فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}.
قوله: {وَلاَ يَأْتَلِ} أي: يحلف، وزنه: يفتعل من الألية، وهي اليمين، ومنه قول الشاعر:
تألّى ابن أوس حلفة ليردّني ** إلى نسوة كأنهن مفايد

وقول الآخر:
قليل الألايا حافظ ليمينه ** وإن بدرت منه الألية برّت

يقال: ائتلى يأتلى إذا حلف.
ومنه قوله سبحانه: {لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ} [البقرة: 226] وقالت فرقة: هو من ألوت في كذا إذا قصرت، ومنه لم آل جهدًا: أي: لم أقصر، وكذا منه قوله: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران: 118].
ومنه قول الشاعر:
وما المرء ما دامت حشاشة نفسه ** بمدرك أطراف الخطوب ولا آل

والأوّل أولى بدليل سبب النزول، وهو ما سيأتي، والمراد بالفضل: الغنى والسعة في المال {أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله} أي: على أن لا يؤتوا.
قال الزجاج: أن لا يؤتوا فحذف لا، ومنه قول الشاعر:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ** ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

وقال أبو عبيدة: لا حاجة إلى إضمار لا، والمعنى: لا يحلفوا على أن لا يحسنوا إلى المستحقين للإحسان الجامعين لتلك الأوصاف، وعلى الوجه الآخر يكون المعنى: لا يقصروا في أن يحسنوا إليهم، وإن كانت بينهم شحناء لذنب اقترفوه، وقرأ أبو حيوة {إن تؤتوا} بتاء الخطاب على الالتفات.
ثم علمهم سبحانه أدبًا آخر، فقال: {وَلْيَعْفُواْ} عن ذنبهم الذي أذنبوه عليهم، وجنايتهم التي اقترفوها، من عفا الربع: أي: درس، والمراد محو الذنب حتى يعفو كما يعفو أثر الربع {وَلْيَصْفَحُواْ} بالإغضاء عن الجاني، والإغماض عن جنايته، وقرئ بالفوقية في الفعلين جميعًا.
ثم ذكر سبحانه ترغيبًا عظيمًا لمن عفا وصفح، فقال: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ} بسبب عفوكم وصفحكم عن الفاعلين للإساءة عليكم {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: كثير المغفرة والرحمة لعباده مع كثرة ذنوبهم، فكيف لا يقتدي العباد بربهم في العفو والصفح عن المسيئين إليهم؟
{إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات} قد مرّ تفسير المحصنات، وذكرنا الإجماع على أن حكم المحصنين من الرجال حكم المحصنات من النساء في حدّ القذف.
وقد اختلف في هذه الآية هل هي خاصة أو عامة؟ فقال سعيد بن جبير: هي خاصة فيمن رمى عائشة رضي الله عنها.
وقال مقاتل: هي خاصة بعبد الله بن أبيّ رأس المنافقين.
وقال الضحاك، والكلبي: هذه الآية هي في عائشة وسائر أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم دون سائر المؤمنين والمؤمنات، فمن قذف إحدى أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فهو من أهل هذه الآية.
قال الضحاك: ومن أحكام هذه الآية: أنه لا توبة لمن رمى إحدى أزواجه صلى الله عليه وسلم، ومن قذف غيرهنّ فقد جعل الله له التوبة كما تقدّم في قوله: {إِلاَّ الذين تَابُواْ} [النور: 5].
وقيل: إن هذه الآية خاصة بمن أصرّ على القذف ولم يتب، وقيل: إنها تعم كلّ قاذف ومقذوف من المحصنات والمحصنين، واختاره النحاس، وهو: الموافق لما قرّره أهل الأصول من أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقيل: إنها خاصة بمشركي مكة؛ لأنهم كانوا يقولون للمرأة إذا خرجت مهاجرة: إنما خرجت لتفجر.
قال أهل العلم: إن كان المراد بهذه الآية المؤمنون من القذفة، فالمراد باللعنة الإبعاد، وضرب الحدّ، وهجر سائر المؤمنين لهم، وزوالهم عن رتبة العدالة، والبعد عن الثناء الحسن على ألسنة المؤمنين، وإن كان المراد بها من قذف عائشة خاصة كانت هذه الأمور في جانب عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين، وإن كانت في مشركي مكة فإنهم ملعونون {فِي الدنيا والآخرة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} والمراد بالغافلات اللاتي غفلن عن الفاحشة بحيث لا تخطر ببالهنّ، ولا يفطنّ لها، وفي ذلك من الدلالة على كمال النزاهة وطهارة الجيب ما لم يكن في المحصنات، وقيل: هنّ السليمات الصدور النقيات القلوب.
{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} هذه الجملة مقرّرة لما قبلها مبينة لوقت حلول ذلك العذاب بهم، وتعيين اليوم لزيادة التهويل بما فيه من العذاب الذي لا يحيط به وصف.
وقرأ الجمهور {يوم تشهد} بالفوقية، واختار هذه القراءة أبو حاتم، وقرأ الأعمش، ويحيى بن وثاب، وحمزة، والكسائي، وخلف بالتحتية، واختار هذه القراءة أبو عبيد، لأن الجارّ والمجرور قد حال بين الاسم والفعل.
