فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتًا غير مسكونة} [النور: 9] ع وهذا أيضًا لا يترتب فيه نسخ ولا استثناء لأن الآية الأولى في البيوت المسكونة والآية الثانية في المباحة وكأن من ذهب إلى الاستثناء رأى الأولى عامة، وصورة الاستئذان أن يقول الرجل السلام عليكم أأدخل؟ فإن أذن له دخل وإن أمر بالرجوع انصرف وإن سكت عنه استأذن ثلاثًا ثم ينصرف بعد الثلاث، فأما ثبوت ما ذكرته من صورة الاستئذان فروى الطبري أن رجلًا جاء إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال آلج أو أنلج فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمة له يقال لها روضة، «قولي لهذا يقول السلام عليكم ادخل» فسمعه الرجل فقالها فقال له النبي عليه السلام «ادخل» وروي أن ابن عمر آذته الرمضاء يومًا فأتى فسطاط امرأة من قريش فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فقالت المرأة ادخل بسلام، فأعاد، فأعادت، فقال لها قولي ادخل، فقالت ذلك، فدخل فكأنه توقف لما قالت بسلام لاحتمال اللفظ أن تريد ادخل بسلامك لا بشخصك، ثم لكل قوم في الاستئذان عرفهم في العبارة، وأما ثبوت الرجوع بعد الاستئذان ثلاثًا فلحديث ابي موسى الأشعري الذي استعمله مع عمر وشهد به لأبي موسى أبو سعيد الخدري ثم أبي بن كعب الحديث المشهور، وقال عطاء بن أبي رباح الاستئذان واجب على كل محتلم وسيأتي ذكر هذا، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رسول الرجل إذنه» أي إذا أرسل في أحد فقد أذن له في الدخول وقوله: {ذلكم خير لكم} تم الكلام عنده، وقوله: {لعلكم تذكرون} معناه فعلنا ذلك بكم ونبهناكم {لعلكم} والضمير في قوله: {تجدوا فيها} للبيوت التي هي بيوت الغير، وحكى الطبري عن مجاهد أنه قال معنى قوله: {فإن لم تجدوا فيها أحدًا} إن لم يكن لكم فيها متاع وضعف الطبري هذا التأويل وكذلك هو في غاية الضعف، وكأن مجاهدًا رأى أن البيوت غير المسكونة إنما تدخل دون إذن. إذا كان فيها للداخل متاع، ورأى لفظة المتاع: متاع البيت الذي هو البسط والثياب وهذا كله ضعيف وأسند الطبري عن قتادة أنه قال: قال رجل من المهاجرين لقد طلبت عمري كله هذه الآية فما أدركتها أن أستأذن على بعض إخواني فيقول لي ارجع فأرجع وانا مغتبط لقوله تعالى: {هو أزكى لكم} وقوله تعالى: {والله بما تعملون عليم} توعد لأهل التجسس على البيوت وطلب الدخول على غفلة للمعاصي والنظر إلى ما لا يحل ولغيرهم مما يقع في محظور.
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ}.
روي أن بعض الناس لما نزلت آية الاستئذان تعمق في الأمر فكان لا يأتي موضعًا خربًا ولا مسكونًا إلا سلم واستأذن فنزلت هذه الآية أباح الله فيها رفع الاستئذان في كل بيت لا يسكنه أحد، لأن العلة إنما هي في الاستئذان خوف الكشفة على الحرامات فإذا زالت العلة زال الحكم، ومثل أهل التأويل من هذه البيوت أمثلة فقال محمد بن الحنفية وقتادة ومجاهد هي الفنادق التي في طرق المسافرين، قال مجاهد لا يسكنها أحد بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل و{فيها متاع} لهم أي استمتاع بمنفعتها، ومثل عطاء في بيوت غير مسكونة بالخرب التي يدخلها الإنسان للبول والغائط ففي هذا ايضًا متاع، وقال ابن زيد والشعبي هي حوانيت القيساريات والسوق، وقال الشعبي لأنهم جاؤوا ببيوعهم فجعلوها فيها وقالوا للناس هلم، ع وهذا قول غلط قائله لفظ المتاع، وذلك أن بيوت القيسارية محظورة بأموال الناس غير مباحة لكل من أراد دخولها بإجماع، ولا يدخلها إلا من أُذن له بها، بل أربابها موكلون بدفع الناس عنها، وقال محمد بن الحنفية أيضًا أراد تعالى دور مكة، وهذا على القول بأنها غير متملكة وأن الناس شركاء فيها وأن مكة أخذت عنوة، وهذا هو في هذه المسألة القول الضعيف، يرده قوله عليه السلام «وهل ترك لنا عقيل منزلًا» وقوله: «من دخل دار أبي سفيان» «ومن دخل داره» وغير ذلك من وجوه النظر وباقي الآية بين ظاهره التوعد. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم}.
