فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ذلك لأن الحق سبحانه حينما يُشرِّع للبشر ما يُنظِّم العلاقات بينهم يراعي جميع مَلكات النفس، لا يقتصر على الملَكات العالية فحسب، إنما لكل الملَكات التي تنتظم الخَلْق جميعًا، وليأخذ كل مِنَّا على قَدْر إيمانه وامتثاله لأمر ربه.
وفي ذلك يقول سبحانه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل: 126].
لو تأملنا حقيقة المثْلية في رَدِّ الإساءة لوجدناها صعبة في تقديرها، فإنْ ضربَك شخصٌ ضربة، أعندك القدرة التي تردُّ بها هذه الضربة بمثلها تمامًا بنفس الطريقة، وبنفس القوة، ونبفس الألم، بحيث لا تكون أنت مُعْتديًا؟ إنك لو تأملتَ هذه المثلية لفضَّلْتَ العفو بدل الدخول في متاهات أخرى.
وسبق أن ذكرنا قصة المرابي الذي اشترط على المدين إنْ تأخر في السداد أن يقطع رطلًا من لحمه، ولما تأخر الرجل في السداد خاصمه عند القاضي، وأخبره بما كان بينهما من شرط، وكان القاضي ذكيًا فقال للمرابي: خُذ السكين واقطع رطلًا من لحمه، لكن إنْ زاد أخذناه منك، وإنْ نقص أخذناه منك، فتراجع المرابي لأنه لا يستطيع تقدير هذه المسألة.
فإن انصرفنا عن المعاقبة بالمثل وَسِعَنا العفو، وانتهت المسألة على خير ما يكون.
وفي مرتبة أخرى يقول سبحانه: {والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: 134].
فالحق- تبارك وتعالى- يجعل لنا مراتب في رَدِّ السيئة، فالعقاب بالمثل مرتبة، وكَظْم الغيظ مرتبه، والعفو مرتبة، والصفح مرتبة، وأعلى ذلك كله مرتبة الإحسان إلى مَنْ أساء إليك {والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: 134].
ثم يجعل الحق سبحانه من نفسه أُسْوة لعباده فيقول: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ} [النور: 22] فكما تحب أن يغفر الله لك ذنبك، فلماذا لا تغفر أنت لمَنْ أساء إليك؟ وكأن ربنا- عز وجل- يريد أن يُصلح ما بيننا؛ لذلك لما نزلتْ هذه الآية في شأن أبي بكر قال: أحب يا رب، أحب يا رب، أحب يا رب.
ومعنى {أَلاَ} [النور: 22] أداة للحضِّ وللحثِّ على هذا الخُلُق الطيب {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 22] فمن تخلَّق بأخلاق الله تعالى فليكُنْ له غفران، وليكن لديه رحمة، ومَنْ مِنّا لا يريد أن يتصف ببعض صفات الله، فيتصف بأنه غفور ورحيم؟. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ}.
خبر {إن} من قوله: {إِنَّ الذين جَاءُو بالإفك} هو: {عُصْبَةٌ} و{مّنكُمْ} صفة لعصبة، وقيل: هو {لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ} ويكون عصبة بدلا من فاعل جاءُوا.
قال ابن عطية: وهذا أنسق في المعنى، وأكثر فائدة من أن يكون الخبر عصبة، وجملة {لا تحسبوه} وإن كانت طلبية، فجعلها خبرًا يصح بتقدير كما في نظائر ذلك، والإفك: أسوأ الكذب وأقبحه، وهو مأخوذ من أفك الشيء إذا قلبه عن وجهه.
فالإفك: هو الحديث المقلوب، وقيل: هو البهتان.
وأجمع المسلمون على أن المراد بما في الآية: ما وقع من الإفك على عائشة أمّ المؤمنين، وإنما وصفه الله بأنه إفك؛ لأن المعروف من حالها رضي الله عنها خلاف ذلك، قال الواحدي: ومعنى القلب في هذا الحديث الذي جاء به أولئك النفر: أن عائشة رضي الله عنها كانت تستحق الثناء بما كانت عليه من الحصانة، وشرف النسب والسبب لا القذف، فالذين رموها بالسوء قلبوا الأمر عن وجهه، فهو إفك قبيح، وكذب ظاهر، والعصبة: هم الجماعة من العشرة إلى الأربعين، والمراد بهم هنا: عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين، زيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح ابن أثاثة، وحمنة بنت جحش، ومن ساعدهم.
وقيل: العصبة من الثلاثة إلى العشرة، وقيل: من عشرة إلى خمسة عشر.
