أن يؤتوا، أو لا يحلفوا ألا يؤتوا وحذف حرف الجر قبل المصدر المنسبك من أن وأن وصلتهما مطرد. وكذلك حذف لا النافية قبل المضارع بعد القسم، ولا يؤثر في ذلك هنا كون القسم منهيًا عنه. ومفعول يؤتوا الثاني محذوف: أي أن يؤتوا أولي القربى النفقة والإحسان، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه.
وقال بعض أهل العلم قوله: ولا يأتل: أي لا يقصر أصحاب الفضل، والسعة كأبي في إيتاء أولي القربى كمسطح، وعلى هذا فقوله يأتل يفتعل من ألا يألوا في الأمر إذا قصر فيه وأبطأ.
ومنه قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران: 118] أي لا يقصرون في مضرتكم، ومنه بهذا المعنى قول الجعدي:
وأشمط عريان يشد كتافه ** يلام على جهد القتال وما ائتلا

وقول الآخر:
وإن كنائني لنساء صدق ** فما آلى بني ولا أساءوا

فقوله: فما آلى بني: يعني ما قصروا، ولا أبطؤوا والأول هو الأصح. لأن حلف أبي بكر ألا ينفع مسطحًا بنافعة، ونزول الآية الكريمة في ذلك الحلف معروف. وهذا الذي تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي عن الحلف عن فعل البر من إيتاء أولى القربي والمساكين والمهاجرين، جاء أيضًا في غير هذا الموضع كقوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ الناس والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 224] أي لا تحلفوا بالله عن فعل الخير، فإذا قيل لكم: اتقوا وبروا، وأصلحوا بين الناس قلتم: حلفنا بالله لا نفعل ذلك، فتجعلوا الحلف بالله سببًا للامتناع من فعل الخير على الأصح في تفسير الآية.
وقد قدمنا دلالة هاتين الآيتيتن على المعنى المذكور، وذكرنا ما يوضحه من الأحاديث الصحيحة في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان} [المائدة: 89].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا} فيه الأمر من الله للمؤمنين إذا أَساء إليهم بعض إخوانهم المسلمين أن يعفوا عن إساءتهم ويصفحوا وأصل العفو: من عفت الريح الأثر إذا طمست.
والمعنى: فليطمسوا آثار الإساءة بحملهم وتجاوزهم، والصفح، قال بعض أهل العلم مشتق من صفحة العنق أي أعرضوا عن مكافأة إساءتهم حتى كأنكم تولونها بصفحة العنق، معرضين عنها. وما تضمنته هذه الآية من العفو والصفح جاء مبينًا في مواضع أخر كقوله تعالى: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الذين يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: 133- 134] وقد دلت هذه الآية على أن كظم الغيظ والعفو عن الناس، من صفات أهل الجنة، وكفى بذلك حثًا على ذلك. ودلت أيضًا: على أن ذلك من الإحسان الذي يحب الله المتصفين به وكقوله تعالى: {إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سواء فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: 149] وقد بين تعالى في هذه الاية أن العفو مع القدرة من صفاته تعالى، وكفى بذلك حثًا عليه. وكقوله تعالى: {فاصفح الصفح الجميل} [الحجر: 85] وكقوله: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43] إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ} دليل على أن العفو والصفح عن المسيء المسلم من موجبات غفران الذنوب، والجزاء من جنس العمل، ولذا لما نزلت قال أبو بكر: بلى والله نحب أن يغفر لنا ربنا، ورجع للإنفاق على مسطح، ومفعول أن يغفر الله محذوف للعلم به: أي يغفر لكم ذنوبكم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: أي أصحاب القرابة، ولفظه أولى اسم جمع لا واحد له من لفظه يعرب إعراب الجمع المذكر السالم.
{أُوْلِي القربى}.
في هذه الآية الكريمة، دليل على أن كبائر الذنوب لا تحبط العلم الصالح، لأن هجرة مسطح بن أثاثة من عمله الصالح، وقذفه لعائشة من الكبائر ولم يبطل هجرته لأن الله قال فيه بعد قذفه لها {والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله} فدل ذلك على أن هجرته في سبيل الله، لم يحبطها قذفه لعائشة رضي الله عنها.
قال القرطبي في هذه الآية: دليل على أن القذف وإن كان كبيرًا لا يحبط الأعمال، لأن الله تعالى وصف مسطحًا بعد قوله بالهجرة والإيمان، وكذلك سائر الكبائر، ولا يحبط الأعمال غير الشرك بالله، قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] اهـ.
وما ذكر من أن الآية وصف مسطح بالإيمان لم يظهر من الآية، وإن كان معلومًا.
وقال القرطبي أيضًا: قال عبد الله بن المبارك: هذه أرجى أية في كتاب الله. ثم قال بعد هذا: قال بعض العلماء، هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى من حيث لطف الله بالقذفة العصاة بهذا اللفظ. وقيل: أرجى آية في كتاب الله عز وجل قوله تعالى: {وَبَشِّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلًا كِبِيرًا} [الأحزاب: 47] وقد قال تعالى في آية أخر: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي رَوْضَاتِ الجنات لَهُمْ مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير} [الشورى: 22] فشرح الفضل الكبير في هذه الاية، وبشر به المؤمنين في تلك.
ومن آيات الرجاء قوله تعالى: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعًا} [الزمر: 53] الآية. وقوله تعالى: {الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى: 19] وقال بعضهم: أرجى آية في كتاب الله عز وجل: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} [الضحى: 5] وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرضى ببقاء أحد من أمته في النار. انتهى كلام القرطبي.
وقال بعض أهل العلم: أرجى آية في كتاب الله عز وجل، آية الدين: وهي أطول آية في القرآن العظيمن وقد أوضح الله تبارك وتعالى فيها الطرق الكفيلة بصانة الدَّينِ من الضياع، ولو كان الدَّينُ حقيرًا كما يدل عليه قوله تعالى فيها: {وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إلى أَجَلِهِ} الآية [البقرة: 282] قالوا هذا من المحافظة في آية الدين على صيانة مال المسلم، وعدم ضياعه، ولو يدل على العناية التامة بمصالح المسلم، وذلك يدل على أن اللطيف الخبير لا يضيعه يوم القيامة عند اشتداد الهول، وشدة حاجته إلى ربه.
قال مقيدة عفا الله عنه وغفر له: من أرجى آيات القرآن العظيم قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُور الذي أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ}.
[فاطر: 32- 35].
قد بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن إيراث هذه الأمة لهذا الكتاب، دليل على أن الله اصطفاها في قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] وبين أنهم ثلاثة أقسام:
الأول: الظالم لنفسه، وهو الذي يطيع الله، ولكنه يعصيه أيضًا فهو الذي قال الله في فيه {خَلَطُواْ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102].
والثاني: المقتصد وهو الذي يطيع الله، ولا يعصيه، ولكنه لا يتقرب بالنوافل من الطاعات.
والثالث: السابق بالخيرات: وهو الذي يأتي بالواجبات ويجتنب المحرمات ويتقرب إلى الله بالطاعات والقربات التي هي غير واجبة، وهذا على أصح الأقوال في تفسير الظالم لنفسه، والمقتصد والسابق، ثم إنه تعالى بين أن إيراثهم الكتاب هو الفضل الكبير منه عليهم، ثم وعد الجميع بجنات عدن وهو لا يخلف المعياد في قوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [فاطر: 33] إلى قوله: {وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر: 35] والواو في يدخلونها شاملة للظالم، والمقتصد والسابق على التحقيق. ولذا قال بعض أهل العلم: حق لهذه الواو أن تكتب بماء العينين، فوعده الصادق بجنات عدن لجميع أقسام هذه الأمة، وأولهم الظالم لنفسه يدل على أن هذه الاية من أرجى آيات القرآن، ولم يبق من المسلمين أحد خارج عن الأقسام الثلاثة، فالوعد الصادق بالجنة في الآية من أرجى آيات القرآن، ولم يبق من المسلمين أحد خارج عن الأقسام الثلاثة، فالوعد الصادق بالجنة في الآية شامل لجميع المسلمين ولذا قال بعدها متصلًا بها {والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر: 36] إلى قوله: {فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} [فاطر: 37].
واختلف أهل العلم في سبب تقديم الظالم في الوعد بالجنة على المقتصد والسابق، فقال بعضهم: قدم الظالم لئلا يقنط، وأخر السابق بالخيرات لئلا يعجب بعمله فيحبط. وقال بعضهم: قدم الظالم لنفسه، لأن أكثر أهل الجنة الظالمون لأنفسهم لأن الذين لم تقع منهم معصية أقل من غيرهم. كما قال تعالى: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} [ص: 24]. أضواء البيان ج 5 ص. اهـ.