ذكر أهل التفسير أن سبب نزولها أن امرأة من الانصار جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إني اكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، فلا يزال يدخل علي رجل من أهلي، فنزلت هذه الآية.
فقال ابو بكر بعد نزولها: يا رسول الله، أفرأيت الخانات والمساكن التي ليس فيها ساكن، فنزل قوله: {ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتًا غير مسكونة} الآية.
ومعنى قوله: {لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم} أي: بيوتًا ليست لكم.
واختلف القراء في باء البيوت، فقرأ بعضهم بضمها وبعضهم بكسرها، وقد بينا ذلك في البقرة: 189.
قوله تعالى: {حتى تستأنسوا} قال الفراء: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: حتى تسلموا وتستأنسوا.
قال الزجاج: {وتستأنسوا} في اللغة بمعنى: تستأذنوا وكذلك هو في التفسير، والاستئذان: الاستعلام، تقول: آذنته بكذا، أي: أعلمته، وآنست منه كذا، أي: علمت منه، ومثله: {فإن آنستم منهم رشدًا} [النساء: 6] أي: علمتم.
فمعنى الآية: حتى تستعلموا، يريد أهلها أن تدخلوا ام لا.
قال المفسرون: وصفة الاستعلام أن تقول: السلام عليكم، أأدخل؟ ولا يجوز أن تدخل بيت غيرك إلا بالاستئذان لهذه الآية، {ذلكم خير لكم} من أن تدخلوا بغير إذن {لعلكم تذكرون} أن الاستئذان خير فتأخذون به، قال عطاء: قلت لابن عباس: أستأذن على أمي وأختي ونحن في بيت واحد؟ قال: أيسرُّكَ أن ترى منهن عورة، قلت: لا قال: فاستأذن.
قوله تعالى: {فإن لم تجدوا فيها احدًا} أي: إن وجدتموها خالية، {فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا} أي: إن ردوكم فلا تقفوا على أبوابهم وتلازموها، {هو أزكى لكم} يعني: الرجوع خير لكم وأفضل {والله بما تعملون} من الدخول باذن وغير إذن {عليم}.
فصل:
وهل هذه الآية منسوخة أم لا؟ فيها قولان:
أحدهما: أن حكمها عام في جميع البيوت، ثم نسخت منها البيوت التي ليس لها أهل يستأذنون بقوله تعالى: {ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتًا غير مسكونة} هذا مروي عن الحسن، وعكرمة.
والثاني: أن الآيتين محكمتان، فالاستئذان شرط في الأولى إذا كان للدار أهل، والثانية وردت في بيوت لا ساكن لها، والإذن لا يتصور من غير آذن، فإذا بطل الاستئذان لم تكن البيوت الخالية داخلة في الأولى، وهذا أصح.
قوله تعالى: {أن تدخلوا بيوتًا غير مسكونة} فيها خمسة اقوال.
أحدها: أنها الخانات والبيوت المبنية للسابلة ليأووا إليها، ويؤووا أمتعتهم، قاله قتادة.
والثاني: أنها البيوت الخربة، والمتاع: قضاء الحاجة فيها من الغائط والبول، قاله عطاء.
والثالث: أنها بيوت مكة، قاله محمد بن الحنفية.
والرابع: حوانيت التجار التي بالأسواق، قاله ابن زيد.
والخامس: أنها جميع البيوت التي لا ساكن لها، لأن الاستئذان إنما جعل لأجل الساكن، قاله ابن جريج.
فيخرّج في معنى {المتاع} ثلاثة أقوال.
أحدهما: الأمتعة التي تباع وتشترى.
والثاني: إلقاء الأذى من الغائط والبول.
والثالث: الانتفاع بالبيوت لاتقاء الحر والبرد. اهـ.

.قال القرطبي:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا}.