والمعنى: تشهد ألسنة بعضهم على بعض في ذلك اليوم، وقيل: تشهد عليهم ألسنتهم في ذلك اليوم بما تكلموا به {وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ} بما عملوا بها في الدنيا، وإن الله سبحانه ينطقها بالشهادة عليهم، والمشهود محذوف، وهو: ذنوبهم التي اقترفوها أي: تشهد هذه عليهم بذنوبهم التي اقترفوها، ومعاصيهم التي عملوها.
و{يَوْمَئِذٍ يُوَفّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق} أي: يوم تشهد عليهم جوارحهم بأعمالهم القبيحة يعطيهم الله جزاءهم عليها موفرًا، فالمراد بالدّين هاهنا: الجزاء، وبالحق: الثابت الذي لا شك في ثبوته.
قرأ زيد بن عليّ {يوفيهم} مخففًا من أوفى، وقرأ من عداه بالتشديد من وفّى.
وقرأ أبو حيوة، ومجاهد {الحق} بالرفع على أنه نعت لله، وروي ذلك عن ابن مسعود.
وقرأ الباقون بالنصب على أنه نعت لدينهم.
قال أبو عبيدة: ولولا كراهة خلاف الناس لكان الوجه الرفع ليكون نعتًا لله عزّ وجلّ، ولتكون موافقة لقراءة أبيّ، وذلك أن جرير بن حازم قال: رأيت في مصحف أبيّ {يوفيهم الله الحق دينهم}.
قال النحاس: وهذا الكلام من أبي عبيدة غير مرضيّ، لأنه احتج بما هو مخالف للسواد الأعظم، ولا حجة أيضًا فيه؛ لأنه لو صحّ أنه في مصحف أبيّ كذلك جاز أن يكون دينهم بدلا من الحقّ {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين} أي: ويعلمون عند معاينتهم لذلك، ووقوعه على ما نطق به الكتاب العزيز: أن الله هو: الحقّ الثابت في ذاته، وصفاته، وأفعاله.
المبين: المظهر للأشياء كما هي في أنفسها، وإنما سمى سبحانه الحقّ؛ لأن عبادته هي الحقّ دون عبادة غيره.
وقيل: سمي بالحقّ أي: الموجود لأن نقيضه الباطل، وهو المعدوم.
ثم ختم سبحانه الآيات الواردة في أهل الإفك بكلمة جامعة فقال {الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ} أي: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال أي: مختصة بهم لا تتجاوزهم، وكذا الخبيثون مختصون بالخبيثات لا يتجاوزونهن، وهكذا قوله: {والطيبات لِلطَّيّبِينَ والطيبون لِلْطَّيِّبَاتِ} قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء، وأكثر المفسرين: المعنى الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من الكلمات، والكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من الكلمات.
قال النحاس: وهذا أحسن ما قيل.
قال الزجاج: ومعناه لا يتكلم بالخبيثات إلاّ الخبيث من الرجال والنساء، ولا يتكلم بالطيبات إلاّ الطيب من الرجال والنساء، وهذا ذمّ للذين قذفوا عائشة بالخبث، ومدح للذين برّءُوها.
وقيل: إن هذه الآية مبنية على قوله: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} [النور: 3] فالخبيثات: الزواني، والطيبات العفائف، وكذا الخبيثون، والطيبون، والإشارة بقوله: {أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} إلى الطيبين، والطيبات أي: هم مبرّءون مما يقوله الخبيثون، والخبيثات، وقيل: الإشارة إلى أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقيل: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعائشة، وصفوان بن المعطل، وقيل: عائشة، وصفوان فقط.
قال الفراء: وجمع كما قال: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11]، والمراد أخوان {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} أي: هؤلاء المبرّءون لهم مغفرة عظيمة لما لا يخلوا عنه البشر من الذنوب {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} وهو رزق الجنة.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَلاَ يَأْتَلِ} الآية، يقول: لا يقسموا أن لا ينفعوا أحدًا.
وأخرج ابن المنذر، عن عائشة قالت: كان مسطح بن أثاثة ممن تولى كبره من أهل الإفك، وكان قريبًا لأبي بكر، وكان في عياله، فحلف أبو بكر: ألا ينيله خيرًا أبدًا، فأنزل الله {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة} الآية، قالت: فأعاده أبو بكر إلى عياله، وقال: لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرًا منها إلاّ تحللتها، وأتيت الذي هو خير.
وقد روي هذا من طرق عن جماعة من التابعين.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه، عن ابن عباس في الآية قال: كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رموا عائشة بالقبيح وأفشوا ذلك، وتكلموا فيها، فأقسم ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم منهم أبو بكر: أن لا يتصدّقوا على رجل تكلم بشيء من هذا، ولا يصلوه، فقال: لا يقسم أولوا الفضل منكم والسعة أن يصلوا أرحامهم، وأن يعطوهم من أموالهم كالذي كانوا يفعلون قبل ذلك، فأمر الله: أن يغفر لهم، وأن يعفى عنهم.