فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكلعن الكافر الحي المعين بالشخص في الحرمة لعن الفاسق كذلك، وقال السراج البلقيني: يجوز لعن العاصي المعين واحتج على ذلك بحديث الصحيحين «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح» وهو ظاهر فيما يدعيه؛ وقول ولده الجلال البلقيني في بحثه معه: يحتمل أن يكون لعن الملائكة لها ليس بالخصوص بل بالعموم بأن يقولوا: لعن الله من دعاها زوجها إلى فراشه فأبت فبات غضبان بعيد جدًا.
ومما يؤيد قول السراج خبر مسلم أنه صلى الله عليه وسلم مر بحمار وسم في وجهه فقال: «لعن الله من فعل هذا» وهو أبعد عن الاحتمال الذي ذكره ولده، وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم لعن قبائل من العرب بأعيانهم فقال: «اللهم العن رعلًا وذكوان وعصية عصوا الله تعالى ورسوله» وفيه نوع تأييد لذلك أيضًا، لكن قيل: إنه يجوز أن يكون قد علم عليه الصلاة والسلام موتهم أو موت أكثرهم على الكفر فلم يلعن صلى الله عليه وسلم إلا من علم موته عليه، ولا يخفى عليك الأحوط في هذا الباب، فقد صح: «من لعن شيئًا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه» وأرى الدعاء للعاصي المعني بالصلاح أحب من لعنه على القول بجوازه، وأرى لعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوصف أو بالشخص عبادة من حيث أن فيه اقتداءً برسول الله عليه الصلاة والسلام، وكذا لعن من لعنه الله تعالى على الوجه الذي لعنه سبحانه به، هذا وقوله عز وجل: {يَوْمَ تَشْهَدُ} الخ إما متصل بما قبله مسوق لتقرير العذاب العظيم بتعيين وقت لحلوله وتهويله ببيان ظهور جناية الرامين المستتبعة لعقوباتها على كيفية هائلة وهيئة خارقة للعادات فيوم ظرف لما في {لَهُمْ} [النور: 23] من معنى الاستقرار لا لعذاب كما ذهب إليه الحوفي لما في جواز إعمال المصدر الموصوف من الخلاف، وقيل: لإخلاله بجزالة المعنى وفيه نظر، وأما منقطع عنه على أنه ظرف لا ذكر محذوفًا أو ل {يوفيهم} [النور: 25] الآتي كما قيل بكل، واختير أنه ظرف لفعل مؤخر وقد ضرب عنه الذكر صفحًا للإيذان بأن العبارة لا تكاد تحيط بتفصيل ما يقع فيه من العظائم والكلام مسوق لتهويل اليوم بتهويل ما يحويه كأنه قيل: يوم تشهد عليهم {أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} يظهر من الأحوال والأهوال ما لا يحيط به نطاق المقال على أن الموصول المذكور عبارة عن جميع أعمالهم السيئة وجناياتهم القبيحة لا عن جناياتهم المعهودة فقط.
ومعنى شهادة الجوارح المذكورة بها أنه عز وجل ينطقها بقدرته فتخبر كل جارحة منها بما صدر عنها من أفاعيل صاحبها لا أن كلاف منها يخبر بجنايتهم المعهودة فحسب.
والموصول المحذوف عبارة عنها وعن فنون العقوبات المترتبة عليها كافة لا عن إحداهما خاصة ففيه من ضروب التهويل بالإجمال والتفصيل ما لا مزيد عليه قاله شيخ الإسلام، ثم قال: وجعل الموصول المذكور عبارة عن جنايتهم المعهودة وحمل شهادة الجوارح على إخبار الكل بها فقط تحجير للواسع وتهوين للأمر الرادع.
والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرارهم على هاتيك الأعمال في الدنيا وتجددها منهم آنًا فآنًا.
وتقديم {عَلَيْهِمْ} على الفاعل للمسارعة إلى كون الشهادة ضارة لهم مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر اه ولا يخلو عن حسن.
وجوز أن تكون الشهادة بما ذكر مجازًا عن ظهور آثاره على هاتيك الأعضاء بحيث يعلم من يشاهدهم ما عملوه وذلك بكيفية يعلمها الله تعالى.
واعترض بأنه معارض بقوله تعالى: {أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَىْء} [فصلت: 21].
وأجيب بأن مجوز ما ذكر يجعل النطق مجازًا عن الدلالة الواضحة كما قيل به في قولهم نطقت الحال أو يقول: هذا في حال وذاك في حال أو كل منهما في قوم.
ولا يخفى أن الظاهر بقاء الشهادة على حقيقتها إلا أنه استشكل ذلك بأنه حينئذٍ يلزم التعارض بين ما هنا وقوله تعالى في سورة يس: {اليوم نَخْتِمُ على أفواههم} [يس: 65] الآية لأن الختم على الأقواه ينافي شهادة الألسن.