وأصلها في اللغة: الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض، وجملة {لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ} إن كانت خبرًا لإنّ فظاهر، وإن كان الخبر عصبة كما تقدّم، فهي مستأنفة، خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم، وعائشة، وصفوان بن المعطل الذي قذف مع أمّ المؤمنين، وتسلية لهم، والشرّ ما زاد ضرّه على نفعه، والخير ما زاد نفعه على ضرّه، وأما الخير الذي لا شرّ فيه فهو الجنة، والشرّ الذي لا خير فيه فهو النار، ووجه كونه خيرًا لهم أنه يحصل لهم به الثواب العظيم مع بيان براءة أمّ المؤمنين، وصيرورة قصتها هذه شرعًا عامًّا {لِكُلّ امرىء مّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم} أي: بسبب تكلمه بالإفك {والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} قرأ الحسن، والزهري، وأبو رجاء، وحميد الأعرج، ويعقوب، وابن أبي علية، ومجاهد، وعمرة بنت عبد الرحمن بضمّ الكاف.
قال الفرّاء: وهو وجه جيد، لأن العرب تقول: فلان تولى عظيم كذا وكذا أي: أكبره، وقرأ الباقون بكسرها.
قيل: هما لغتان، وقيل: هو بالضم معظم الإفك، وبالكسر البداءة به، وقيل: هو بالكسر: الإثم.
فالمعنى: إن الذي تولى معظم الإفك من العصبة له عذاب عظيم في الدنيا، أو في الآخرة، أو فيهما.
واختلف في هذا الذي تولى كبره من عصبة الإفك من هو منهم؟ فقيل: هو عبد الله بن أبيّ، وقيل: هو حسان، والأوّل هو الصحيح.
وقد روى محمد بن إسحاق وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الإفك رجلين وامرأة، وهم مسطح ابن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش.
وقيل: جلد عبد الله بن أبيّ، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، ولم يجلد مسطحًا، لأنه لم يصرح بالقذف، ولكن كان يسمع ويشيع من غير تصريح.
وقيل: لم يجلد أحدًا منهم.
قال القرطبي: المشهور من الأخبار، والمعروف عند العلماء: أن الذين حدّوا: حسان، ومسطح، وحمنة.
ولم يسمع بحدّ لعبد الله بن أبيّ، ويؤيد هذا ما في سنن أبي داود عن عائشة، قالت: لما نزل عذري، قام النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك، وتلا القرآن، فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدّهم، وسماهم: حسان، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش.
واختلفوا في وجه تركه صلى الله عليه وسلم لجلد عبد الله بن أبيّ، فقيل: لتوفير العذاب العظيم له في الآخرة، وحدّ من عداه ليكون ذلك تكفيرًا لذنبهم كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الحدود أنه قال: «إنها كفارة لمن أقيمت عليه» وقيل: ترك حدّه تألفًا لقومه، واحترامًا لابنه، فإنه كان من صالحي المؤمنين، وإطفاء لنائرة الفتنة، فقد كانت ظهرت مباديها من سعد بن عبادة ومن معه كما في صحيح مسلم.
ثم صرف سبحانه الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه إلى المؤمنين بطريق الالتفات فقال {لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} {لولا} هذه هي التحضيضية تأكيدًا للتوبيخ، والتقريع، ومبالغة في معاتبتهم أي: كان ينبغي للمؤمنين حين سمعوا مقالة أهل الإفك أن يقيسوا ذلك على أنفسهم، فإن كان ذلك يبعد فيهم، فهو في أمّ المؤمنين أبعد.
قال الحسن: معنى {بأنفسهم}: بأهل دينهم، لأن المؤمنين كنفس واحدة ألا ترى إلى قوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} [النساء: 29].
قال الزجاج: ولذلك يقال للقوم الذين يقتل بعضهم بعضًا: إنهم يقتلون أنفسهم.
قال المبرّد: ومثله قوله سبحانه {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 54].
قال النحاس: {بأنفسهم}: بإخوانهم، فأوجب الله سبحانه على المسلمين إذا سمعوا رجلًا يقذف أحدًا، ويذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه.
قال العلماء: إن في الآية دليلًا على أن درجة الإيمان والعفاف لا يزيلها الخبر المحتمل وإن شاع {وَقَالُواْ هذا إِفْكٌ مُّبِينٌ} أي: قال المؤمنون عند سماع الإفك: هذا إفك ظاهر مكشوف.
وجملة {لَّوْلاَ جَاءُو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} من تمام ما يقوله المؤمنون أي وقالوا: هلا جاء الخائضون بأربعة شهداء يشهدون على ما قالوا {فَإِذَا لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَاء فأولئك} أي: الخائضون في الإفك {عِندَ الله هُمُ الكاذبون} أي: في حكم الله تعالى هم الكاذبون الكاملون في الكذب {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ في الدنيا والآخرة} هذا خطاب للسامعين، وفيه زجر عظيم {وَلَوْلاَ} هذه هي لامتناع الشيء لوجود غيره {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَفَضْتُمْ فِيهِ} أي: بسبب ما خضتم فيه من حديث الإفك، يقال: أفاض في الحديث، واندفع وخاض.
