فصل: تفسير الآية رقم (26):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (26):

قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تضمن ما ذكر من وصفه تعالى علمه بالخفيات، أتبعه ما هو كالعلة لآية {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة} دليلًا شهوديًا على براءة عائشة رضي الله تعالى عنها فقال: {الخبيثات} أي من النساء وقدم هذا الوصف لأن كلامهم فيه، فإذا انتفى ثبت الطيب {للخبيثين} أي من الرجال.
ولما كان ذلك لا يفهم أن الخبيث مقصور على الخبيثة قال: {والخبيثون} أي من الرجال أيضًا {للخبيثات} أي من النساء.
ولما أنتج هذا براءتها رضي الله عنها لأنها قرينة أطيب الخلق، أكده بقوله: {والطيبات} أي منهن {للطيبين} أي منهم {والطيبون للطيبات} بذلك قضى العليم الخبير أن كل شكل ينضم إلى شكله، ويفعل أفعال مثله، وهو سبحانه قد اختار لهذا النبي الكريم لكونه أشرف خلقه خلص عباده من الأزواج والأولاد والأصحاب {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران: 110] «خيركم قرني» وكلما ازداد الإنسان منهم من قلبه صلى الله عليه وسلم قربًا ازداد طهارة، وكفى بهذا البرهان دليلًا على براءة الصديقة رضي الله عنها، فكيف وقد أنزل الله العظيم في براءتها صريح كلامه القديم، وحاطه من أوله وآخره بهاتين الآيتين المشيرتين إلى الدليل العادي، وقد تقدم عند آية {الزاني} ذكر لحديث: «الأرواح جنود مجندة» وما لاءمه، لكنه لم يستوعب تخريجه، وقد خرجه مسلم في الأدب من صحيحه وأبو داود في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» وفي رواية عنه رفعها: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» وهذا الحديث روي أيضًا عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وعلي ابن أبي طالب وسلمان الفارسي وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو وعمرو بن عبسة رضي الله عنهم، وقد علق البخاري في صحيحه حديث عائشة رضي الله عنها بصيغة الجزم، ووصله في كتاب الأدب المفرد وكذا الإسماعيلي في المستخرج، وأبو الشيخ في كتاب الأمثال، وتقدم عزوه إلى أبي يعلى، ولفظ حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «فما كان في الله ائتلف، وما كان في غير الله اختلف» أخرجه أبو الشيخ في الأمثال، ولفظ حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «فإذا التقت تشامّ كما تشامّ الخيل، فما تعارف منها ائتلف». الحديث.
وأما حديث علي رضي الله عنه فرواه الطبراني في الأوسط في ترجمة محمد بن الفضل السقطي وأبو عبد الله بن منده في كتاب الروح عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا أبا الحسن! ربما شهدت وغبنا وربما شهدنا وغبت، ثلاث أسألك عنهن هل عندك منهن علم؟ قال علي: وما هن؟ قال: الرجل يحب الرجل ولم ير منه خيرًا، والرجل يبغض الرجل ولم ير منه شرًا، فقال علي رضي الله عنه: نعم! سمعت رسول الله صلى الله عليه السلام يقول: «إن الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» قال عمر: واحدة، قال: والرجل يحدث الحديث إذ نسيه فبينا هو وما نسيه إذ ذكره؟ فقال علي رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر، بينما القمر مضيء إذ علته سحابة فأظلم إذ تجلت فأضاء، وبينا القلب يتحدث إذ تجللته سحابة فنسي إذ تجلت عنه فذكر»، فقال عمر رضي الله عنه: اثنتان، وقال: والرجل يرى الرؤيا، فمنها ما يصدق ومنها ما يكذب؟ قال: نعم! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد أو أمة ينام فيستثقل نومًا إلا عرج بروحه إلى العرش، فالتي لا تستيقظ إلا عند العرش فتلك الرؤيا التي تصدق، والتي تستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التي تكذب»، فقال عمر رضي الله عنه: ثلاث كنت في طلبهن فالحمد لله الذي أصبتهن قبل الموت وكذا أخرج الطبراني حديث سلمان كحديث أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين، وأنشدوا لأبي نواس في المعنى:
إن القلوب لأجناد مجندة ** لله في الأرض بالأهواء تعترف

