فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثانية: سواء كان الباب مغلقًا أو مفتوحًا؛ لأن الشرع قد أغلقه بالتحريم للدخول حتى يفتحه الإذن من ربه، بل يجب عليه أن يأتي الباب ويحاول الإذن على صفة لا يطّلع منه على البيت لا في إقباله ولا في انقلابه.
فقد روى علماؤنا عن عمر بن الخطاب أنه قال: من ملا عينيه من قاعة بيت فقد فَسَق.
وروى الصحيح عن سهل بن سعد أن رجلًا اطلع في جُحْرٍ في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مِدْرًى يرجِّل به رأسه؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أعلم أنك تنظر لطَعَنْتُ به في عينك إنما جعل الله الإذن من أجل البصر» وروي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن رجلًا اطلع عليك بغير إذن فخذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح».
الثالثة: إذا ثبت أن الإذن شرط في دخول المنزل فإنه يجوز من الصغير والكبير.
وقد كان أنس بن مالك دون البلوغ يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الصحابة مع أبنائهم وغلمانهم رضي الله عنهم.
وسيأتي لهذا مزيد بيان في آخر السورة إن شاء الله تعالى.
الرابعة: قوله تعالى: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} توعّدٌ لأهل التجسّس على البيوت وطلب الدخول على غفلة للمعاصي والنظر إلى ما لا يحل ولا يجوز، ولغيرهم ممن يقع في محظور.
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)} فيه مسألتان:
الأولى: رُوي أن بعض الناس لما نزلت آية الاستئذان تعمّق في الأمر، فكان لا يأتي موضعًا خَرِبا ولا مسكونا إلا سلّم واستأذن؛ فنزلت هذه الآية، أباح الله تعالى فيها رفع الاستئذان في كل بيت لا يسكنه أحد؛ لأن العلة في الاستئذان إنما هي لأجل خوف الكشفة على الحرمات؛ فإذا زالت العلة زال الحكم.
الثانية: اختلف العلماء في المراد بهذه البيوت؛ فقال محمد بن الحنفيّة وقتادة ومجاهد: هي الفنادق التي في طرق السابلة.
قال مجاهد: لا يسكنها أحد بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل، وفيها متاع لهم؛ أي استمتاع بمنفعتها.
عن محمد بن الحنفية أيضًا أن المراد بها دور مكة؛ ويبيّنه قول مالك.
وهذا على القول بأنها غير متملَّكة، وأن الناس شركاء فيها، وأن مكة أخذت عَنْوة.
وقال ابن زيد والشَّعْبِيّ: هي حوانيت القَيْسَارِيّات.
قال الشعبيّ: لأنهم جاؤوا ببيوعهم فجعلوها فيها، وقالوا للناس هَلُمّ.
وقال عطاء: المراد بها الخِرَب التي يدخلها الناس للبول والغائط؛ ففي هذا أيضًا متاع.
وقال جابر بن زيد: ليس يعني بالمتاع الجهاز، ولكن ما سواه من الحاجة؛ أما منزل ينزله قوم من ليل أو نهار، أو خَرِبة يدخلها لقضاء حاجة، أو دار ينظر إليها، فهذا متاع وكلُّ منافع الدنيا متاع.
قال أبو جعفر النحاس: وهذا شرح حسن من قول إمام من أئمة المسلمين، وهو موافق للغة، والمتاع في كلام العرب: المنفعة؛ ومنه أمتع الله بك.
ومنه {فمتّعُوهنّ}.
قلت: واختاره أيضًا القاضي أبو بكر بن العربيّ وقال: أما من فسّر المتاع بأنه جميع الانتفاع فقد طبّق المفصل وجاء بالفَيْصل، وبيّن أن الداخل فيها إنما هو لما لَه من الانتفاع؛ فالطالب يدخل في الخانكات وهي المدارس لطلب العلم، والساكن يدخل الخانات وهي الفناتق، أي الفنادق، والزَّبون يدخل الدكان للابتياع، والحاقن يدخل الخلاء للحاجة؛ وكلٌّ يؤتى على وجهه من بابه.
وأما قول ابن زيد والشَّعبيّ فقول! وذلك أن بيوت القَيْسَارِيّات محظورة بأموال الناس، غير مباحة لكل من أراد دخولها بإجماع، ولا يدخلها إلا من أذن له ربها، بل أربابها موكَّلون بدفع الناس. اهـ.

.قال أبو حيان:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا}.
جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، فلا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي فنزلت {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا} الآية.
