فصل: قال الشوكاني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وجىء بإنما لمزيد الاعتناء لا للحصر وقد صرحوا بمجىء إنما لذلك فلا تغفل؛ ثم اعلم أن الاستئذان والتسليم متغايران لكن ظاهر بعض الأخبار يقتضي أن الاستئذان داخل في التسليم كما أن بعضها يقتضي مغايرته له وعدم دخوله فيه، ووجه جعله من التسليم أنه بدونه كالعدم لما أن السنة فيه أن يقرن بالتسليم.
هذا وفي مصحف عبد الله كما أخرج ابن جرير وغيره عن إبراهيم {حتى} {يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر ذلكم} إشارة على ما قيل إلى الدخول بالاستئذان والتسليم المفهوم من الكلام، وقيل: إشارة إلى المذكور في ضمن الفعلين المغيابهما أي الاستئذان والتسليم {خَيْرٌ لَّكُمْ} من الدخول بغتة والدخول على تحية الجاهلية، فقد كان الرجل منهم إذا أراد أن يدخل بيتًا غير بيته يقول: حييتم صباحًا حييتم مساءً فيدخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف، وخيرية المفضل عليه قيل على زعمهم لما في الانتظار من المذلة ولعدم تحية الجاهلية حسنة كما هو عادة الناس اليوم في قولهم: صباح الخير ومساء الخير، ولعل الأولى أن يقال: إن ذلك من قبيل الخل أحلى من العسل.
وجوز أن يكون {خَيْرٌ} صفة فلا تقدير، وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} تعليل على ما اختاره جمع لمحذوف أي أرشدتم إلى ذلك أو قيل لكم هذا كي تتذكروا وتتعظوا وتعملوا بموجبه.
{فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا أَحَدًا} بأن كانت خالية من الأهل {فَلاَ تَدْخُلُوهَا} واصبروا {حتى يُؤْذَنَ لَكُمُ} من جهة من يملك الإذن عند وجدانكم إياه، ووجه ذلك أن الدخول في البيوت الخالية من غير إذن سبب للقيل والقال، وفيه تصرف بملك الغير بغير رضاه وهو يشبه الغصب، وهذه الآية لبيان حكم البيوت الخالية عن أهلها كما أن الآية الأولى لبيان حكم البيوت التي فيها أهلها.
وجوز أن تكون هذه تأكيدًا لأمر الاستئناس وأنه لابد منه والأمر دائر عليه، والمعنى فإن لم تجدوا فيها أحدًا من الآذنين أي ممن يملك الإذن فلا تدخلوها الخ ويفيد هذا حرمة دخول ما فيه من لا يملك الإذن كعبد وصبي من دون إذن من يملكه، ومن اختار الأول قال: إن حرمة ما ذكر ثابتة بدلالة النص فتأمل.
وقال سبحانه: {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ} إلى آخره دون فإن لم يكن فيها أحد لأن المعتبر وجد أنها خالية من الأهل مطلقًا أو ممن يملك الإذن سواء كان فيها أحد في الواقع أم لم يكن كذا قيل: وعليه فالمراد من قولهم في تفسير ذلك، بأن كانت خالية كونها خالية بحسب الاعتقاد، وكذا يقال في نظيره فلا تغفل، ثم أن ما أفادته الآيتان من الحكم قد خصصه الشرع فجوز الدخول لإزالة منكر توقفت على الدخول من غير إذن أهل البيت والدخول في البيت الخالي لإطفاء حريق فيه أو نحو ذلك.
وقد ذكر الفقهاء الصور التي فيها الدخول من غير إذن ممن يملك الإذن فلتراجع، وقيل: المراد بالإذن في قوله سبحانه: {حتى يُؤْذَنَ لَكُمُ} ما يعم الإذن دلالة وشرعًا ولذا وقع بصيغة المجهول وحينئذٍ لا حاجة إلى القول بالتخصيص وفيه خفاء {وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا} أي إن أمرتم من جهة أهل البيت بالرجوع سواء كان الآمر من يملك الإذن أم لا فارجعوا ولا تلحوا {هُوَ} أي الرجوع {أزكى لَكُمْ} أي أطهر مما لا يخلو عنه اللج والعناد والوقوف على الأبواب بعد القول المذكور من دنس الدناءة والرذالة أو أنفع لدينكم ودنياكم على أن {أزكى} من الزكاة بمعنى النمو.
والظاهر أن صيغة أفعل في الوجهين للمبالغة، وقيدنا الوقوف على الأبواب بما سمعت لأنه ليس فيه دناءة مطلقًا، فقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يأتي دور الأنصار لطلب الحديث فيقعد على الباب ولا يستأذن حتى يخرج إليه الرجل فإذا خرج ورآه قال: يا ابن عم رسول الله لو أخبرتني بمكانك فيقول: هكذا أمرنا أن نطلب العلم، وكأنه رضي الله تعالى عنه عغد ذلك من التواضع وهو من أقوى أسباب الفتوح لطالب العلم، وقد أعطاني الله عز وجل نصيبًا وافيًا منه فكنت أكثر التلامذة تواضعًا وخدمة للمشايخ والحمد لله تعالى على ذلك {والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} فيعلم ما تأتون وما تذرون مما كلمتموه فيجازيكم عليه.
{لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ} أي بغير استئذان {بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} أي موضوعة لسكنى طائفة مخصوصة فقط بل ليتمتع بها من يحتاج إليها كائنًا من كان من غير أن يتخذها سكنًا كالربط والخانات والحوانيت والحمامات وغيرها فإنها معدة لمصالح الناس كافة كما ينبىء عنه قوله تعالى: {فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ} فإنه صفة للبيوت أو استئناف جار مجرى التعليل لنفي الجناح أي فيها حق تمتع لكم كالاستكنان من الحر والبرد وايواء الأمتعة والرحال والشراء والبيع والاغتسال وغيرها مما يليق بحال البيوت وداخليها فلا بأس بدخولها بغير استئذان من داخليها من قبل ولا ممن يتولى أمرها ويقوم بتدبيرها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنه لما نزل قوله تعالى: {رَّقِيبًا يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ} [النور: 27] الخ قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله فكيف بتجار قريش الذين يختلفون من مكة والمدينة والشام وبيت المقدس ولهم بيوت معلومة على الطريق فكيف يستأذنون ويسلمون وليس فيها سكان؟ فرخص سبحانه في ذلك فأنزل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ} الخ، وعنى الصديق رضي الله تعالى عنه بالبيوت المعلومة الخانات التي في الطرق وهي في الآية أعم من ذلك، ولا عبرة بخصوص السبب فما روي عن ابن جبير ومحمد بن النفية والضحاك وغيرهم من تفسيرها فيها بذلك من باب التمثيل، وكذا ما أخرجه جماعة عن عطاء وعبد بن حميد وإبراهيم النخعي أنها البيوت الهربة التي تدخل للتبرز، وأما ما روي عن ابن الحنفية أيضًا من أنها دور مكة فهو من باب التمثيل أيضًا لكن صحة ذلك مبنية على القول بأن دور مكة غير مملوكة والناس فيها شركاء وقد علمت ما في المسألة من الخلاف.
وأخرج أبو داود في الناسخ وابن جرير عن ابن عباس أن قوله سبحانه {يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ على أَهْلِهَا} [النور: 27] قد نسخ بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} الخ واستثنى منه البيوت الغير المسكونة، وروي حديث الاستثناء عكرمة والحسن وهو الذي يقتضيه ظاهر خبر مقاتل وإليه ذهب الزمخشري وتعقبه أبو حيان أن لا يظهر ذلك لأن الآية الأولى في البيوت المملوكة والمسكونة وهذه الآية في البيوت المباحة التي لا اختصاص لها بواحد دون واحد.
والذي يقتضيه النظر الجليل أن البيوت فيما تقدم أعم من هذه البيوت فيكون ما ذكر تخصيصًا لذلك وهو المعنى بالاستثناء فتدبر ولا تغفل.
{والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} وعيد لمن يدخل مدخلًا من هذه المداخل لفساد أو اطلاع على عورات. اهـ.

.قال الشوكاني:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا}.
لما فرغ سبحانه من ذكر الزجر عن الزنا والقذف، شرع في ذكر الزجر عن دخول البيوت بغير استئذان لما في ذلك من مخالطة الرجال بالنساء، فربما يؤدّي إلى أحد الأمرين المذكورين، وأيضًا: إن الإنسان يكون في بيته، ومكان خلوته على حالة قد لا يحبّ أن يراه عليها غيره، فنهى الله سبحانه عن دخول بيوت الغير إلى غاية، هي قوله: {حتى تَسْتَأْنِسُواْ} والاستئناس: الاستعلام، والاستخبار أي: حتى تستعلموا من في البيت، والمعنى: حتى تعلموا أن صاحب البيت قد علم بكم، وتعلموا أنه قد أذن بدخولكم، فإذا علمتم ذلك دخلتم، ومنه قوله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْدا} [النساء: 6] أي: علمتم.
قال الخليل: الاستئناس الاستكشاف، من أنس الشيء إذا أبصره كقوله: {إِنّي آنَسْتُ نَارًا} [طه: 10] أي: أبصرت.
وقال ابن جرير: إنه بمعنى: وتؤنسوا أنفسكم.
قال ابن عطية: وتصريف الفعل يأبى أن يكون من أنس.
ومعنى كلام ابن جرير هذا: أنه من الاستئناس الذي هو خلاف الاستيحاش، لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا؟ فهو: كالمستوحش حتى يؤذن له، فإذا أذن له استأنس، فنهى سبحانه عن دخول تلك البيوت حتى يؤذن للداخل.
وقيل: هو من الإنس، وهو: يتعرّف هل ثم إنسان أم لا؟ وقيل: معنى الاستئناس: الاستئذان، أي: لا تدخلوها حتى تستأذنوا.