وأجيب بأن المراد من الختم على الأفواه منعهم عن التكلم بالألسنة التي فيها وذلك لا ينافي نطق الألسنة نفسها الذي هو المراد من الشهادة كما أشرنا إليه فإن الألسنة في الأول آلة للفعل وفي الثاني فاعلة له فيجتمع سبحانه الذراع المسموم ناطقًا متكلمًا حتى أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مسموم.
وللمعتزلة في ذلك كلام، وقيل في التوفيق يجوز أن يكون كل من الختم والشهادة في موطن وحال، وأن يكون الشهادة في حق الرامين والختم في حق الكفرة، وكأنه لما كانت هذه الآية في حق القاذف بلسانه وهو مطالب معه بأربعة شهداء ذكر فيها خمسة أيضًا وصرح باللسان الذي به عمله ليفضحه جزاءً له من جنس عمله قاله الخفاجي وقال: إنها نكتة سرية والله تعالى أعلم بأسرار كتابه فتدبر.
وقرأ الأخوان والزعفراني وابن مقسم وابن سعدان {يَشْهَدُ} بالياء آخر لحروف ووجهه ظاهر.
{يَوْمَئِذٍ} ظرف لقوله سبحانه: {يُوَفّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق} والتنوين عوض عن الجملة المضافة إليها، والتوفية إعطاء الشيء وافيًا، والدين هنا الجزاء ومنه كما تدين تدان، والحق الموجد بحسب مقتضى الحكمة، وقريب منه تفسيره بالثابت الذي يحق أن يثبت لهم لا محالة أي يوم إذ تشهد عليهم أعضاؤهم المذكورة بأعمالهم القبيحة يعطيهم الله تعالى جزاءهم المطابق لمقتضى الحكمة وافيًا تامًا؛ والكلام استئناف مسوق لبيان ترتيب حكم الشهادة عليها متضمن لبيان ذلك المبهم المحذوف فيما سبق على وجه الإجمال، وجوز أن يكون {يَوْمَئِذٍ} بدلًا من {يَوْمَ تَشْهَدُ} [النور: 24] من جوز تعلق ذاك بيوفيهم.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما {يُوَفّيهِمُ} مخففًا.
وقرأ عبد الله ومجاهد وأبو روق وأبو حيوة {الحق} بالرفع على أنه صفة للاسم الجليل، ويجوز الفصل بالمفعول بين الموصوف وصفته، ومعنى الحق على هذه القراءة على ما قال الراغب الموجد للشيء بحسب ما تقتضيه الحكمة، وفسره بعضهم بالعادل، والأكثرون على تفسيره بالواجب لذاته، وكذا في قوله سبحانه: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين} والمبين إما من أبان اللازم أي الظاهر حقيته على تقدير جعله نعتًا للحق أو الظاهر ألوهيته عز وجل على تقدير جعله خبرًا ثانيًا أو من أبان المتعدي أي المظهر للأشياء كما هي في أنفسها، وجملة {يَعْلَمُونَ} معطوفة على جملة {يُوَفّيهِمُ الله} فإن كانت مقيدة بما قيدت به الأولى فالمعنى يوم إذ تشهد عليهم أعضاؤهم المذكورة بأعمالهم القبيحة يعلمون أن الله الخ، وإن لم تكن مقيدة بذلك جاز أن يكون المعنى ويعلمون عند معاينتهم الأهوال والخطوب أن الله الخ، والظاهر أن للشهادة على الأول وللمعاينة على الثاني دخلًا في حصول العلم بمضمون ما في حيز {يَعْلَمُونَ} فتأمل لتعرف كيفية الاستدلال على ذلك فإن فيه خفاء لاسيما مع ملاحظة الحصر المأخوذ من تعريف الطرفين وضمير الفصل، وقيل: إن علم الخلق بصفاته تعالى يوم القيامة ضروري: وإن تفاوتوا في ذلك من بعض الوجوه فيعلمون ما ذكر من غير مدخلية أحد الأمرين، ولعل فائدة هذا العلم يأسهم من إنقاذ أحد إياهم مما هم فيه أو انسداد باب الاعتراض المروح للقلب في الجملة عليهم أو تبين خطئهم في رميهم حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالباطل لما أن حقيته تأبى كونه عز وجل حقًا أي موجدًا للأشياء بحسب ما تقتضيه الحكمة لما قدمنا من أن فجور زوجات الأنبياء عليهم السلام مخل بحكمة البعثة، وكذا تأتي كونه عز وجل حقًا أي واجبًا لذاته بناءً على أن الوجوب الذاتي يستتبع الاتصاف بالحكمة بل بجميع الصفات الكاملة، وهذه الجملة ظاهرة جدًا في أن الآية في ابن أبي وأضرابه من المنافقين الرامين حرم الرسول صلى الله عليه وسلم لأن المؤمن عالم أن الله تعالى هو الحق المبين منذ كان في الدنيا لا أنه يحدث له علم ذلك يوم القيامة.