فما تعارف منها فهو مؤتلف ** وما تناكر منها فهو مختلف

ولما ثبت هذا كانت نتيجته قطعًا: {أولئك} أي العالو الأوصاف بالطهارة والطيب {مبرؤون} ببراءة الله وبراءة كل من له تأمل في مثل هذا الدليل {مما يقولون} أي القذفة الأخابث لأنها لا تكون زوجة أطيب الطيبين إلا وهي كذلك.
ولما أثبت لهم البراءة، استأنف الإخبار بجزائهم فقال: {لهم مغفرة} أي لما قصروا فيه إن قصروا، ولما كان في معرض الحث على الإنفاق على بعض الآفكين قال: {ورزق كريم} أي يحيون به حياة طيبة، ويحسنون له إلى من أساء إليهم، ولا ينقصه ذلك لكرمه في نفسه بسعته وطيبه وغير ذلك من خلال الكرم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ}.
اعلم أن الخبيثات يقع على الكلمات التي هي القذف الواقع من أهل الإفك، ويقع أيضًا على الكلام الذي هو كالذم واللعن، ويكون المراد من ذلك لا نفس الكلمة التي هي من قبل الله تعالى، بل المراد مضمون الكلمة، ويقع أيضًا على الزواني من النساء، وفي هذه الآية كل هذه الوجوه محتملة، فإن حملناها على القذف الواقع من أهل الإفك كان المعنى الخبيثات من قول أهل الإفك للخبيثين من الرجال، وبالعكس والطيبات من قول منكري الإفك للطيبين من الرجال وبالعكس، وإن حملناها على الكلام الذي هو كالذم واللعن، فالمعنى أن الذم واللعن معدان للخبيثين من الرجال، والخبيثون منهم معرضون للعن والذم.
وكذا القول في الطيبات وأولئك إشارة إلى الطيبين وأنهم مبرءون مما يقول الخبيثون من خبيثات الكلمات، وإن حملناه حملناه على الزواني فالمعنى الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال وبالعكس، على معنى قوله تعالى: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} [النور: 3] والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، والمعنى أن مثل ذلك الرمي الواقع من المنافقين لا يليق إلا بالخبيثات والخبيثين لا بالطيبات والطيبين، كالرسول صلى الله عليه وسلم وأزواجه.
فإن قيل فعلى هذا الوجه يلزم أن لا يتزوج الرجل العفيف بالزانية والجواب: ما تقدم في قوله: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} وقوله: {أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ} يعني الطيبات والطيبين مما يقوله أصحاب الإفك، سوى قول من حمله على الكلمات فكأنه قال الطيبون مبرءون مما يقوله الخبيثون، ومتى حمل أولئك على هذا الوجه كان لفظه كمعناه في أنه جمع، ومتى حملته على عائشة وصفوان وهما اثنان فكيف يعبر عنهما بلفظ الجمع؟ فجوابه من وجهين: الأول: أن ذلك الرمي قد تعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم وبعائشة وصفوان فبرأ الله تعالى كل واحد منهم من التهمة اللائقة به الثاني: أن المراد به كل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنه تعالى برأهن من هذا الإفك.
لكن لا يقدح فيهن أحد كما أقدموا على عائشة، ونزه الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك عن أمثال هذا الأمر وهذا أبين كأنه تعالى بين أن الطيبات من النساء للطيبين من الرجال، ولا أحد أطيب ولا أطهر من الرسول، فأزواجه إذن لا يجوز أن يكن إلا طيبات، ثم بين تعالى أن: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} يعني براءة من الله ورسوله ورزق كريم في الآخرة، ويحتمل أن يكون ذلك خبرًا مقطوعًا به، فيعلم بذلك أن أزواج الرسول عليه الصلاة والسلام هن معه في الجنة، وقد وردت الأخبار بذلك ويحتمل أن يكون المراد بشرط اجتناب الكبائر والتوبة، والأول أولى لأنا إنما نحتاج إلى الشرط إذا لم يمكن حمل الآية عليه، أما إذا أمكن فلا وجه لطلب الشرط، وهذا يدل على أن عائشة رضي الله عنها تصير إلى الجنة بخلاف مذهب الرافضة الذين يكفرونها بسبب حرب يوم الجمل فإنهم يردون بذلك نص القرآن فإن قيل القطع بأنها من أهل الجنة إغراء لها بالقبيح.
قلنا أليس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعلمه الله تعالى بأنه من أهل الجنة ولم يكن ذلك إغراء له بالقبيح، وكذا العشرة المبشرة بالجنة فكذا ههنا، والله أعلم تمت قصة أهل الإفك. اهـ.