والمعنى: لولا أني قضيت عليكم بالفضل في الدنيا بالنعم التي من جملتها الإمهال، والرحمة في الآخرة بالعفو، لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك.
وقيل: المعنى لولا فضل الله عليكم لمسكم العذاب في الدنيا والآخرة معًا، ولكن برحمته ستر عليكم في الدنيا، ويرحم في الآخرة من أتاه تائبًا.
{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} الظرف منصوب بمسكم، أو بأفضتم، قرأ الجمهور: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} من التلقي، والأصل تتلقونه، فحذف إحدى التاءين.
قال مقاتل، ومجاهد: المعنى يرويه بعضكم عن بعض.
قال الكلبي: وذلك أن الرجل منهم يلقى الرجل فيقول: بلغني كذا، وكذا، ويتلقونه تلقيًا.
قال الزجاج: معناه يلقيه بعضكم إلى بعض.
وقرأ محمد ابن السميفع بضم التاء، وسكون اللام، وضم القاف، من الإلقاء، ومعنى هذه القراءة واضح.
وقرأ أبيّ وابن مسعود {تتلقونه} من التلقي، وهي كقراءة الجمهور.
وقرأ ابن عباس، وعائشة، وعيسى بن عمر، ويحيى بن يعمر، وزيد بن عليّ بفتح التاء، وكسر اللام، وضم القاف، وهذه القراءة مأخوذة من قول العرب، ولق يلق ولقًا: إذا كذب.
قال ابن سيده: جاءوا بالمعتدي شاهدًا على غير المعتدي.
قال ابن عطية: وعندي أنه أراد يلقون فيه، فحذف حرف الجرّ، فاتصل الضمير.
قال الخليل، وأبو عمرو: أصل الولق الإسراع، يقال: جاءت الإبل تلق أي: تسرع، ومنه قول الشاعر:
لما رأوا جيشًا عليهم قد طرق ** جاءوا بأسراب من الشام ولق

وقال الآخر:
جاءت به عيس من الشام تلق

قال أبو البقاء: أي: يسرعون فيه.
قال ابن جرير: وهذه اللفظة أي: {تلقونه} على القراءة الأخيرة مأخوذة من الولق، وهو: الإسراع بالشيء بعد الشيء كعدد في إثر عدد، وكلام في إثر كلام.
وقرأ زيد بن أسلم، وأبو جعفر {تألقونه} بفتح التاء، وهمزة ساكنة، ولام مكسورة، وقاف مضمومة من الألق، وهو: الكذب، وقرأ يعقوب {تيلقونه} بكسر التاء من فوق بعدها ياء تحتية ساكنة، ولام مفتوحة، وقاف مضمومة، وهو: مضارع ولق بكسر اللام، ومعنى: {وَتَقُولُونَ بأفواهكم مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} أن قولهم هذا مختصّ بالأفواه من غير أن يكون واقعًا في الخارج معتقدًا في القلوب.
وقيل: إن ذكر الأفواه للتأكيد كما في قوله: {يطير بجناحيه} [الأنعام: 38]، ونحوه، والضمير في {تحسبونه} راجع إلى الحديث الذي وقع الخوض فيه والإذاعة له {وَتَحْسَبُونَهُ هَيّنًا} أي: شيئًا يسيرًا لا يلحقكم فيه إثم، وجملة {وَهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ} في محل نصب على الحال أي: عظيم ذنبه وعقابه.
{وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا} هذا عتاب لجميع المؤمنين أي: هلا إذا سمعتم حديث الإفك قلتم تكذيبًا للخائضين فيه المفترين له ما ينبغي لنا، ولا يمكننا أن نتكلم بهذا الحديث، ولا يصدر ذلك منا بوجه من الوجوه، ومعنى قوله: {سبحانك هذا بهتان عَظِيمٌ} التعجب من أولئك الذين جاءوا بالإفك، وأصله التنزيه لله سبحانه، ثم كثر حتى استعمل في كلّ متعجب منه.
والبهتان هو: أن يقال في الإنسان ما ليس فيه أي: هذا كذب عظيم لكونه قيل في أمّ المؤمنين رضي الله عنها، وصدوره مستحيل شرعًا من مثلها.
ثم وعظ سبحانه الذين خاضوا في الإفك فقال: {يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَدًا} أي: ينصحكم الله، أو يحرّم عليكم، أو ينهاكم كراهة أن تعودوا، أو من أن تعودوا، أو في أن تعودوا لمثل هذا القذف مدّة حياتكم {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فإن الإيمان يقتضي عدم الوقوع في مثله ما دمتم، وفيه تهييج عظيم وتقريع بالغ {وَيُبَيّنُ الله لَكُمُ الآيات} في الأمر والنهي لتعملوا بذلك، وتتأدبوا بآداب الله، وتنزجروا عن الوقوع في محارمه {والله عَلِيمٌ} بما تبدونه وتخفونه {حَكِيمٌ} في تدبيراته لخلقه.