فقال أبو بكر بعد نزولها: يا رسول الله أرأيت الخانات والمساكن التي ليس فيها ساكن فنزل {ليس عليكم جناح} الآية.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أن أهل الإفك إنما وجدوا السبيل إلى بهتانهم من حيث اتفقت الخلوة، فصارت كأنها طريق للتهمة، فأوجب الله تعالى أن لا يدخل المرء بيت غيره إلاّ بعد الاستئذان والسلام، لأن في الدخول لا على هذا الوجه وقوع التهمة وفي ذلك من المضرة ما لا خفاء به.
والظاهر أنه يجوز للإنسان أن يدخل بيت نفسه من غير استئذان ولا سلام لقوله: {غير بيوتكم} ويروى أن رجلًا قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: «أأستأذن على أمي؟ قال: نعم قال: ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: أتحب أن تراها عريانة» قال الرجل: لا، قال: وغيّا النهي عن الدخول بالاستئناس والسلام على أهل تلك البيوت، والظاهر أن الاستئناس هو خلاف الاستيحاش، لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا، فهو كالمستوحش من جفاء الحال إذا أذن له استأنس، فالمعنى حتى يؤذن لكم كقوله: {لا تدخلوا بيوت النبيّ إلا أن يؤذن لكم} وهذا من باب الكنايات والإرداف، لأن هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن فوضع موضع الإذن.
وقد روي عن ابن عباس أنه قال {تستأنسوا} معناه تستأذنوا، ومن روى عن ابن عباس أن قوله: {تستأنسوا} خطأ أو وهم من الكاتب وأنه قرأ حتى تستأذنوا فهو طاعن في الإسلام ملحد في الدين، وابن عباس بريء من هذا القول.
و{تستأنسوا} متمكنة في المعنى بنية الوجه في كلام العرب.
وقد قال عمر للنبيّ صلى الله عليه وسلم: أستأنس يا رسول الله وعمر وأقف على باب الغرفة الحديث المشهور.
وذلك يقتضي أنه طلب الأنس به صلى الله عليه وسلم.
وقيل: هو من الاستئناس الذي هو الاستعلام والاستكشاف، استفعال من أنس الشيء إذا أبصره ظاهرًا مكشوفًا، والمعنى حتى تستعلموا وتستكشفوا الحال هل يراد دخولكم أم لا، ومنه استأنس هل ترى أحدًا واستأنست فلم أر أحدًا، أي تعرفت واستعلمت ومنه بيت النابعة:
كان رحلى وقد زال النهار بنا ** وم الجليل على مستأنس وحد

ويجوز أن يكون من الإنس وهو أن يتعرف هل ثم إنسان.
وعن أبي أيوب قال: قلنا: يا رسول الله، ما الاستئناس؟ قال: «يتكلم الرجل بالتسبيحة والتكبيرة يتنحنح يؤذن أهل البيت والتسليم أن يقول السلام عليكم».
وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتًا غير بيته: حييتم صباحًا وحييتم مساء ثم يدخل، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف.
واحد فصدّ الله عن ذلك وعلم الأحسن الأكمل.
وذهب الطبري في {تستأنسوا} إلى أنه بمعنى حتى تؤنسوا أهل البيت من أنفسكم بالتنحنح والاستئذان ونحوه وتؤنسوا أنفسكم بأن تعلموا أن قد شُعر بكم.
قال ابن عطية: وتصريف الفعل يأبى أن يكون من آنس انتهى.
وقال عطاء: الاستئذان واجب على كل محتلم، والظاهر مطلق الاستئذان فيكفي فيه المرة الواحدة.
وفي الحديث: «الاستئذان ثلاث» يعني كماله.
«فإن أذن له وإلاّ فليرجع ولا يزيد على ثلاث إلاّ أن يحقق أن من في البيت لم يسمع» والظاهر تقديم الاستئذان على السلام.
وفي حديث أبي داود: قل السلام عليكم أأدخل؟ والواو في {وتسلموا} لا تقتضي ترتيبًا فشرع النداء بالسلام على الإذن لما في السلام من التفاؤل بالسلامة.
{ذلكم} إشارة إلى المصدر المفهوم من {تستأنسوا} و{تسلموا} أي {ذلكم} الاستئناس والتسليم {خير لكم} من تحية الجاهلية.
{لعلكم تذكرون} أي شرَّعنا ذلك ونبهناكم على ما فيه مصلحتكم من الستر وعدم الاطلاع على ما تكرهون الإطلاع عليه {لعلكم تذكرون} اعتناء بمصالحكم.
{فإن لم تجدوا فيها أحدًا} أي يأذن لكم فلا تقدموا على الدخول في ملك غيركم {حتى يؤذن لكم} إذ قد يكون لرب البيت فيه ما لا يحب أن يطلع عليه.
{وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا} وهذا عائد إلى من استأذن في دخول بيت غيره فلم يؤذن له سواء كان فيه من يأذن أم لم يكن، أي لا تلحوا في طلب الإذن ولا في الوقوف على الباب منتظرين.
{هو أزكى} أي الرجوع أطهر لكم وأنمى خيرًا لما فيه من سلامة الصدر والبعد عن الريبة.
ثم أخبر أنه تعالى {بما تعملون عليم} أي بما تأتون وما تذرون مما خوطبتم به فيجازيكم عليه، وفي ذلك توعد لأهل التجسس على البيوت وطلب الدخول على غيره والنظر لما لا يحل.
{ليس عليكم جناح} قال الزمخشري: استثنى من البيوت التي يجب الاستئذان على داخلها ما ليس بمسكون منها نحو الفنادق وهي الخانات والربط وحوانيت البياعين، والمتاع المنفعة كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الرحال والسلع والشراء والبيع انتهى.
وما ذكره الزمخشري من أنه استثناء من البيوت كما ذكر هو مروي عن ابن عباس وعكرمة والحسن، ولا يظهر أنه استثناء لأن الآية الأولى في البيوت المسكونة والمملوكة، ولذلك قال {بيوتًا غير بيوتكم} وهذا الآية الثانية هي في البيوت المباحة، وقد مثل العلماء لهذه البيوت أمثلة.
فقال محمد بن الحنفية وقتادة ومجاهد: هي في الفنادق التي في طرق المسافرين.
قال مجاهد: لا يسكنها أحد بل هي موقوفة يأوي إليها كل ابن سبيل.
و{فيها متاع} لهم أي استمتاع بمنفعتها، ومثل عطاء بالخرب التي تدخل للتبرز.
وقال ابن زيد والشعبي: هي حوانيت القيسارية والسوق.
قال ابن الحنيفة أيضًا: هي دور مكة، وهذا لا يسوغ إلا على القول بأن دور مكة غير مملوكة، وأن الناس فيها شركاء وأن مكة فتحت عنوة.
{والله يعلم ما تبدون وما تكتمون} وعيد للذين يدخلون البيوت غير المسكونة من أهل الريب. اهـ.

.قال أبو السعود:

{يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ}.
إثرَ ما فُصل الزَّواجرُ عن الزِّنا وعن رميِ العفائف عنه شُرع في تفصيل الزَّواجر عمَّا عسى يُؤدِّي إلى أحدهما من مُخالطة الرِّجالِ بالنِّساءِ ودخولِهم عليهنَّ في أوقات الخلوات وتعليمِ الآدابِ الجميلة والأفاعيل المرضيَّة المستتبعة لسعادةِ الدَّارين ووصف البيوت بمغايرة بيوتِهم خارجٌ مخرجَ العادة التي هي سُكنى كلِّ أحدٍ في ملكه وإلا فالمآجر والمُعير أيضاٌ منهيَّانِ عن الدُّخول بغير إذنٍ. وقرئ بِيوتًا غيرَ بِيوتكم بكسرِ الباءِ لإجلِ الياءِ {حتى تَسْتَأْنِسُواْ} أي تستأذنوا مَن يملكُ الإذن من أصحابها من الاستئناس بمعنى الاستعلام من آنس الشيء إذا أبصره فإن المستأنس مستعلم للحال مستكشف أنه هل يؤذن له أو من الاستئناس الذي هو خلاف الاستيحاشس لما أن المستأذن مستوحش خائف أن لا يؤذن له فإذا أذن له استأنس {وَتُسَلّمُواْ على أَهْلِهَا} عند الاستئذان. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن التسليم أن يقول: السلام عليكم، أأدخل؟ ثلاث مرات فإن أذن له دخل وإلا رجع {ذلكم} أي الاستئذان مع التسليم {خَيْرٌ لَّكُمْ} من أن تدخلوا بغتة أو على تحية الجاهلية حيث كان الرجل منهم إذا أراد أن يدخل بيتًا غير بيته يقول: حييتم صباحًا حييتم مساء فيدخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف. وروي أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «أستأذن على أمي؟ قال: نعم قال: ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كُلَّما دخلتُ؟ قالَ صلى الله عليه وسلم: أتحب أن تراها عريانة؟» قال: لا. قال صلى الله عليه وسلم: «فاستأذن» {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} متعلق بمضمر أي أمرتم به أو قيل لكم هذا كي تتذكروا وتتعظوا وتعملوا بموجبه.