قال الواحدي: قال جماعة المفسرين: حتى تستأذنوا، ويؤيده ما حكاه القرطبي عن ابن عباس، وأبيّ، وسعيد بن جبير: أنهم قرءوا {حتى تستأذنوا} قال مالك فيما حكاه عنه ابن وهب: الاستئناس فيما يرى، والله أعلم: الاستئذان، وقوله: {وَتُسَلّمُواْ على أَهْلِهَا} قد بينه النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي بأن يقول: «السلام عليكم أأدخل؟» مرّة، أو ثلاثًا كما سيأتي.
واختلفوا هل يقدّم الاستئذان على السلام، أو العكس، فقيل: يقدّم الاستئذان، فيقول: أدخل؟ سلام عليكم، لتقديم الاستئناس في الآية على السلام.
وقال الأكثرون: إنه يقدّم السلام على الاستئذان فيقول: السلام عليكم، أدخل؟ وهو الحقّ، لأن البيان منه صلى الله عليه وسلم للآية كان هكذا.
وقيل: إن وقع بصره على إنسان قدّم السلام، وإلاّ قدّم الاستئذان {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ} الإشارة إلى الاستئناس، والتسليم أي: دخولكم مع الاستئذان، والسلام خير لكم من الدخول بغتة {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أن الاستئذان خير لكم، وهذه الجملة متعلقة بمقدّر أي: أمرتم بالاستئذان، والمراد بالتذكر الاتعاظ، والعمل بما أمروا به {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا أَحَدًا فَلاَ تَدْخُلُوهَا حتى يُؤْذَنَ لَكُمُ} أي: إن لم تجدوا في البيوت التي لغيركم أحدًا ممن يستأذن عليه فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم بدخولها من جهة من يملك الإذن.
وحكى ابن جرير عن مجاهد أنه قال: معنى الآية فإن لم تجدوا فيها أحدًا، أي: لم يكن لكم فيها متاع، وضعفه، وهو حقيق بالضعف؛ فإن المراد بالأحد المذكور: أهل البيوت الذين يأذنون للغير بدخولها، لا متاع الداخلين إليها {وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا} أي: إن قال لكم أهل البيت: ارجعوا، فارجعوا، ولا تعاودوهم بالاستئذان مرّة أخرى، ولا تنتظروا بعد ذلك أن يأذنوا لكم بعد أمرهم لكم بالرجوع.
ثم بين سبحانه: أن الرجوع أفضل من الإلحاح، وتكرار الاستئذان، والقعود على الباب فقال: {هُوَ أزكى لَكُمْ} أي: أفضل {وَأَطْهَرُ} من التدنس بالمشاحة على الدخول لما في ذلك من سلامة الصدر، والبعد من الريبة، والفرار من الدناءة {والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} لا تخفى عليه من أعمالكم خافية {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ} أي: لا جناح عليكم في الدخول بغير استئذان إلى البيوت التي ليست بمسكونة.
وقد اختلف الناس في المراد بهذه البيوت، فقال محمد بن الحنفية، وقتادة ومجاهد: هي الفنادق التي في الطرق السابلة الموضوعة لابن السبيل يأوي إليها.
وقال ابن زيد، والشعبي: هي حوانيت القيساريات، قال الشعبي: لأنهم جاءوا ببيوعهم، فجعلوها فيها، وقالوا: للناس هلمّ.
وقال عطاء: المراد بها الخرب التي يدخلها الناس للبول، والغائط، ففي هذا أيضًا متاع.
وقيل: هي بيوت مكة.
روي ذلك عن محمد ابن الحنفية أيضًا، وهو موافق لقول من قال: إن الناس شركاء فيها، ولكن قد قيد سبحانه هذه البيوت المذكورة هنا بأنها غير مسكونة.
والمتاع: المنفعة عند أهل اللغة، فيكون معنى الآية: فيها منفعة لكم، ومنه قوله: {وَمَتّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] وقولهم: أمتع الله بك، وقد فسر الشعبي المتاع في كلامه المتقدّم بالأعيان التي تباع.
قال جابر بن زيد: وليس المراد بالمتاع الجهاز، ولكن ما سواه من الحاجة.
قال النحاس: وهو حسن موافق للغة {والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} أي: ما تظهرون وما تخفون، وفيه وعيد لمن لم يتأدّب بآداب الله في دخول بيوت الغير.
وقد أخرج الفريابي، وابن جرير من طريق عديّ بن ثابت عن رجل من الأنصار قال: قالت امرأة: يا رسول الله إني أكون في بيتي على الحالة التي لا أحبّ أن يراني عليها أحد: ولد ولا والد، فيأتيني الأب فيدخل عليّ، فكيف أصنع؟ ولفظ ابن جرير: وإنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي، وأنا على تلك الحالة، فنزلت {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} الآية.
وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في المصاحف، وابن منده في غرائب شعبة، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب، والضياء في المختارة من طرق عن ابن عباس في قوله: {حتى تَسْتَأْنِسُواْ} قال: أخطأ الكاتب {حتى تستأذنوا} {وَتُسَلّمُواْ على أَهْلِهَا}.