.قال الشعراوي:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}.
كأن الشيطان له خطوات متعددة ليست خطوة واحدة، وقد أثبت الله عداوته لبني آدم، وهي عداوة مُسبِّبة ليست كلامًا نظريًا، إنما هو عدو بواقعة ثابتة، حيث امتنع عن السجود لآدم، وعصى أمر الله له، بل وأبدى ما في نفسه وقال: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 12].
وقال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء: 61] وهكذا علّلَ امتناعه بأنه خير، وكأن عداوته لآدم عداوة حسد لمركزه ومكانته عند ربه.
والحق- تبارك وتعالى- حينما يخبرنا بعداوة الشيطان من خلال امتناعه عن السجود، إنما يحذرنا منه، ويُنبِّهنا إلى خطره ويُربِّي فينا المناعة من الشيطان؛ لأن عداوته لنا عداوة مركزة، ليست عداوة يمارسها هكذا كيفما اتفق، إنما هي عداوة لها منهج ولها خطة.
فأول هذه الخطة أنه عرف كيف يقسم، فدخل على الإنسان من باب عزة الله عن خَلْقه، فقال: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82].
فلو أرادنا ربنا- عز وجل- مؤمنين ما كان للشيطان علينا سبيل، إنما تركنا سبحانه للاختيار، فدخل علينا الشيطان من هذا الباب؛ لذلك قال بعدها: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [الحجر: 40] فمَنِ اتصف بهذه الصفة فليس للشيطان إليه سبيل.
إذن: مسألة العداوة هذه ليست بين الحق سبحانه وبين الشيطان، إنما بين الشيطان وبني آدم.
فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ} [النور: 21] نداء: يا من آمنتم بإله كأنه يقول: تَنبَّهوا إلى شرف إيمانكم به، وابتعدوا عما يُضعِف هذا الإيمان، أو يفُتُّ في عَضُدِ المؤمنين بأيِّ وسيلة، وتأكّدوا أن الشيطان له خطوات متعددة.