فيه سبع عشرة مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتًا} لما خصّص الله سبحانه ابن آدم الذي كرّمه وفضّله بالمنازل وسترهم فيها عن الأبصار، وملّكهم الاستمتاع بها على الانفراد، وحجر على الخلق أن يطلعوا على ما فيها من خارج أو يلجوها من غير إذن أربابها، أدّبهم بما يرجع إلى الستر عليهم لئلا يطلع أحد منهم على عَوْرة.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من اطلع في بيت قوم من غير إذنهم حلّ لهم أن يفقئوا عينه» وقد اختلف في تأويله؛ فقال بعض العلماء: ليس هذا على ظاهره، فإن فقأ فعليه الضمان، والخبر منسوخ، وكان قبل نزول قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ} [النحل: 126].
ويحتمل أن يكون خارج على وجه الوعيد لا على وجه الحتم، والخبر إذا كان مخالفًا لكتاب الله تعالى لا يجوز العمل به.
وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتكلم بالكلام في الظاهر وهو يريد شيئًا آخر؛ كما جاء في الخبر أن عباس بن مِرْداس لما مدحه قال لبلال: «قم فاقطع لسانه» وإنما أراد بذلك أن يدفع إليه شيئًا، ولم يرد به القطع في الحقيقة.
وكذلك هذا يحتمل أن يكون ذكر فَقْء العين والمراد أن يعمل به عمل حتى لا ينظر بعد ذلك في بيت غيره.
وقال بعضهم: لا ضمان عليه ولا قصاص؛ وهو الصحيح إن شاء الله تعالى؛ لحديث أنس، على ما يأتي.
الثانية: سبب نزول هذه الآية ما رواه الطبري وغيره عن عَدِيّ بن ثابت أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله، إني أكون في بيتي على حال لا أحِبّ أن يراني عليها أحد، لا والد ولا ولد فيأتي الأب فيدخل عليّ وإنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي وأنا على تلك الحال، فكيف أصنع؟ فنزلت الآية.
فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، أفرأيت الخانات والمساكن في طرق الشام ليس فيها ساكن؛ فأنزل الله تعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} [النور: 92].
الثالثة: مدّ الله سبحانه وتعالى التحريم في دخول بيت ليس هو بيتك إلى غاية هي الاستئناس، وهو الاستئذان.
قال ابن وهب قال مالك: الاستئناس فيما نرى والله أعلم الاستئذان؛ وكذا في قراءة أبَيّ وابن عباس وسعيد بن جُبير {حَتَّى تَسْتَأذِنُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا}.
وقيل: إن معنى {تستأنسوا} تستعلموا؛ أي تستعلموا من في البيت.
قال مجاهد: بالتنحنح أو بأي وجه أمكن، ويتأنّى قدرَ ما يعلم أنه قد شُعِر به، ويدخل إثْر ذلك.
وقال معناه الطبري؛ ومنه قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْدًا}.
[النساء: 6] أي علمتم.
وقال الشاعر:
آنَستْ نَبْأة وأفزعها القَنّ ** ـاص عصرًا وقد دنا الإمساء

قلت: وفي سنن ابن ماجه: حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدّثنا عبد الرحيم بن سليمان عن واصل بن السائب عن أبي سَوْرة عن أبي أيوب الأنصاريّ قال: قلنا: يا رسول الله، هذا السلام، فما الاستئناس؟ قال: «يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة ويتنحنح ويؤذن أهل البيت».
قلت: وهذا نص في أن الاستئناس غير الاستئذان؛ كما قال مجاهد ومن وافقه.
الرابعة: وروي عن ابن عباس وبعض الناس يقول عن سعيد بن جُبير {حتى تَسْتَأْنِسُواْ} خطأ أو وَهَم من الكاتب، إنما هو {حتى تستأذنوا}.
وهذا غير صحيح عن ابن عباس وغيره؛ فإن مصاحف الإسلام كلها قد ثبت فيها {حتى تَسْتَأْنِسُواْ} وصح الإجماع فيها من لَدُن مدّة عثمان، فهي التي لا يجوز خلافها.
وإطلاق الخطأ والوَهَم على الكاتب في لفظ أجمع الصحابة عليه قول لا يصح عن ابن عباس؛ وقد قال عز وجل: {لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 24]، وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
وقد روي عن ابن عباس أن في الكلام تقديمًا وتأخيرًا؛ والمعنى: حتى تسلِّموا على أهلها وتستأنسوا؛ حكاه أبو حاتم.
قال ابن عطية: ومما يَنْفِي هذا القول عن ابن عباس وغيره أن {تستأنسوا} متمكنة في المعنى، بيّنةُ الوجه في كلام العرب.