ومن ذهب إلى أنها في الرامين من المؤمنين أو فيهم وفي غيرهم من المنافقين قال: يحتمل أن يكون المراد من العلم بذلك التفات الذهن وتوجهه إليه ولا يأبى ذلك كونه حاصلًا قبل.
وقد حمل السيد السند قدس سره في حواشي المطالع العلم في قولهم في تعريف الدلالة كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر على ذلك لئلا يرد أنه يلزم على الظاهر أن لا يكون للفظ دلالة عند التكرار لامتناع علم المعلوم.
ويحتمل أن يكون قد نزل علمهم الحاصل قبل منزلة غير الحاصل لعدم ترتب ما يقتضيه من الكف عن الرمي عليه ومثل هذا التنزيل شائع في الكتاب الجليل، ويحتمل أن يكون المراد يعلمون عيانًا مقتضى أن الله هو الحق المبين أعني الانتقام من الظالم للمظلوم ويحتمل غير ذلك.
وأنت تعلم أن الكل خلاف الظاهر فتدبر. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}.
جملة: {إن الذين يرمون المحصنات} استئناف بعد استئناف قوله: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا} [النور: 19] والكل تفصيل للموعظة التي في قوله: {يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدًا إن كنتم مؤمنين} [النور: 17]؛ فابتدىء بوعيد العود إلى محبة ذلك وثُني بوعيد العود إلى إشاعة القالة، فالمضارع في قوله: {يرمون} للاستقبال.
وإنما لم تعطف هذه الجملة لوقوع الفصل بينها وبين التي تناسبها بالآيات النازلة بينهما من قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان} [النور: 21].
واسم الموصول ظاهر في إرادة جماعة وهم عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه.
و{الغافلات} هن اللاتي لا علم لهن بما رُمين به.
وهذا كناية عن عدم وقوعهن فيما رُمين به لأن الذي يفعل الشيء لا يكون غافلًا عنه فالمعنى: إن الذين يرمون المحصنات كذبًا عليهن، فلا تحسب المرادَ الغافلات عن قول الناس فيهن.
وذكر وصف {المؤمنات} لتشنيع قذف الذين يقذفونهن كذبًا لأن وصف الإيمان وازع لهن عن الخنى.
وقوله: {لعنوا} إخبار عن لعن الله إياهم بما قدَّر لهم من الإثم وما شَرع لهم.
واللعن: في الدنيا التفسيق، وسلب أهلية الشهادة، واستيحاش المؤمنين منهم، وحد القذف، واللعن في الآخرة: الإبعاد من رحمة الله.
والعذاب العظيم: عذاب جهنم فلا جدوى في الإطالة بذكر مسألة جواز لعن المسلم المعيّن هنا ولا في أن المقصود بها من كان من الكفرة.
والظرف في قوله: {يوم تشهد عليهم} متعلق بما تعلق به الظرف المجعول خبرًا للمبتدأ في قوله: {ولهم عذاب عظيم}.
وذكر شهادة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم للتهويل عليهم لعلهم يتقون ذلك الموقف فيتوبون.
وشهادة الأعضاء على صاحبها من أحوال حساب الكفار.
وتخصيص هذه الأعضاء بالذكر مع أن الشهادة تكون من جميع الجسد كما قال تعالى: {وقالوا لجلودهم لِمَ شهدتم علينا} [فصلت: 21] لأن لهذه الأعضاء عملًا في رمي المحصنات فهم ينطقون بالقذف ويشيرون بالأيدي إلى المقذوفات ويسعون بأرجلهم إلى مجالس الناس لإبلاغ القذف.
وقرأ حمزة والكسائي وخلف {يشهد عليهم} بالتحتية، وذلك وجه في الفعل المسند إلى ضمير جمع تكسير.
وقوله: {يومئذٍ يوفيهم الله دينهم} استئناف بياني لأن ذكر شهادة الأعضاء يثير سؤالًا عن آثار تلك الشهادة فيجاب بأن أثرها أن يجازيهم الله على ما شهدت به أعضاؤهم عليهم.
فدينهم جزاؤهم كما في قوله: {ملك يوم الدين} [الفاتحة: 4].
و{الحقَّ} نعت للدين، أي الجزاء العادل الذي لا ظلم فيه فوصف بالمصدر للمبالغة.
وقوله: {ويعلمون أن الله هو الحق المبين} أي ينكشف للناس أن الله الحق.
ووصف الله بأنه {الحق} وصف بالمصدر لإفادة تحقق اتصافه بالحق، كقول الخنساء:
ترتع ما رتعت حتى إذا ادَّكرت ** فإنما هي إقبال وإدبار

وصفة الله بأنه {الحق} بمعنيين:
أولهما: بمعنى الثابت الحاق، وذلك لأن وجوده واجب فذاته حق متحققة لم يسبق عليها عدم ولا انتفاء فلا يقبل إمكان العدم.