.قال الجصاص:

قَوْله تَعَالَى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ}.
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ قَالُوا: الْخَبِيثَاتُ مِنْ الْكَلَامِ لِلْخَبِيثِينَ مِنْ الرِّجَالِ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: الْخَبِيثَاتُ مِنْ السَّيِّئَاتِ لِلْخَبِيثِينَ مِنْ الرِّجَالِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّلِ، وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ}.
وَقِيلَ: الْخَبِيثَاتُ مِنْ النِّسَاءِ لِلْخَبِيثِينَ مِنْ الرِّجَالِ، عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} وَأَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِمَا ثَبَتَ فِي مَوْضِعِهِ. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبيثِينَ} الآية.
فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء، قاله ابن زيد.
الثاني: الخبيثات من الأعمال للخبيثين من الناس والخبيثون من الناس للخبيثات من الأعمال والطيبات من الأعمال للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من الأعمال قاله مجاهد وقتادة.
الثالث: الخبيثات من الكلام للخبيثين من الناس، والخبيثون من الناس للخبيثات من الكلام، والطيبات من الكلام للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من الكلام قاله ابن عباس والضحاك. وتأول بعض أصحاب الخواطر: الخبيثات الدنيا، والطيبات الآخرة.
{أُوْلئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن عائشة وصفوان مبرآن من الإِفك المذكور فيهما، قاله الفراء.
الثاني: أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مبرآت من الفواحش، قاله ابن عيسى.
الثالث: أن الطيبين والطيبات مبرؤون من الخبيثين والخبيثات، قاله ابن شجرة. اهـ.

.قال ابن عطية:

{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ}.
اختلف المتأَولون في الموصوف في هذه الآية ب الخبيث والطيب، فقال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة هي الأقوال والأفعال ثم اختلفت هذه الجماعة فقال بعضها المعنى الكلمات والفعلات {الخبيثات} لا يقول ويرضاها إلا {الخبيثات} من الناس فهي لهم وهم لها بهذا الوجه وكذلك {الطيبات للطيبين} وقال بعضها المعنى الكلمات والفعلات الخبيثات لا تليق وتلصق عند رمي الرامي وقذف القاذف إلا بالخبيثين من الناس فهي لهم وهم لها بهذا الوجه، وقال ابن زيد الموصوف بالخبيث والطيب النساء والرجال، وإنما الآية على نحو التي تقدمت وهي قوله تعالى: {الزاني لا ينكح إلا زانية} [النور: 3] الآية فمعنى هذا، التفريق بين حكم عبد الله بن أبي وأشباهه وبين حكم النبي عليه السلام وفضلاء صحابته وأمته، أي النبي عليه السلام طيب فلم يجعل الله له إلا كل طيبة وأولئك خبيثون فهم أهل النساء الخبائث.
قال الفقيه الإمام القاضي: وبهذه الآية قيل لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم {الطيبات} المبرءات، وقوله: {أولئك} إشارة إلى {الطيبين} المذكورين. اهـ.